الفن الإسلامي ميزته وخصائصه

بقلم: عبد الرحمن الهدوي

الإسلام هو الدين الوحيد الذي لا يرضى الله لعباده غيره -لا يخرج عن إطاره كل ما كان وما يكون- يشمل جميع حقائق الكون وجوانبه «وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر»، له نظرة دقيقة وفكرة عميقة ليس فيما يتعلق بالإنسان فقط، بل في كل ما يتعلق بالخالق والخلق، فتصوره أقوى وأشمل وأرفع من جميع التصورات المادية الأخرى التي تقتصر نظرياتها في بعض الحقائق والجوانب والمواضع، لضعف أصلها وركاكة مصدرها لأنها مبنية على أسس واهية، ومنتمية إلى أشخاص تحيرت عقولهم أمام حقيقة الكون وكنه الحياة، فتخبطوا خبط عشواء وركبوا متن عمياء.
صلة الدين بالفن:
الفن في أشكاله المختلفة يحتل في الإسلام درجة عالية ورتبة شامخة، لأن الإسلام يحب الجمال والإبداع ويقوي أصحابه، ولا أنكر أن هناك بعض الناس ممن عميت عليهم الأنباء يشكون ويشككون في هذا الأمر يقولون: ما صلة الدين –خصوصا الإسلام– بالفن؟! إذا كان الفن إسلاميا هل يكون من الخطب والمواعظ والإرشادات؟!! هذه الإشكالات لا تمت بالحق بأية صلة. لأن الدين في حقيقة النفس يلتقي بالفن فكلاهما انطلاق من عالم الضرورة، وكلاهما ثورة على آلية الفن، ولا معارضة ولا مناقشة بينهما إذا وجه كل منهما إلى الحق والخير.
ثم ما هو الفن ومن يكون الفنان؟ نقتصر في الجواب على ما قاله الأديب البارع والمفكر القدير محمد قطب في كتابه ’منهج الفن الإسلامي›: “الفن هو محاولة البشر لتصوير الإيقاع الذي يتلقونه في حسهم من حقائق الوجود في صورة جميلة مؤثرة، والفنان شخص موهوب ذو حساسية خاصة تستطيع أن تلتقط الإيقاعات الخفية اللطيفة، التي لا تدركها الأجهزة الأخرى في الناس العاديين، وذو قدرة تعبيرية خاصة تستطيع أن تحول هذه الإيقاعات التي يتلقيها حسه مكبرة مضخمة إلى لون من الأداء الجميل، يثير في النفس الانفعال ويحرك فيها حاسة الجمال «يدرك الفنان الأشياء في صورتها الأصلية كالآخرين، ولكن يبرزها في صورة حية حساسة تمتع السامعين وتستجلب أعين الناظرين فهو في مسيره يعمل كجهاز الاستقبال اللاسلكي الدقيق الذي يقبل الموجات الدقيقة ثم يحولها إلى صوت ونغم صاف جميل يهز الأسماع».
وهذا العمل الدقيق الفذ للفنان يعتمد على تصوره الحقائق الكونية والوجودية في صورة جميلة صادقة ينظر إلى جميعها بعين الصدق والإنصاف ويبرز جمالها وقوتها، وإذا كان عمل الفن تصوير الحقائق الوجودية، نرى أن الفن الإسلامي يفوز في مضمار السبق ويحل في الدرجة الأولى، لأنه يشمل جميع حقائق الكون من مبدأه إلى منتهاه، فهو أرفع فن يستطيع أن تنتجه البشرية.
طبيعة التصور الإسلامي
الفن الإسلامي يعتمد على التصور الإسلامي للوجود والكون والإنسان، وليس في العالم تصور أشمل وأرفع من هذا التصور، هو يبدأ من الحقيقة الإلهية التي يصدر عنها الوجود كله ثم يسير مع هذا الوجود في كل صوره وأشكاله، ويعني عناية خاصة بالإنسان خليفة الله في الأرض فيعطيه مساحة واسعة من الصورة، ثم يعود بالوجود مرة أخرى إلى الحقيقة الإلهية التي صدر عنها، فمبدأه ومنتهاه من رب خالق الكون وإليه… وهل في العالم شيء أو حقيقة خرج عن دائرة علمه وقدرته؟! وهذا التصور الدقيق الصحيح لا يمنع الفنان من إدراك مواضع الجمال والقوة في الأشياء، بل يدفعه إلى إمعان النظر والفكر، وإبراز مواضع التأثر والتأثير فيها… يقول الأستاذ محمد قطب: «التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان هو أشمل تصور عرفته البشرية حتى اليوم،إنه التصور الذي لا يأخذ جانبا في الوجود ويدع جانبا آخر، وإنما يأخذ الوجود كله بمادياته وروحانياته ومعنوياته وكل كائناته»
التصورات المادية الأخرى تعتمد على حقائق جافة وعقائد غامضة متطرفة لا تنتج إلا بضاعة بخسة لا تربح «والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا» لأن نظرتها في الكون والحياة والإنسان مقتصرة ومقصورة على الأوهام والخيالات الباطلة، فلم تسلم في مسيرها من التطرف… أخذت جانبا وأبرزه في صور مخيلة ومنمقة لا تسمن ولا تغني من جوع، وطرحت جانبا في زاوية الإهمال… قبلت الجسد والشبح وأهملت الهوية والروح.
ميزات التصور الإسلامي:
هنا نبحث عن بعض خصائص التصور الإسلامي… مثلا التصور الإسلامي للإنسان يفوق جميع التصورات المادية له، لأن الإنسان في التصور الإسلامي مجموع عنصرين مختلفين اجتمعا في كيان واحد، قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله، تجتمع فيه في وقت واحد رغائب الأرض وضروراتها وإشراقة الروح الصافية وقوة الوعي المدركة، ينتاب فيه القوة والضعف بقدر هذين العنصرين المختلفين، وإذا صورنا الإنسان على هذا المعيار الصحيح لا نخطئ ولا نتجاوز الحد المرسومة له.
وهذا التصور يخالف تماما للتصور الإغريقي الذي يصور الإنسان كيانا مثل الآلهة مع غاية التصادم والهجوم فيما بينهم، والتصور الدارويني والفرويدي الذي يجعل الإنسان مجرد حيوان مادي يشارك مع البهائم في الضعف والقوة.
النظرة الإغريقية في الإنسان نظرة التصادم والتخالف فيما بينه وبين الآلهة، يصطدم الإنسان مع الآلهة ويحتال عليه لنيل غايته، كما في الميثولوجيا الإغريقي أن بروميثيوس العملاق سرق النيران من جبل أوليمبس في غفلة من زيوس الإله وغضب عليه زيوس وقيده وعذبه أشد العذاب، وفي النظرة الفرويدية الحديثة يجعل الإنسان شبحا مجردا من روحه وهويته الإيمانية ويعامل معاملة البهائم.
توجد حرارة الفن عندما تنعكس فيه العواطف البشرية على وجه الشمول والعمق، ولكن من الأسف البالغ أن الأدباء الغربيين والأدباء العربيين الحداثيين يرون لونا واحدا من العواطف البشرية يغلب على الفنون كلها، وهو عاطف الجنس، وهم يقصرون الحب والجمال في الجنسية فقط، والتصور الإسلامي يخالف هذه الفكرة العاتية والنظرة القاصرة تماما لا يقصر الحب والجمال في الجنسية فقط –مع أن الجنس في نظر الإسلام حقيقة مهمة عميقة أصيلة– بل يطير إلى منابع الحب والجمال مما يرى في العالم وما لا يرى منه.
والجنس في نظر الإسلام حقيقة مهمة لا تنكر، والقرءان خير شاهد على ذلك حيث إن الله سبحانه وتعالى جعل جميع المكونات أزواجا «وخلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها»، وأيدهما بالألفة والمحبة والشفقة والتودد، لكن الحب أو الجمال ليس مقصورا في الجنسية فقط، ألا تنظر إلى السماوات والأرض والجبال والقمر والنجوم من المظاهر الكونية التي تدل على قدرة الله وحكمته، وترى فيه آيات الحب والجمال؟! هذا النظام يقتضي موازنة الكيان البشري كله في داخل النفس وفي واقع الحياة… يقتضي في داخل النفس ألا يصبح الإنسان جسدا وحده أو عقلا وحده أو روحا بمفردها بل كيانا ينظم كل هؤلاء.
ومسألة القدر أيضا مما تؤكد شمول هذا التصور الصحيح… الفنون البشرية منذ القدم تعالج أمر القدر في الشعر والقصة والأقصوصة والمسرحية، ولكن في معظم الأحوال في ثوبه الفاجع العنيف، لأن مسألة القدر عند غير المسلمين مسألة الصراع الطويل بين الإنسان والآلهة، عندما ينجح الإنسان كما في التصور الإغريقي يبقى الإله مذموما ومدحورا، وعندما ينجح الإله كما في التصورات الحديثة- يطرد الإنسان إلى قعر المأساة والفجعة ولكن التصور الإسلامي للقدر واسع محيط، حيث يصور القدر إرادة الله المسيطرة على الكون والحياة والإنسان، والمسيطرة على كل دقيقة من الدقائق.
فالتصور الإسلامي مبني على عقيدة صافية في الله… المؤمن لا يجزع ولا يقلق ولا يضطرب لما يترقبه من قضاء الله، لأنه قد سلم أمره إلى الله واطمأن إلى إرادته فيه، وإلى أنه لا يريد له في النهاية إلا الخير.
يصطدم التصور الإسلامي مباشرا التصور الغربي الحديث في واقعة الفن أيضا، لأن الاتجاهات الواقعية الحديثة على اختلاف ما بينها في الجزئيات تستمد من النظرة المادية الحيوانية للإنسان، القائمة بدورها على الداروينية القديمة، وهذا لا يتفق مع نظرة الإسلام للإنسان بأنه خليفة في الأرض، تتجلى فيه إشراقة النور التجلي الإلهي المميز من سائر الحيوانات بالعقل الفارق بين الصحيح والفاسد والصالح والطالح.
يقول الأستاذ محمد قطب: “إن الواقعية الإسلامية تختلف عن هذه الواقعية البائسة (الواقعية الغربية الحديثة) في نقطتين أساسيتين:
أولا: في طبيعة تصورها للإنسان وموقفها من الله والكون والإنسان.
ثانيا: في طريقة تسجيلها «للقطات» البشرية التي تختارها للتعبير الفني.
مكانة القرءان في الفن الإسلامي
القرءان الكريم خير دليل إلى الفن الإسلامي وخير شاهد على طريقه، نرى كيف صور الله المشاهد الطبيعية فيه، وبين قصص الأنبياء والأمم الخالية التي تذكر البشرية آلاؤه وأيامه في الأرض، وسرد مشاهد القيمة وأحوال الجنة والنار مما تقشعر منه جلود الإنسان ويلين قلبه إلى ذكر ربه… فالفن الإسلامي في حاجة ماسة لأن يراجع القرءان.
القرآ ن يعرض تصورا كاملا للكون والحياة والإنسان لا يعرضه كتاب آخر في الأرض، بمثل هذا الشمول والإحاطة، وبمثل هذا الوضوح والسهولة، ويضم نماذج من الأعراض الفنية والأداء الفني ما لا يوجد له مثيل في الكتب الأخرى.
كان الأدب الفني قليلا في صدر الإسلام بالنسبة إلى العصر الجاهلي، لأن الصحابة وقعوا مبهورين أمام بلاغة القرءان وإعجازه، فاشتغلوا به ولازموه ولكن المسلمين حين عادوا إلى التعبير بعد ذلك الفترة المؤقتة، لم يلجؤوا إلى الرصيد الجديد يستمدون من القرءان مشاعرهم وأعراض تعبيرهم وطرائقه على السواء.
وهذه الكارثة، الإعراض عن منهج القرءان، قد فشت اليوم في أبشع صورها، إن أدباءنا قد نبذوا القرءان وراء ظهورهم يميلون إلى الأدب الغربي، يستمدون منه في منتجاتهم، اقتبسوا مناهجه وأفكاره وطرائقه التعبيرية، فصاروا منسلخين من كل موروثاتهم الفكرية والروحية والأيدولوجية ، لأنهم ظنوه حملا يعوقهم عن الانطلاق،وقيدا يعثر خطواتهم في الطريق حتى انسلخوا أخيرا من ذاتيتهم وكيانهم وأصبحوا بلا كيان….