فلسفة الإمام الغزالي: التعايش السلمي البديع بين العقل والنقل

بقلم: شمير علي الهدوي

لو كان العلم (بالحقيقة) متعلقا بالثريا لناله رجل من فارس، الحديث النبوي، كان الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله عبقرية عملاقة أضفت تعبيرا أصدق لهذه البشارة النبوية الموجهة بمضمونها إلى البحث  السقراطي (Socratic Search) من أجل استخلاص الحق وتمحيص الحقائق.

قلما يوجد على صعيد التاريخ بطل عقلاني تركت أصالته الفكرية بصمة أقوى على مسار أمم وحضارات يشع بأنواره المتخطية لقيود الزمان والمكان ليستغرق بنتاجه الفكري جوانب الوجود والحياة المتعددة كالإمام الغزالي رحمه الله. ولقد صور الشيخ الأكبر مصطفى المراغي هذه الحقيقة بعبارة شيقة، “إذا ذكر ابن سينا أو الفارابي خطر بالبال فيلسوفان عظيمان، وإذا ابن العربي رحمه الله خطر بالبال رجل صوفي له في التصوف آراء لها خطورتها، وإذا ذكر البخاري ومسلم وأحمد رضي الله عنهم خطر بالبال رجال لهم أقدارهم في الحفظ والصدق والأمانة والدقة ومعرفة الرجال، أما إذا ذكر الغزالي رحمه الله تشعبت النواحى ولم يخطر بالبال رجل واحد، بل خطر بالبال رجال معدودون لكل واحد قيمته وقدرته يخطر بالبال الغزالي الأصولي الماهر والغزالي الفقيه الحر والغزالي المتكلم إمام أهل السنة وحامى حماها، والغزالي الاجتماعي الخبير بأحوال العالم وخفيات الضمائر ومكونات القلوب والغزالي الفيلسوف أو الذي ناهض الفلسفة وكشف عما فيها من زخرف وزيف والغزالي المربي والغزالي الصوفي الزاهد…. وإن شئت فقل…. يخطر بالبال رجل هو دائرة معارف عصره.

والأستاذ عباس محمود العقاد أحد عمالقة الفلاسفة في العصر الحديث يعد الإمام كأكبر فيلسوف عرفته البشرية على وجه المعمورة ويقول: “ولا يعرف من مفكري المشرق ولا المغرب من هو أتم منه أداة ولا من هو أقدر منه على محو مألوفاته في هذا الضرب من التفكير.”

الباحث عن الحقيقة

كانت حياة الإمام الغزالي رحمه الله مفعمة بمغامرات جارئة حاول من خلالها اكتشاف السر المكنون في ألغاز الوجود والكون مما يؤكد سعيه الحثيث للاستقلالية بالمفهوم الكانطي المعاصر. لم يدع الإمام مذهبا ولا نحلة ولا فلسفة إلا وسبر أغوارها وخاض في معضلات أفكارها وكشف القناع عن حقائقها لينتهي به المطاف إلى مشاهدة الحق بعين العيان ولا يبقى للشك مظنة ولا مجال. يقول رحمه الله في سيرته الذاتية “المنقذ من الضلال”:  “ولم أزل في عنفوان شبابي – منذ راهقت البلوغ، قبل بلوغ العشرين إلى الآن وقد أناف السن على الخمسين- أقتحم لجة هذا البحر العميق وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور وأتوغل في كل مظلمة وأتهجم على كل مشكلة وأقتحم كل ورطة وأتفحص عن عقيدة كل فرقة وأستكشف أمراء مذهب كل طائفة لأميز بين محق ومبطل ومتسنن ومبتدع”.

نظرية المعرفة عند الغزالي

اعتقد الإمام الغزالي رحمه الله ثبوت الحقائق وإمكانية المعرفة بها مرورا بأطوار متدرجة ورد على السوفسطائية (sophists) المنكرين للحقائق ولإمكانية معرفتها أبلغ رد في كتابه “معيار العلم في فن المنطق”.

يقول رحمه الله: “من السوفسطائية من أنكر العلوم الأولية والحسية، كعلمنا بأن الاثنين أكثر من الواحد وكعلمنا بوجودنا وأن الشيئ الواحد إما أن يكون قديما أو حديثا، فهؤلاء دخلهم الخلل من سوء المزاج وفساد الذهن بكثرة التحير في النظريات، وأما الذين سلموا الضروريات وزعموا أن الأدلة متكافئة في النظريات فإنما حملهم عليه ما رأوا من تناقض أدلة فرق المتكلمين، وما اعتراهم في بعض المسائل من شبه وإشكالات عسر عليهم حلها، فظنوا أنها لا حل لها أصلا، ولم يحملوا ذلك على قصور نظرهم وضلالهم وقلة درايتهم بطريق النظر. “

فمن خلال محاولة جبارة لإرساء أفكاره على أساس معرفي رصين ينتقل الإمام من اعتماده أولا على الضروريات والحسيات إلى الثقة الجازمة بالضروريات العقلية مثل العشرة أكثر من الثلاثة والكل أعظم من الجزء، وهذه القناعة المعرفية التي لا تقبل تشكيكا سوفسطائيا تشكل اللبنة الأولى في بنية الفكر الغزالوي المزدوج بين العقل والنقل، وهذا الأساس المعرفي المنطق من الشك إلى اليقين تبناه رائد العقلانية الغربية ديكارت   (Descartes) بعد خمسة قرون من وفاة الإمام الغزالي رحمه الله متأثرا بمنهجية هذا البطل المغوار،

وعلى جناح هذا الأساس المعرفي جال الإمام الغزالي رحمه الله بفكره في عوالم العلوم النقلية والعقلية معا وغاص في بحارها وسبر اغوارها ووقف معها كلها موقف الناقد البصير وضم منها الى ثروته المعرفية ما يوافق منطقا وبرهانا ورفض منها لا يستقيم مع العقل السليم ويناقض الحدس الصحيح.

وكانت الفلسفة اليونانية من العلوم التي جذبت من الإمام انتباها بالغا وحلت من نفسه محلا مرموقا حتى فاق فيها جميع أهل عصره بذهن مذهل ثاقب نفذ به إلى صميمها و حل مشكلاتها وفكك أصولها وأطرها ليصبح فيلسوفا يتمدد نفوذه عبر القرون والعصور.

الفيلسوف الناقد للفلسفة

هل كان الإمام الغزالي رحمه الله فيلسوفا في الحقيقة؟ الجواب عن هذا السؤال يستدعى تحليلا وذلك إن كان المراد بمصطلح الفيلسوف المعنى المتعارف عليه عند اليونان وفلاسفة الإسلام القائلين بقدم العالم فلم يكن لينضم في صفوفهم في شيئ، وإذا نظر للفلسفة من حيث المفهوم الأرسطي القائل بأن المخالفة للفلسفة أيضا فلسفة فهو فيلسوف عبقري رسخت قدمه في المنطقيات والخلقيات والسياسيات وغيرها من علوم الفلسفة،

إذا كانت الفسلفة طفل العقل وثمرته فهي في نفسها نقد للتقاليد والخرافات الشائعة بين الناس فنقد الفلسفة أيضا نتاج الفكر المنطقي ووليدته، ومن هذا المنطلق العقلاني المتعالي يولي الإمام التفكير المنطقي أهمية بالغة من خلال كتبه “معيار العلم”و”محك النظر” و”القسطاس المستقيم” وغيرها الكثير، وهذا التفكير الإستقلالي الكانطي هو الذي حرك في الإمام الحافز العقلاني ليقف مع فلاسفة عصره ومنتجات أفكارهم موقف نقد إيجابي بناء يأخذ  منهم ما صفا ويدع ما كدر،

والاستقلالية  هذه المتحررة من قيود التقليد والتقديس قلما توجد في تاريخ الفكر البشري حتى في عمالقة الفلاسفة أنفسهم، لذلك يرى ابن رشد لنفسه كمالا أن يقف عند حدود الفكر الأرسطي متغافلا عن الحكم الأرسطي المشهور: أفلاطون صديق والحق صديق ولكن الحق أصدق منه، وعلى سبيل المثال في مسألة ذبول الشمس وذهاب ضوئها يرد ابن رشد على المتكلمين القائلين بفناءها بأن مذهبهم هذا لا يصح لأنه يخالف ما صرح به أرسطو، ولكن الإمام الغزالي رحمه الله لا يجد في نفسه حرجا من تطبيق هذا الحكم الأرسطي مع أرسطو نفسه ومقلديه من فلاسفة المسلمين عندما يستفيد من حقائق علومهم الطبيعية والرياضية والهندسية ويرفض من ما ورائياتهم ما لا يوافق عقلا ولا دليلا ولابرهانا،

فبالجملة كان الإمام الغزالي رحمه الله فيلسوفا ممتازا عن الفلاسفة ومتفوقا عليهم في ميزة الاستقلالية، يقول الأستاذ عباس محمود العقاد:”….فنعلم أنه (الغزالي) ناقش الفلسفة بالفلسفة وحطهم السلاح بالسلاح مثله، بيد أنه أنفذ وأمضى، فهو على هذا فيلسوف أقدر من الفلاسفة الذين أبطل حجتهم أو هو فارس في هذا الميدان أو في عدة من سائر الفرسان ولو أنه تصدى لهذه الصناعة بغير أداتها لما وضحت حجته بين الحجج ولا استطاع أن يكشف بطلانهم ولو كانوا مبطلين” (فلسفة الغزالي)،

والتفكير الفلسفي كما يراه العقاد يحتاج إلى توفر  ملكة متعالية عن القدرات المطلوبة في العلمين التجريبي والرياضي، يقول العقاد بعد بيان الفوارق بين المفكرين في المنهجين التجريبي والرياضي :” والتفكير الفلسفي ملكة أخرى لا تشبه كل الشبه ملكة العلم التجريبي أو ملكة الفروض الرياضية، ولكنها تشترك فيها بنصيب لا غنى عنه و قوامها الأكبر أن تحسن الفهم في المسائل المجردة أو المفارقة كما يقول المتقدمون وهي بهذا قد تشبه الرياضة إلى حد بعيد لولا أن الرياضة تنتهي إلى الفرض ولا يعنيها ان تتصوره او تحوم حوله بوجدان او الهام وقد يتعذر على الرياضي ان يفصل بين الممكن والمستحيل وبين الجائز والواجب، إذا تلبس الأمر بالمألوفات والمتكررات التي تلازم التصور وتلازم والتخيل وراء الحس المتفق عليه”،

ولكن يبقى سؤال هام يصعب على العقل البديهي في بادئ الأمر حله وهو كيف يمكن التوفيق بين الفلسفة القائمة على العقل والتفكير  وبين التصوف القائم على تهذيب الأخلاق ورياضة النفس مع أن الإمام رحمه الله كان أكبر منتصر للصوفية من علماء الفقه والظاهر؟ يجيب العقاد عن هذه الشبهة أيضا بقوله:” وقد يظن أن طبيعة التصوف وطبيعة الفلسفة لا تتلاقيان، وقد يصح ذلك في التصوف الذي يقوم على رياضة الأخلاق وتهذيب السلوك ولا يتجه الى البحث في معضلات الطبيعة وما بعد الطبيعة، إلا أنه لا يصح في التصوف الذي يقوم على التأمل الطويل والبحث العويص ويذهب بالفكر إلى غاية أشواطه لكي يلاقي بعد ذلك بين حدود الفكر وحدود الإلهام فإن هذا التصوف مدد للفلسفة يتمم لها أداتها ولا ينقصها ووسيلة ناجعة للتغلب عل الذاتية أو “الأنانية” فضلا عن المألوفات التي تلصق بالذات وتحصرالإنسان فيما هو فيه”

وقد مكنته ملكة التجريد الصوفي هذه من الوقوف عند المعضلات المستعصية على عقول الفلاسفة وقفة تحليل دقيق بعيد عن شوائب الحيرة والإعجاب حتى تخطى به حدود المستحيل (في وهمهم) الضيقة الى آفاق “الممكن” المنفتحة مؤمنا حق الإيمان في إمكانيات العقل البشري الهائلة،

وأدل دليل على هذه العبقرية الباهرة كتابه “تهافت الفلاسفة” يناقش فيه هذه المسائل العويصة ويكشف مواقع الخلل في الفكر الماورائي الأرسطي، وكان الدافع لتأليف هذا الكتاب أن شاهد في عصره أناسا ينتسبون للفلسفة وينظرون الى الدين بعين الحقارة والاستخفاف حيث كانوا يرون أنفسهم عقلاء متفوقين على العامة المتدينين حتى باتت موجة التفلسف عنيفة جارفة تجذب إليها عددا كبيرا من الطبقة المثقفة وشكلت خطرا يهدد الهوية الدينية الى حد عجز عن مواجهته العلماء التقليديون وظلوا يرددون بلسان حالهم :” لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده”،

ففي ظل هذه الأجواء الهدامة تصدى الإمام الغزالى رحمه الله ليستكنه كنه الفلسفة الأرسطية ويستكشف مكنونات مباحثه في سنتين، ثم أودع حصيلة دراساته وجولاته في الفلسفة كتابا عنون له بمقاصد الفلاسفة، وكان الكتاب يرمي الى تقريب الفلسفة من إفهام عامة العلماء في محاولة نزع هالة القداسة عن العقول العملاقة، وألف الإمام رحمه الله كتابا آخر أيضا باسم معيار العلم ليسهل على القراء فهم المصطلحات والأدوات التي استخدمها في كتابه “تهافت الفلاسفة”،

وفي هذا الكتاب تتجلى شخصيته الاستقلالية في أكمل صورة، وقد غدا كتابه هذا ليحتل المكانة العليا في تاريخ نقد الميتافزيقا على مدى تاريخ الفلسفة الى يومنا هذا، أما نقد عما نويل كانط للميتافزيقا اليونانية في كتابه “نقد العقل الخالص” إنما يأتي في الدرجة الثانية في مقابلة تهافت الفلاسفة،

يرى الإمام الغزالي رحمه الله أن الفلاسفة ثلاثة أصناف 1) الدهريون: (الماديون في المصطلح المعاصر) طائفة جحدوا الصانع المدبر للعالم والثانى الطبيعيون: قوم بحثوا في عالم الطبيعة والحيوانات والنباتات وخاضوا في علم تشريح اعضاء الحيوانات، وهؤلاء آمنوا بالصانع المبدع القادر عندما شاهدوا عجائب المخلوقات ولكنهم جحدوا الآخرة، والثالث الإلهيون: وهم المتأخرون من الفلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو- وهؤلاء ردوا على الصنفين الأولين من الدهرية والطبيعية، ثم رد أرسطو على أفلاطون وسقراط ومن كان قبلهم من الإلهيين إلا أنه استبقى من رذاذ  كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزوع عنها، فوجب تكفيرهم،

أما الفلسفة الأرسطية تنحصر في نظر الإمام الغزالي رحمه الله في ثلاثة أقسام، الأول يجب التفكير به وذلك في مسائل ثلاث الأولى قدم العالم والجواهر والثانية إنكارهم علم الله بالجزئيات والثالثة إنكارهم بعث الأجساد وحشرها،

والقسم الثاني ما يجب التبديع به من تصرفهم في الصفات الإلهية واعتقاد التوحيد فيها وتلازم الأسباب الطبيعية (السببية) ،

والقسم الثالث ما لا يجب إنكاره أصلا. ويقسم الإمام الغزالي رحمه الله العلوم الفلسفية الى ستة اقسام، رياضية ومنطقية وسياسية وخلقية وطبيعية وإلهية، ويعتقد أن ماعدا الإلهيات لا يتعلق منه شيئ بالأمور الدينية نفيا وإثباتا إلا مسائل يسيرة من الطبيعية، ولما كان أكثر أغاليط الفلاسفة في الإلهيات(الميتافزيقا) ألف كباته “تهافت الفلاسفة” يدحض فيه حججهم الباطلة المبني عليها القول بقدم العالم و نفي علم الجزئيات لله وإنكار البعث بحشر الأجساد،

التراث الفلسفي للإمام الغزالي رحمه الله

خلف الإمام الغزالي رحمه الله آراء فلسفية جادة تجعله يشغل مكانا بارزا من الفلاسفة الخمسة الأكثر تأثيرا على تاريخ الفكر البشري، من أهم آثاره الحافلة مايلي:

-البرهان الكلامي على وجود الله

البرهان الساطع على وجود الصانع المتعارف عليه الآن في الغرب بالبرهان الكلامي الكوني (Kalam Cosmological argument)، وقد قام الفيلسوف النصراني الأمريكي د. وليم كريغ بخدمة هذا البرهان المستفاد من كتب الإمام مثل الإقتصاد في الإعتقاد وتهافت التهافت وأضاف إليه استنباطاته الداعمة له من اكتشافات العلم الحديث والمباحث الفلسفية الحديثة،وقد ألف كريغ كتابا مستقلا بعنوان “البرهان الكلامي”.

مذهب المناسبة

مذهب المناسبة أو العلية الموقعية (Occasionalism)  وهذه النظرية كما تقول الموسوعة الفلسفية لجامعة ستانفورد قدمها الإمام الأشعري- ولكن الإمام الغزالي رحمه الله هو الذي شرحها وأيدها بحجج منطقية من خلال كتبه الكلامية خاصة في تهافت الفلاسفة.

والمناسبة هذه تقضي  باستحالة كون المواد الموجودة عللا فاعلية للأحداث وتقول بأن الله هو العلة الوحيدة أو الفاعل الحقيقي للظواهر الكونية، يقول الإمام الغزالي رحمه الله في التهافت “الإقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا…. أما هذا الإقتران فيعود الى ما سبق من تقدير الله لخلقها على التساوي لا لكونه ضروريا في نفسه بل في مقدور الله أن يخلق الشبع دون الأكل وأن يخلق الموت دون قطع الرقية وهلم جرا”،

وموقف الإمام هذا اعتبره ابن رشد في تهافت التهافت معاندة سفسطائية لإبطال أدلة الفلاسفة وابطالا للعلم، ولكن كيف يكون هذا معاندة سفسطائية؟ وقد قال بنفي الإقتران بين العلة والمعلول الفيلسوف الحسي التجريبي ديفهيوم (David Hume) أيضا عندما حاول ان يفكك اصول نظرية المعرفة للفكر العقلاني،

والإمام الغزالي رحمه الله لم يلغ تماما الإرتباط الضروري كرابط عقلي بين العلة والمعلول، ويتجلى موقف الإمام من “العلية” في الإقتصاد في الإعتقاد بوضوح اذ يقرر العلاقة الضرورية بين شيئين، “أحدهما ان تكون العلاقة متكافئة كالعاقة بين اليمين والشمال والفوق والتحت…. والثاني: أن لا يكون عل التكافؤ لكن لأحدهما رتبة التقدم كالشرط مع المشروط… الثالث: العلاقة التي بين العلة والمعلول، فيلزم في تقدير عدم العلة عدم المعلول ان لم يكن للمعلول الا علة واحدة”، فالإمام الغزالي رحمه الله يسلك بهذا طريقا وسطا بين ديفد هيوم الواقف على طرف الشك السلبي وعما نويل كانط الواقف على طرف المثالية المتعالية المتغطرسة، والبحوث والدراسات الحديثة في علم الفيزياء كمبدإ الريبة أو اللايقين (Uncertainty Principle) تؤيد موقف الإمام الغزالي رحمه الله المعتدل المتوازن،

إمكانية تمدد الكون

شهد القرن العشرون تطورا هائلا في علم الفيزياء باكتشافات نظريات مذهلة بفضل العباقرة أمثال اينشتاين (Einstein) وادوين هابل (Edwin Huble) ، فبظهور نظرية النسبية العامة(General Relativity) كان اينشتاين تنبأ بإمكان توسع الكون طبقا لقواعده الفيزيائية، ولكن ادوين هابل هو الذي نجح باكتشاف توسع الكون (Expansion of universe) في العقد الثاني من القرن العشرين، وقد نال هذا الإكتشاف قبولا واسعا عندما ظهرت نظرية الإنفجار العظيم (Big Bang)  القائلة ببداية الكون في الزمان مخلوقا من عدم (Creation ex nihilio)،

ولكن كان قبل اينشتاين بألف سنة فيلسوف فرض باستقلاليته امكان تمدد الكون وتوسعه خارجا عن حدود مرسومة في عقل ارسطو، يوجه الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه “تهافت الفلاسفة” سؤالا الى الفلاسفة ويقول:

“هل كان في قدرة الله تعالى أن يخلق الفلك الأعلى في سمكة أكبر مما خلقه بذراع ؟ فإن قالوا : لا ، فهو تعجيز، وإن قالوا: نعم ، فبذراعين وثلاثة أذرع وكذلك يرتقي الى غير نهاية، ثم يقول : فنقول في إثبات بعد وراء العالم له مقدار وكمية، اذ الأكبر بذراعين أو ثلاثة يشغل مكانا أكبر مما كان يشغل الآخر بذراعين أو ثلاثة، فوراء العالم بحكم هذا كمية تستدعي ذا كم  وهو الجسم أو الخلاء، فوراء العالم خلاء أو ملاء فما الجواب عنه؟”

فصريح أن الإمام رحمه الله كان يجوز أن يكون للعالم إمكان الامتداد الى حجم أكبر أو الانكماش الى حجم أصغر كما هو مذهب المتكلمين، أما رد ابن رشد على هذا السؤال إنما يعتمد على تقليده المخجل لأرسطو حيث يقول هذا ممتنع وقد صرح به أرسطو،

شبهة دور الإمام في انهيار الحضارة الإسلامية

يعتقد عدد كبير من الفلاسفة والمستشرقين لمدة طويلة أن الإمام الغزالي رحمه الله وكتابه التهافت كانا السببين الرئيسين لتخلف المسلمين الحضاري والعلمي، ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه العالم الأمريكي نيل ديغراس تايسون (Neil de Grasse Tyson) المؤكد لأطروحة التصادم الضروري بين العلم والدين،

وهذه الأطروحة تظهر في شكلها البدائي في “تهافت التهافت” لابن رشد أثناء رده على مذهب المناسبة (Occasionalism) للإمام الغزالي رحمه الله حيث اعتبر نفي السببية (Casuality) معاندة سفسطائية وابطالا للعلم،

وقد سبق الكلام عن موقف الإمام الغزالي رحمه الله المتوسط بين موقفي ديفد هيوم وعما نويل كانط وأسبقيته في فرضيات نظرية الربية أو اللايقين، فشبهة نفي العلم التي حاول ابن رشد أن يلزم الإمام الغزالي رحمه الله إياها لا تلزمه أبدا خاصة في ظل إثباته للعلاقة الضرورية بين العلة والمعلول على ما جرت العادة بأن يخلق الله تعالى هذه العلاقة بين شيئين،

هل مخالفة أرسطو  مخالفة للعلم ؟

ولما نقلت فلسفة ابن رشد الى الغرب اللاتيني وجد الذين كانوا ينتظرون الى فلاسفة اليونان بعين الإعجاب والتقديس في تهافت التهافت سلاحا لمواجهة التيار الكلامي الأشعري الذي مثل تحديا سافرا للنظرة الكونية الدينية (اليهودية والنصرانية) المستمدة روحها من فلسفة أرسطو،

فلا غرو أن اعتبر المتكلمون اليهود والنصارى أرسطو الكلمة الأخيرة في العلوم كلها الى أن  حد أن يظهر مبدأ مسلم عندهم يقول بأن كل من خالف أرسطو في شيئ مخالف بطبيعة الحال  للعلم والفكر أيضا، وشبهة أن الإمام الغزالي رحمه الله رفض العلم رفضا باتا كانت وليدة هذه النفسية الانقيادية التي كانت تهيمن على عقول تلامذة المدرسة المشائية أمثال ابن رشد وموسى بن ميمون وغيرهم من فلاسفة المسلمين وغير المسلمين عضال..

ولكن ما هي الحقيقة؟ لقد شق الإمام الغزالي رحمه الله طريقا مبتكرة لإختراق آفاق جديدة وإمكانيات هائلة للعقل البشري في مجالات الفلسفة والفيزياء والكونيات حتى أصبح رمزا رياديا لنقاد الفكر الأرسطي في غرب القرن الرابع عشر الميلادي، وكان كوبر نيكوس(Copernicus) المخالف لأرسطو في مركزية الأرض وفرانسيس بيكون(Francis Bacon) المخالف لأرسطو في منهجه العلمي قد نفخا في الحضارة الغربية روحا جديدة بعثت فيها من جديد الاستقلالية للتفكير المتحرر من القيود الأرسطية حتى شهدت أوروبا فاتحة عهد جديد يسمى بعصر الثورة العلمية  (scientific revolution)،

الإنجازات العلمية بعد عصر الإمام الغزالي

أما الشرق الإسلامي فقد سار بسهولة في الطريق التي اخترقها  له الإمام الغزالي رحمه الله وضم الى تراثه انجازات مدهشة باكتشافات عديدة مخالفة للنظرة الكونية الأرسطية بفضل المراصد الفلكية بمراغة وعلمائها الجهابذة مثل ابن الشاطر ونصير الدين الطوسي ونجم الدين القزويني الكاتبي وقطب الدين الشيرازي وصدر الشريعة البخاري وعلي القوشجي وعبد العالي البيجرندي وشمس الدين الخافري ومحيي الدين الأوردي، أدرك فلكيو مراغة أن نظرة أرسطو للحركة بوصفها إما خطية أو دورانية غير صحيحة كما أظهرت مزدوجة الطوسي أن الحركة الخطية يمكن انتاجها بحركات دورانية، وكذلك حل نصير الدين الطوسي عدة مشاكل في نظام بطليموس باستعمال مزدوجة الطوسي والتي لعبت دورا مهما في نظرية كوبرنيكوس، وأيضا قد تركت البحوث الحديثة في الفلكيات الإسلامية العلماء في حيرة ودهشة عندما تؤكد العلاقة الوثيقة بين اكتشافات ابن الشاطر ونظرية كوبرنيكوس القائلة بمركزية الشمس ، وكان ابن الشاطر قد سبق كوبرنيكوس الى نظرية مماثلة قائلا بمركزية الشمس ورافضا لنظرية أرسطو القديمة،

جورج سالبا يرد على هذه التهمة الباطلة

وقد تناول هذه القضية جورج سالبا أستاذ العربية  والعلم الإسلامي بجامعة كولومبيا في كتاب مستقل باسم “العلم الإسلامي وصياغة النهضة الأوروبية”

(Islamic Science and the making of the European Renaissance) ، يرى “سالبا” في ترسخ هذه الأطروحة بين الأكاديمية الغربية عقلية متجذرة في ذاكرة جمعية (collective memory) للغرب الحافلة بالصدام المستمر بين الدين والعلم، ولما كانت نظرة المستشرقين الى الإسلام أيضا مصطبغة بهذه التجربة الأوروبية الاستثتائية ظنوا الإمام الغزالي رحمه الله الممثل الأكبر للأرثوذكسية الإسلامية – وفي ظل نقده للفلسفة الأرسطية – معاندا للعلم والفلسفة والسبب الرئيسي لانهيار الحضارة العلمية الإسلامية، ولكنهم جهلوا أن الفضل الأكبر في انتشار العلوم العقلية بين المسلمين يرجع الى الإمام بفضل مؤلفاته في الأصول وعلم الكلام والمنطق والتصوف، أما انهيار الحضارة الإسلامية  فقد كان نتيجة محتمة للصراعات الداخلية والمؤامرات السياسية والمشاجرات الأيديولوجية والتي استدعت أمثال هولاكو وألفونسو وفرديناند لينتهزوا الفرص السانحة ويشنوا غارة نهائية على العالم الإسلامي و استطاعوا بذلك وقف امتداد النفوذ السياسي للحضارة الإسلامية .لما لم تجد المشاريع الحضارية والبحوث العلمية تمويلا من قبل الحكام و كان شغلهم الشاغل هو احتواء موجات الحروب الأهلية والهجومات الخارجية فقدت بطبيعة الحال النشاطات العلمية حيويتها السابقة وهيبتها السالفة.

موقف الإمام من العلم

وهذا الاتهام الباطل لا ينطبق مع نكيرالإمام الشديد على الرافضين لعلوم الفلاسفة كالمنطقيات والطبيعيات والرياضيات والهندسيات في “المنقذ من الضلال”. يرى الإمام الغزالي رحمه الله هذا الرفض آفة عظيمة على الدين حيث يقول:”أما الآفة التي في حق الراد (لعلوم الفلاسفة) فعظيمة،: إذ ظن طائفة من الضعفاء ان ذلك الكلام اذا كان مدونا في كتبهم وممزوجا بباطلهم ينبغي ان يهجر ولا يذكر بل ينكر على من يذكره اذ لم يسمعوه أولا الا منهم، فسبق الى عقولهم الضعيفة أنه باطل لأن قائله مبطل”، فالإمام الغزالي رحمه الله ينتقد هنا الموقف السلبي غير الناضج الذي تبناه من ابناء عصره بعض العقول القاصرة تجاه العلوم العقلية المنقولة من كتب الفلسفة اليونانية،وعلى كل فقد كان من التناقض العجيب ان رجلا انتصر اكبر انتصار للعلوم الفلسفية بما فيها من المنطقيات والطبيعيات صار  ينظر اليه على مر القرون كأكبر معاد للعلم والعقل وأنه كان هو السبب في انهيار حضارة زاهرة بأكملها، ولكن مؤشرات الإنتاج الفكري للحضارة الإسلامية بعده ومؤلفاته في العلوم العقلية تشهد على خلاف هذه الأطروحة السائدة الخاطئة،

فبالجملة كانت فلسفة الإمام الغزالي رحمه الله فلسفة مزدوجة بين العقل والنقل تتجلى فيها سمات النضج و الاستقلالية في أتم صورهما بعيدة كل البعد عن التقليد الغاوي والتكبر الطاغي. فهو بذلك يستحق بجدارة ما يصفه به الفيلسوف الفرنسي المعاصر هنري كوربن(Henry corbin) .يقول :يمكننا التصديق طوعا مع التحفظ تجاه بعض المبالغات أن هذا الخراساني كان من ألمع الشخصيات ومن أنبغ المفكرين الذين ظهروا فيس الإسلام يشهد بذلك اسمه الفخري “حجة الإسلام”.