سياسة الرسول ساست القلوب لكمالها

الإسلام دين المواساة والأخوة، دين لا يقوم على مجرد الآراء والأفكار بل على الفلسفة الربانية والدعوة الصالحة، ويحث على المودة والرحمة، ويحرض على  المحبة والرأفة بين الناس ويدعو إلى الأخوة والألفة بين الأديان، ملة سياستها حسناء، ودعايتها تخترق الأزمان والجدران، على نحو هذا النظام والنمط الأحسن.

وعلى مثل هذا القانون قد قال فيه  الحكماء” إن الحكومة الإسلامية فقط تمكن السلطنة والحكومة على العالم في هذا العصر الجديد” . حكومة علمية وسياسة ممكنة تنفيذها منتظمة بالقواعيد التقليدية وبالقوانين التربوية .

وفي أول  وهلة ، كانت بداية انتشار الدعوة الإسلامية في المدينة المنورة وما هي مكونة من الأفكار السياسية بل كان مكونا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وامتثال كل أمور ممدوحة وأخلاق وآداب قيمة،مع اجتناب كل أمور مكروهة حتى أنجب الرسول الله صلى الله عليه وسلم أمة صافية من وطأة  الجاهلية وصرامة الوحشية إلى مركز خالد ومدار تليد، وحل رسول الله صلى الله عليه وسلم  مشكلات القبيلة وعالج المعضلات الجماعية التي أسهرت منامهم وهيجت رقادهم،  ثورات تطول نحو خمسين سنة وهجمات تستمر نحو ألف سنة .

واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذه التهديدات بتحليلات حكمية لا فيها أخذ ولا رد . يعمل بينهم أمينا.

وقال المؤرخ المشهور أرنالد توينبي : أنه صلى الله عليه وسلم كان محللا المعضلات و معالج المشكلات حيث أصرّ الناس على إقامة الأمور المعمورة وتحور الناس من جهله طرفساء إلى حكمة بيضاء حيث خطب الناس فى يوم عرفة وأعلن قيام المجتمع وقرر فى ذلك الخطاب التاريخى أنه لا فضل لعربى على أعجمى ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى وحرم كل ما يذهب العقل ويؤدى البدن وشرع شرعة حسنى وأرسى قواعد التعايش الإجتماعى ، وقيم الرحمة والهدى التى شملت حتى الحيوان.

شيد سيد محمد صلى الله عليه وسلم  حكومة عارية من عصبية الاجتماعية ومن عصبية  القومية إلى سياسة  جديدة ساذجة،   ليس فيها اعتبار الأكبر والأصغر ولا اعتبار الأغلبية والأقلية بل سواء قلوبهم لا مناكبهم، ليس فيها تفاوت الغنا والفاقة ممتزجة بطقوس الأديان المختلفة، منتظمة بعادات الشرائع الأجنبية،  كأنهم عند الرسول وعند الإسلام في مسبحة واحدة. واليهوديون والنصرانييون وعبدة الأصنام هم يفوزون بحماية كاملة لتنفيد عاداتهم وليس لهم أي دفعة وتعارض، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يجمع الناس في مكان واحد لإستماع شكواهم، وآرائهم عن الحكومة والدولة، ويعلم الناس حقائق الشريعة من حيث إنه ملة علمانية، حتى أباد الشحناء القائمة بين الأوس والخزرج.

وأما إنجازات القانون الإداري بينهم يقوم على توافق الطريق الصافي حيث  أنهضهم على ميدان العدل والإنصاف، ووفقهم على عمارة المساواة، وقضى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو حاتم وحاكم ولا تفاوت حين يحكم في أقاربه وأجانبه بل على الناس مساواة، حتى يقول لهم  لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها تعذيبا لها، فلا تسامح لأقاربه وأصدقائه، وما أحسن النظام السياسي والترتيب الحكومي ، ثم لماذا ينظرون للإسلام على أنه ينبغي أن يجتث من الأرض مع أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يجهز جيشه ثم يأمرهم ألا يقتلوا شخصا كثيرا ولا شيخا كبيرا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة وإلا يمثل بقتيل، وبهذا نسلم أن في تاريخ الإسلام لا مدخل لحدود الأسياف بل كلمات محدودة وسيرات أثرية.

وقيم حكومة المدينة لكل قيمته حيث أتقن القانون الأساسي من حفظ عرضهم ومالهم ونسائهم ودينهم وعاداتهم لاجتلاب كل حقوقهم الجديرة، ولم يحس النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه درجة بين أصحابه ولا رفعة بين أتباعه قط في مدة حياتة وهو سلطان المدينة وإمام الملة ولكن عيشه يبينهم دارجا وذائعا في خاطرهم محبوبا في قلوبهم آنسا مدة حياته ومماته حتى كان لائقا ببذول نفوسهم لحفاظة نفسه ولحماية جسده والمكرمة، وتنافسوا لانجاز وعده وعهده حتى قال سعد بن عبادة: يا رسول الله لو قلت لنا لانغماس البحر لا تجد منا رجلا يأجل بل رأيت تعجيلا، ومن مثال أنه رئيس دارج تزويج خادمه حين ضاق به الأحوال وستر عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلمه وزوجه.

والإشارة إلى وثيقة المدينة لها أهمية في هذه المباحثة من حيث إنه أول  دستور سياسي الذي أنشأ الدولة الإسلامية،   وحينما نبحث عن الدولة السياسية فإنها تقوم على أساس متين، منها استقلالة سيادتها وامتيازها بالحدود الإقلمية ووجود الشعب على أرضها وإعطاء كل ذي حق حقه وتأدية الأمانات إلى أهلها ومستحقها.

وهذه الوثيقة تعد من دعائم نشأة الدولة الإسلامية بالإضافة إلى الأخوة بين المهاجرين والمسلمين من أهل يثرب، وكانت هذه الوثيقة المتضمنة بأهمية الوحدة الدينية ودفئ المساواة والاجتماعية بين الشعب حتى تقطع دابر الطبقة والقبيلة وتستأصل مصادر القومية ومناهل القبيلية والنخوة الجاهلية.

ويقيمون في المدينة متساوين كلهم في الحقوق دون التمييز والتفاوت بينهم حتى أحسوا بالصفاوة والحرية من كل أنجاس التفرقة الجنسية، فإن جميع المواطنين أمام سلطة القضاء متساوون ومتكافؤون ومتماثلون، ومن هذه القضيات يتبين الإسلام  صفاء وجلاء حيث يرتكز قيما أخلاقية اجتماعية وسياسة، وأظهر العدالة والقسط بين المسلمين واليهودين.

فهذا الواقع ينبئ أن الإسلام لا يفرق بين الشريف والوضيع، فهناك شواهد في الدلالة على أنه صلى الله عليه وسلم جدير بنبوّة وهي تؤسس له الاستحقاق في الأمانة على الدولة وتحقق له الرياسة في المدينة .

المبايعات والكتابات التي جرت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين القبائل العربية تتعلق بقضية رياسة النبي صلى الله عليه وسلم للدولة في زمنه وأيضا تتضمن للإقرار بأنه صلى الله عليه وسلم رئيس للدولة وحاكم سياسي للمدينة.

وهذا الحكم السياسي تكرر من النبي صلى لله عليه وسلم في عدد من كتابته التي أرسل بها القبائل العربية ككتابته إلى معد يكرب من خولان وخالد بن ضمان من أزد وأبي طبيان الأزدي من غامد وبني عامر بن الأسود من طيء.

الشواهد التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم كان يعين نوابا عنه على القرى والقبائل التي أعلنت إيمانها به مثل تعيينه لقيس الهمداني على قومه ولوائل بن حجر رئيسا على قومه وكذلك ولى الرسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد نائبا عنه في مكة وعثمان ابن أبي العاص في الطائف وبهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بأحكام سياسية  اعتمادا على مبايعة على الإيمان به ولم يرد أنه طلب منهم أن يبايعوه على أن يكون حاكما على الدولة حتى يمارس الحكم السياسي وهذا يدل على أن مجرد الإيمان به قدر كاف في تأسيس الشرعية السياسية له لأنها متضمنة فيها. وأيضا الشواهد الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصدر بعض الأحكام السياسة على البلاد التي آمن أهلها خارج المدينة مثلا كتابه إلى قبيلة بارقة : هذا كتاب من محمد رسول الله لبارق : أن لا تجذ ثمارهم ، وأن لا ترعى بلادهم في مربع ولا مصيف إلا بمسألة من بارق، وأيضا لربيعة بن ذي المرحب من حضرموت ، وهذا يوجه أنه صلى الله عليه وسلم حكم بحكم سياسي ونفذ حكمه في القوم الذين لم يذكر عنهم إلا أنهم بايعوه على الإيمان به واتباع دينه وهذا يدل على أن الإيمان به متضمن للإقرار بكونه حاكما ورئيسا وسياسيا . وأيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم اقر الربط بين الإيمان به وبين كونه رئيسا للدولة مثل إقراره لقبيلة مذحج ، فإنهم حين وفدوا لمبايعة على الإيمان قالوا : إسلامناعلى أن لنا من أرضنا ماؤها ومرعاها وهدالها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم بارك على مذحج وعلى أرض مذحج من حشد ورفد وزهر . وهذا يدل هو أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أحق لكون رئيسا للدولة ،.

وما تقدم من الشواهد كلها يصرح بتأكيد معنيات الوحدة والأخوة، وهو أن سيادة النبي صلى الله عليه وسلم سياسية تتحقق بمجرد الإيمان به، لأن هناك ترابط ضمني بين الاقرار بالإيمان به وبكونه رسولا وبين الاقرار والرضا بكونه يملك السرعية السياسية التي يصدر من خلا لها أحكاما سياسية نافذة، بل يقر ويرضي بكونه حاكماعلى الدولة ويثق في نزاهته السياسية أو عدله وسعة نظراته  في إدارة شؤون البلاد حتى الإنسان الكافر.

 

  • بقلم: سفيل أحمد بن عبد الكلام