إلى غيابة الجب

بقلم: صبغة الله الهدوي

الدرس السادس

من حياة الشهيد البطل سيد قطب… أنه اتفق له يوم الجمعة في رحلته عبر السفينة، فوكله جميع المسافرين من المسلمين أن يقيم لهم صلاة الجمعة، حتى قام فيهم سيد قطب خطيبا وحوله غير المسلمين يستمعون إليه، وبعد أداء الصلاة جاءت إليه فتاة روسية وقالت” إني سمعت خطبتك العربية، وقد جذبتني بعض كلمات كنت ترتلها إبان خطبتك، فما هي تلك الكلمة التي تشابه بالأنشودة الموقعة”

وكانت تلك الكلمة من بنيات القرآن حتى اعتنقت الإسلام ومضت على درب النور….

مرة… في حين من التاريخ… توغل إلى الإسلام يهودي يريد تشويش الأمة، وجعل القرآن له وسيلة وذريعة، ودخل إلى المسجد فسمع الخطيب يتلو” الله نور السماوات والأرض” ولكنه لم يدرك معناه بل حركته تلك الإيقاعات المؤثرة، ونزلت إلى قلبه كلمات مثل الزجاجة والكوكب الدري والمصباح، حتى علا على قلبه نور على نور ثم اهتدى واستقام في سبيل الله، كما ترك ابراهيم بن أدهم قصره المنيف ومسكنه الشامخ..

الكائنات تتكلم مع الأرواح المفتوحة الساذجة ويصبح الصمت كوة يدخل فيها النور ويزهر الكون ويبهر الدنيا

هائمين

مضى الأستاذ وموكبه بعدما خلوا الشيخ سالم وفتاه على شاطئ البحر… وقام الشيخ محدقا طرفه ومحددا نظره نحوهم… كأنه يمتلك بصيرة قوية وبصارة فتية تغلب كل الناظرين والمفكرين، ولما التفت سالم رآه قائما منتصبا بعين سجول في وجه عبوس…..

وفي الهاجرة… وصلوا إلى وسط بيروت… ومدوا رجليهم إلى شاطئ البحر… وتركوا المباني الفخمة والفنادق المنيفة والمقاهي الشامخة، وشاهد من بينها صورة إلتور اليهود الغشاش… والجامعة الأمريكية التي نفخت بوق المأساة العربية والجامعة الإفرنجية التي قطعت حرية قلب الدين… وأزعجته رائحة جبران تفوح من المباني التذكارية…ولكنه اضطرب من شيء يولد رائحة كريهة، نعم في البيروت شيء خبيث…

واختفت في سواحل القلب بيارات رامي وتنوير، واختبئت في كواته تلال مرجيون ووديان بعلبك، وتغرد فوقها عصافير وشحارير وقمريات تزين هذه البلدة الكريمة، وبقيت في فرحان تلك اللذة المخلدة…

ولكن فرحان.. مع أنه يساير مع جماعة عانى من الوحشة القاتلة والغربة التي تحيط به، وأصبح كلامهم مجرد أرقام في الماء، نعم الصمت روح السفر والرحلات… وأن التفكر يزيد الصمت قعرا وعرضا…

ويدركه مشاعر الصمت وهو يمشي بهمسات ناعمة فوق الرمال، كأنها تروي حكايات العويل والبكاء والنياحة، والصمت أعظم درس لقنه الإنسان، وله وضوح وغموض وعوج وأمت… لأن الكلام الذي ينبت من شجرة الصمت تغدق وتورق، وله وعي ووحي…فإن الصمت يزيد الكلام معنى وإحساسا.. وصمت الأستاذ يصححه ويبينه.

يمتلك الأستاذ قوة وهمة لا سيما إذا تناثر منه الكلام… وصمته هو الذي يعلمنا الدروس والعبر، وقد احتضنني الأستاذ بعد انتقال والدي ووالدتي، كأنه يذب عني عاري وضعفي بهذا الصمت المستطيل، وكان له فترة حيث يسمع قصص رامي وتنوير، روائع الأنبياء والرسل، والتي تذكرنا عبر الأصفياء والأولياء، قصص لها مد وجزر، من بداية مشرقة إلى نهاية محترقة، وساير فرحان مع هذا الصمت الهائل وتعلم منه آلاف الدروس والأفكار،

“أستاذ، إلى أين نسير”

“إلى بلدة الهائمين وهل تعاني من أي مشقة”

” كلا.. سألتك فقط، وأين تلك البلدة، في لبنان..”

ضحك الأستاذ” ما للهائمين بالدنيا، والدنيا لهم فراش ومهاد، يظلون ويبيتون حيث شاءوا ونزلوا”

مرة أخرى… التزم الأستاذ بصمت غامض

وتذكر فرحان.. نحن أيضا من عصبة الهائمين.. ولكن قطع عليه الأستاذ وأشار إلى الفلق

” وهل ترى قطيع الغنم هناك”

حدد فرحان نظرته إلى ذلك الموقع، وتعجب من حدة نظره وثقابة فهمه..

” نعم أرى قطعانا وراعيا، وكيف كشفتهم”

” لا ما كشفتهم.. بل هي مجرد علامة وأمارة… وكنت أطلبها وأستنظرها”

” ما دلالتها”

“العلامات أقوى أدلة تنطق”

ووصلوا إليها ومعه راعي غنم في ثوب بذلة، وهو يسقيهم من بئر عميق، وانحدر إلى فرحان صورة نبي شجاع يقف في بئر مدين… واستعاد تلك الذكريات الحسناء…

لحظة…. تنكر فرحان كل الطرق والدروب، ونسي الشاكلة والشعاب..تلك الطريق التي ضل فيها موسى الكليم

يمشي رجل في صحراء قاحلة قفراء… وتمشي أمة سوداء معها طفل صغير…

وآخر يطل إلى البحر الواسع.. كأنه ينتظر قوربا ينجيه من يم الغم…

عويل يرتفع منه ولا يسمعه إلا من يقوم في الابتعاد… ودرب آخر يمتد من غيابة الجب..

قافلة أناخت وسط الطرق العاتمة.. وقد ولدت فيها امرة عفيفة طاهرة…

طرب يهز النخل…وأمة تنتظر ولا يرى المنتظر…وترتيلات وتهليلات ترن وتتلى” طلع البدر علينا من ثنيات الوداع”

منعطفات غيرت مجرى التاريخ… وهجرات الرسل ورحلاتهم… علامات تدل على ثوارات الآبقين… مسالك تنطق بالتعجب والانبساط…

“تعال يا فرحان”

استوقفه نداء الأستاذ واستقل من الذكريات المعوجة… وقد وصلوا إلى القطيع وراعيها…وتقرب إليه فرحان بعين المراقبة فرآه ينظر إليه بمقلات الريبة… ولكنه تعجب حين رأى الأستاذ أخرس… يتكلم بالإشارة نعم.. الراعي أيضا أخرس… كأنهم أصبحوا رسل الصمت والصمود.

وكيف تنطق العلامات بنفسها؟ وهل لها إشارات بدل العبارات؟ وقد أحس فرحان أنه في عالم جديد، وقد غابت عنهم الشمس واستعدوا للصلاة وتوضأوا من البئر القريب…وقد عودوا لأداء صلاتين في السفر.. والسفر زاد البعثة الكبرى… وانعكست في قلبه آلاف الصور عن الهجرات والرحلات..

ثناء كأنها مرقاة إلى لقاء الله…وفيئات كأنها تعكس الشمس الهادئة…وهي تداني وتبتعد حسب الشمس وحركتها… وكأنها أشباح تنطق من دون حجاب…

” لقد أصبح منا رسول جديد… يوحى إليه بالفكرات والتخيلات… رسول يمشي مع الحكمة والعلوم”

وكلهم أرسلوا ضحكة نحو فرحان لكنه التجأ إلى البكاء والأنين… والأستاذ يعلم سره وباطنه وينبأ عما بدى في خلده..وقد مضت سنوات وهو في حضانته وحمايته، وما طالت الأيام عن توسوسه وتشويشه…

ضمه الأستاذ بشدة ومسح رأسه..” كنت طفلا صغيرا يمشي مع الفراشات والأزهار… ويرمي بسؤالات ممتعة، ولكنه الآن شاب تغير قلبه.. وما أثره إلا روائع سمعه من وادي مرجيون.. من تلك الترعة الصغيرة.. من تحت التين والزيتون…

والتزم الأستاذ بالصمت والوقار.. ولكن فرحان بكى وجرت الدموع على خديه… كأنها إيقاعات ضربت لأجل القلب وأوتاره… شعر من سيل الدمعات.. ثم مسح عينه وحدد نحو البحر المائج وردد

” رجل يساير مع الحكمة والحياة الأبدية”

وبعد قليل…” تعال يا فرحان.. نتناول الطعام”

واستطار في الجو ريح اللحم المشوي… وقد ذبح الراعي شاة للمأدبة… وبسطوا سفرة فيها أطعمة ملونة، وأنى لنا هذه؟

وتبدو عدة أكواخ نائية عن البئر… وهناك مرأة تطل إليها… تربعوا حول السفرة وتناولوا الطعام.. و عقب جلوسه حدق فرحا إلى ذلك الراعي… الراعي الذي ارتدي ملابس خشنة وما رأى أحدا مثله في وادي لبنان، ولكنه جميل ووجهه مبتسم… يعتوره البهاء والوقار… وعضلاته تظهر عن قوته الغريزة… فورا انتقل إلى شط البئر كأنه تذكر ما نسيه.

ورفع الحبل المعلق في جانب البئر… شيء غريب من حديد…ثم ضربه بشدة وارتفعت أصداء منه…. فرأى المرأة وولده ينظرون إليه ويوجهون نحوه… وتبادلوا أخبارا…. فرحان لما يتحرر من عالم الدهشة…

وقد أصاب فرحان فرحة وانتعاش… ومد يديه إلى تناول اللحوم والأطعمة…وتذكر أيام عيده… واستعاد طفولته وصبوته… ثياب جديدة ومسايرة مع الإخوان والأشقاء… وأطعمة ملونة توزعها الأمة وتجالس مع الاخت والأخ…. وكاد عينه تسح وتستفيض…

وبعد قليل… أنه رأى كتلة أطفال يمرحون ويفرحون وفي أيديهم شيء ملون ممتع… طائرات ورقية.. هززته ذاكرة القرية والطفولة…كأنه أصبح طفلا صغيرا لا يجاوز حد الشباب… وهرول إليهم طفل مع طائرات ورقية يمشي بها في شوارع حيفا…

“فرحان قم… تناو الطعام”

وقد تم الاستاذ ومن معه من الأكل.. وتأخر فرحان وهضم اللحوم بشدة وعجلة.

رافقهم فرحان وإن انقطع من أحلامه الجميلة وأطل إلى الأولاد الصغار مع الطائرات الورقية..وأحس فرحان أنه يحركونها بشكل أنيق متلاصق….إيقاعاته ونغماته تجري معا..وألوانه توحي وحيا متكاملا..ثم تفرق الأولاد وانصرفوا…خيالات فوق السطور… وقف فرحان متدبرا…

وقد آن وقت التوديع والافتراق… تهيئوا للارتحال فأشار الأستاذ نحو الراعي إشارة المودع…” السرعة… السرعة نحو الضفاف” ولم يفهم فرحان شيئا ثم اتبعهم فارا.. وابتعدت الأصوات ثم استقرت في بطن الرمال…ووصلوا إلى البحر فرأى قوربا يخرق الموج يتوجه إليهم.. ماذا يجري وماذا وقع؟