أخبار اللغة العربية في المواقع الإلكترونية

بقلم: عبد الغفور الهدوي ك.تي.

حتى قبل بضع سنوات، كنّا مضطرّين للاطلاع على أيّ مقطع شعري أو نص أدبي نريده، إلى التجوّل حول رفوف المكتبة، والعثور على كتاب يمكن وجود ضالّتنا به، وتصفّحه من خلال ورقاتها المغبرّة مع وعي كامل مخافة التمزّق أو التفتّت، بحيث ربّما يستغرق هذا ’الجهاد‘ عدّة ساعات. ولكنّا اليوم، بما منّ الله علينا، نتمكّن بمجرّد بعض الحركات بأطراف أناملنا، من العثور ليس على ما نطلبه فحسب بل كلّ ما يتعلّق به، وذلك من خلال لحظات معدودة..! فهذا التحوّل من ورقة بيضاء إلى شاشة سوداء في مجال الكتابة والقراءة لقد أسفر عن تغيّر جذريّ في مجال الأدب واللغة وإعادة صياغة موقف المجتمع نحوهما. فحينما فتحت شبكات الإنترنت أمام العالم آفاقا جديدة من إمكانيات الإبداع والتجديد في معظم المجالات، ما عبست اللغة العربية وما تولّت عن تلك التطوّرات المستجدّة، بل حاولت استخدامها لاحتفاظ ونشر تراثها وتوسعة حدود آدابها ودراساتها.

اللغة العربية في عالم الإنترنت:

تشير الإحصائيات الحديثة إلى أنّ اللغة العربية هي اللغة الرابعة أكثر استخداما على الإنترنت بعد الانجليزية والصينية والإسبانية، إلا أنّها في الدرجة السادسة عشر فقط في حجم محتوياتها على الشبكة حيث يقتصر حجمه في 0.8% فقط من مجموع المحتويات المنتشرة على الإنترنت، حينما تمتلك اللغة الانجليزية 52.1%..!! فإن كان هذا الحجم قليلا جدّا بالنسبة إلى المجموع، تثبت الدراسات الحديثة بأنّ مشاركة اللغة العربية في الإنترنت لا تزال في تصاعد سريع، حيث وصل عدد المواقع العربية على الشبكة اليوم إلى عدد لا يقلّ عن خمسة ملايين، بعدما كانت منحصرة في مقدار يعدّ بالأصابع في مطلع عام 2000م. ولكنّ الذي يجدر بالذكر هو أنّ هذا القدر الضئيل من المحتويات العربية على الشبكة لقد لعب دورا مهمّا في توجيه اللغة العربية وآدابها إلى وجهة جديدة لم تكن لها عهد في تاريخها الطويل. فإن كان تخطّي الأدب العربي من مرحلته الشفاهية إلى المرحلة الكتابية حدثا كبيرا في تاريخه، إنّ تحوّله من المرحلة الكتابية إلى المرحلة الرقميّة، كما نشاهده منذ العقدين الماضيين، لقد أدّاه إلى حالة غير مسبوقة من الانتشار والازدهار.

فممّا يؤكّده علماء اللغة العربية أن انتشار استخدام الإنترنت في العالم العربي قد ألقى روحا جديدة في مجال الأدب العربي والدراسات العربية، حيث ساعدت المواقع والمدوّنات العربية على الشبكة في احتفاظ كيان اللغة وتراثها أمام تيّارات اللغات العالمية الأخرى. فدخول اللغة العربية إلى عالم “الأدب الرقمي” (Digital literature) لم تنحصر آثاره في إنعاش التراث الأدبي القديم فحسب بل أدّى بالأدب العربي إلى إنتاج أنواع نصوص جديدة وأجناس أدبية خاصة تختلف من حيث المبنى وطريقة العرض وكيفية استقبالها وقراءتها عن النصوص الورقية التقليدية.

فالنصوص العربية الرقمية نستطيع إحصاءها في نوعين مهمّين؛ أولهما الكتب العربية التي اكتست الزيّ الرقمي، بحيث أصبحت العلوم والآداب العربية التي كانت مرهونة بين دفّات الكتب الورقية في متناول أيدي القرّاء ومحبّي الأدب بمسافة حروف عناوين المواقع التي توفّرها. فهذا التحوّل – أو ’الرقمنة‘ بتعبير لائق – قد أفضى إلى إشاعة التراث الأدبي بلا حدود وتسهيل مجال البحوث والدراسات في المجال الأكاديمي. فهناك مئات من مواقع شبكيّة تجريها جهات تطوّعية توفّر الكتب في شكلها الإلكتروني دون أيّ مقابل، وفي مقدّمة تلك المواقع على سبيل المثال موقع “إليك كتابي” (www.mybook4u.com) و”عصير الكتب” (www.book-juice.com) و”المكتبة الشاملة” (www.shamela.ws) وغيرها. أمّا النوع الثاني هو النصوص التي تؤلّف من أجل النشر إلكترونيا فقط عبر الإنترنت، فيصل إلى القرّاء مباشرة من دون الوقوع في أيادي سلطات الرقابة أو الحكّام. وهذا النوع من الأدب الرقمي يشتمل النصوص التي تتخطّى حدود الحروف المحضة إلى استخدام تقنيات التكنولوجيا الحديثة من الوسائط المتعددة مثل الشعر البصري الرقمي والشعر التفاعلي والقصص التفاعلية مما تتداخل فيه الألفاظ والصور والأصوات، كما يشتمل هذا النوع أيضا مجرّد النصوص التي لا ميزة لها غير أنها تستخدم الشاشات بدل الورقات للنشر.

فبعد دخول اللغة العربية إلى عالم الإنترنت، جعل كثير من الشعراء والكتّاب المعاصرين لا سيّما الجيل الجديد منهم يفضّلون الشبكة لنشر إبداعاتهم الفنّية لما تتيحهم تلك الوسيلة من فرص كبرى للتأثير والانتقال إلى القرّاء عبر الحدود بلا قيود ولا رقابة إلا بشكل نسبي محدود. فالكتّاب الذين كانوا صامتين عن أفكارهم ومواقفهم المتمرّدة ضدّ مجتمعاتهم أو القوّات الحاكمة عليهم قد نهضوا بسبب تطوّر مجال الأدب الرقميّ وذاقوا حرّية النشر وديموقراطية التعبير اللتين كانتا لهم ثمرتين محرومتين، فنشروا آدابهم الساخنة ضدّ القوات الطاغية عبر المواقع والمنتديات والمدوّنات الأدبية على الشبكة. فلم تعد الإنترنت في العالم العربي مجرّد وسيلة اتصال عادي، بل أصبحت ذات وجود طاغ في كافة مجالات النشر والإبداع.

فكالمواقع والمدوّنات العربية على الشبكة، إن لوسائل التواصل الاجتماعي أيضا دورا بارزا في تحقيق نموّ اللغة العربية وآدابها، حيث تعمل هي منابر ثقافية يرتادها الشباب والأدباء والمبدعون، يستخدمونها مسارح مباشرة لتقديم إبداعاتهم وآرائهم وأفكارهم النقدية. أما فيسبوك، موقع التواصل الاجتماعي الأكثر تداولا في العالم العربي، فدوره في تطوير اللغة العربية وآدابها  أكثر من أي موقع آخر، حيث إن ما فيها من الصفحات المخصّصة للأدب تقدّم مجالا واسعا لمحبّي اللغة، حيث توجد فيه صفحات خاصة للأدباء والمثقفين والشعراء يجتمع فيها معجبوهم ومحبوهم ومتابعوهم، فيكتبون فيها شعرا ونثرا وقصصا ومقالات وغيرها حسب اختصاصهم، فلا يلبثون بكتابة شيئ في صفحاتهم حتّى تصل إلى أيادي عدد هائل من متابعيهم خلال لحظات، فتوفّر لهم فرصا لإبداء آرائهم وأفكارهم النقدية حول ما ينشرونها من خلال تسجيل الإعجابات وكتابة التعليقات عليها. فممّا يدلّ على مدى شعبيّة هذا الموقع ورواجه في عالم الأدب العربي ما نرى من عدد هائل من المتابعين لبعض الصفحات الأدبيّة، فمثلا إن صفحة نزار قباني، الشاعر السوري الراحل، التي أسسها معجبوه ومحبوه، وصل عدد معجبيها ومتابعيها إلى أكثر من 11 مليونا، كما اكتسبت صفحة الشاعر هشام جخ أكثر من 6 ملايين متابع.

فقد أسفرت المساحات الواسعة التي وفّرتها الإنترنت للتعبير والحوار المتبادل وإقامة علاقة مباشرة بين الكتاب والقراء إلى توطيد علاقة القرّاء المعاصرين مع الأدب، لا سيّما الشباب الذين يعرفون كـ”جيل الشاشة”. فمنذ استفادة الكتاب والشعراء من الحرّية التي أنكرها لهم العالم الورقي من أجل الكتابة عمّا في وجدانهم دون خوف أي قوّة، لقد صار الأدب آلة حادّة في المجال السياسي أيضا. فلا نبالغ إذا قلنا إن الثورات التي شهدها العالم العربي في أوائل هذا العقد كان من أهمّ وقودها الأدب الرقمي الذي نشر عبر الوسائل الحديثة، والذي أخرج الناس قضّهم وقضيضهم تحت قيادة الشبان إلى الشوارع، للمظاهرة ضدّ المستبدّين الطاغين. فكما بُعثت فيهم قصائد أبي القاسم الشابي ونحوه من الشعراء الراحلين من جديد، انتشرت بينهم مكتوبات الجيل الجديد من الأدباء المتمرّدين كالنيران في الهشيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمدوّنات والمنتديات على الشبكة، فهيّجتهم وحدتهم إلى لهبان الثورات التي انتظمت في تونس مرورا بمصر واليمن وليبيا والبحرين والأردن.

بصمات سلبية

ولكن، رغم هذا النموّ الهائل في مجال الأدب والدراسات العربية بفضل الوسائل الحديثة في جانب، لا يجدر بنا التغافل عما تواجه اللغة العربية من التحديّات من قبل تلك الوسائل نحو كيانها وصفوتها من جانب آخر. فهذه التحدّيات ليست محصورة في مجال الأدب فحسب بل تتعدّى حتى إلى المقوّمات الأساسية للغة  العربية، بحيث تذهب بما تتمتّع العربية من جمال ونقاء تمتاز بهما عن غيرها. فمن المؤسف أنّ عددا كبيرا من مستخدمي اللغة العربية في عالم الإنترنت، أصبحوا يرون هذه اللغة المقدّسة مجرّد لغة للتواصل والدردشة ومحض وسيلة لتبادل الأفكار، فيتصرّفون فيها كيفما يشاؤون دون الاهتمام بما تمتلك من خصائص تميّزها عن غيرها من اللغات.

أمّا في المجال الأدبي، يغترّ كثير ممن ليس لديهم أي ذوق أدبيّ بالمساحة الحرّة الواسعة التي تفتحها الإنترنت للممارسات اللغوية والأدبية، فيتطفّلون فيها ويصدرون نصوصا شعرا أو نثرا تشذّ عن قواعد اللغة الأساسية وتخلو عن عناصر الأدب المقرّرة، فيخلطونها مع إبداعات فنّية راقية ويروّجونها أدبا عالي القيمة..! أما فريق آخر فهم لا يكتبون شيئا من عندهم بل ينتحلون من التراث الفكري للسابقين أو المعاصرين فينسبونه إلى أنفسهم، فينشرونه للحصول على بعض الإعجابات أو التعليقات، لبئس ما كانوا يعملون..!! فهؤلاء الكتّاب المتصنّعون إنّما تُترَك حبالهم على غاربهم لما في العالم الأدب الرقمي من سعة شاسعة وزحمة كبيرة من المشاركات بحيث يعجز النقاد أمامها للتفريق بين الغثّ منها والسمين.

أمّا من الناحية اللغوية، لقد تسرّب في اللغة العربية بسبب اتساع استخدام الإنترنت عدد كبير من الكلمات الدخيلة، معظمها من المصطلحات والكلمات باللغة الانجليزية. فكيف لا، لأن الانجليزية لها اليد العليا في عالم الإنترنت، فمن يبحر في الشبكة بحثا لأيّ غرض من الأغراض يجد نفسه في مواجهة لا بدّ منها مع اللغة الإنجليزية التي تفرض نفسها بقوة، فيضطرّ إلى أخذها واستعمالها مع الكلمات العربية، ما لم يجد كلمات مقابلة في خزانة اللغة العربية. فإن كان بين يدي من يواجه هذه الحالة ثلاثة خيارات، إما ترجمة تلك المفردات وإما تعريبها وإما قبولها كدخيلة، إن معظم الكتاب العرب نجدهم لا يرون أيّ ضرر في قبول الخيار الثالث، أي تبليطها بين الكلمات العربية كما هي في لغتها الأصليّة. لقد أدّى توريد المفردات الإنجليزية بهذا الشكل إلى اللغة العربية إلى انتشار ظاهرة لغوية جديدة تعرف بـ”العربليزية”، أي استخدام مفردات من اللغة الإنجليزية وكتابتها بأحرف عربية ضمن سياق النص بشكل طبيعي دون ترجمتها، بحيث تبدو وكأنها جزء من اللغة الأصلية. لقد أصبح هذه الظاهرة شائعة في النصوص الأدبية الرقمية التي باتت تزخر بمثل هذه الكلمات والعبارات الانجليزية.

وقد أدّى انفتاح أبواب الانترت بمصراعيها أمام العوام والخواص إلى خطر عظيم آخر على اللغة العربية، هو انتشار العربية العاميّة التي تختلف حسب بلاد مستخدميها. فحيث تعدّ اللغة العامية هي اللغة المتداولة بين كافة الناس بحيث لا تحتاج إلى جهد أو تفكير عند استعمالها، يراها بعض الكتّاب اللغة المناسبة لمتطلبات العصر الرقمي السريع. فإن كانت العامية موجودة في كثير من النصوص الأدبية الشعرية والنثرية القديمة، نرى النشر الإلكتروني قد أدّى إلى انتشار هذه الظاهرة بشكل كبير، حتى بدأنا نجد اليوم مواقع على الشبكة متخصصة بنشر روايات وقصص وأشعار تكتب كاملة بالعامية، مثل موقع “ألم الإمارات” الذي نجد فيه روايات كاملة باللغة العامية المحكية، وموقع “أبيات” المختص بنشر الشعر العربي باللهجة المحلية العامية للقطر الذي ينتمي الشعراء إليه وغيرهما.

وكثيراما تسرع إلى أذهان الشباب عند سماعهم كلمة “الإنترنت” تلك الغرف الافتراضية للدردشة والتواصل مع الأفراد من أي أرجاء الأرض كانوا. ولكنّ الذي يقلق محبّي اللغة العربية أنّ هذه الغرف للتخاطب والتحاور عن بعد قد أصبحت مسارح لتشويه وجه اللغة، وذلك بخلقها لغة خاصة من اللغة العربية بشكل عامية إنترنتية (internet slang)، والتي تشتمل على ألفاظ وكلمات قصيرة أو أرقام وأيقونات مبهمة من التي تسهّل على مستخدميها النقر على لوحة المفاتيح. فربما تجمع هذه العامية بين كلمتين أو أكثر في كلمة واحدة وهي أصلا باللغة الإنجليزية، مثل “تيت” بمعنى “خذ وقتك” (take your time) و “برب” بمعنى “سأعود (Be right back) و “لول” بمعنى “حب كثير” (lots of love)، وأمثالها كثيرة.

نهاية المطاف:

فبالجملة، إن عالم الانترت قد فتح أمام اللغة العربية وآدابها مساحة غير مسبوقة من امكانيات النموّ والازدهار. لقد أصبحت المواقع على الشبكة بمختلف أشكالها بمثابة كتب مفتوحة لدى الجليل الجديد من الكتّاب والشعراء حيث يجدون فها مساحة لكي يبدعوا ويقدّموا ما لديهم بسرعة مدهشة وبأكبر قدر من الانتشار. ولكن يجب على المجامع اللغوية بل على كلّ فرد يحبّ اللغة العربية اتخاذ خطوات لازمة للحدّ من الآثار السلبية التي تصيب اللغة من تيّار أمثال هذه الوسائل المعلوماتية الحديثة واحتفاظها عن وقوع التغيّر والتدهور في أصولها الأساسية لآدابها وقواعدها.