بافوتي مسليار: ذكره في الناس ليس يموت

بقلم: د. بهاء الدين محمد الندوي

كان الشيخ المغفور له  بإذن الله سبحانه –  فضيلة الأستاذ بافوتي مسليار بفارافور، ظلا يصنع جيلا جديدا يحب الدين ويحتضن القرآن ليل نهار، وخلف تراثا منسوجا من المجد والعزة، وبسط يديه لكفالة أبناء الأمة وأنفق لهم ما يحتاجون إليه من طعام وسكن ومرافق وتسهيلات ولم يساومهم ولم يتاجرهم بالدين إلا أنه أصر عليهم للحفاظ على شعائر الدين وإقامة سننه وقيمه في جميع أنحاء المعمورة .

لقد أسبغ الله على ديار مليبار بشتى النعم، منها تواجد علماء وأمراء متراصين ومصرين على بنية أمة أبية، راسخة القدم في الحضارة والثقافة، وظلت كيرالا متألقة من بين سائر الولايات الهندية وإنما طلعت هذه النهضة سياسيا واجتماعيا بمحاولات متواصلة قام بها ثلة من العلماء العباقر والأمراء المخلصين، بغض الطرف عن انتماءاتهم وولاءاتهم، ويتلألأ من بينهم فضيلة المرحوم بافوتي مسليار، إذ كان باني كلية إسلامية ورجلا أطل على نبضة الزمان وشيد من بين أطوائه صروح العلم، استطاع له صناعة جيل يتمشى مع الآداب السليمة والأخلاق النبيلة والسلوك القويم، ويلتزم بالجادة التي تقودها جمعية العلماء لعموم كيرالا.

ينتمي الأستاذ إلى الأسرة البكرية التي تنتهي سلسلتها إلى أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان لهذه الأسرة دور كبير في نهضة الأمة الإسلامية بولاية كيرالا كما كانت للقبائل النبوية مكانة سامقة في تطوير المجتمع الإسلامي، استوطنت في فارافور قرب كوتاكل بمقاطعة مالابرم، وكانت فارافور آنذاك قرية مهجورة، بعيدة عن أعين الناس حتى شاء الله أن يعمرها بتواجد هذه الأسرة الكريمة، وكان هو الولد الوحيد من بين أشقائه الثلاثة، وظل ينهل مبادئ العلوم الإسلامية من أبيه سي إتش محمد كنجين مسليار، وكان رجلا تقيا ورعا صالحا، له دور كبير في توجيه نجله وتربيته نحو التصوف، وفي الحقيقة لقد استطاع الوالد تنقيح ابنه وتصفيته حتى قدر الله له مستقبلا ملموسا بخدمات الدين والعلم، وانطلاقا من هذه التربية الدينية استمر بافوتي مسليار طوعا على ما رسمه والده الحنون .

ومن أبرز أساتذته فضيلة الأستاذ تشرشولا كنجي محمد مسليار، وموسان كتي مسليار بأوداكال، ومحيي الدين كتي مسليار بكرنجابادي، ومع ذلك كان له علاقة وطيدة مع  علماء ولاية كيرالا، كسادات فانكاد من بينهم الفقيد السيد محمد علي شهاب  باعلوي وأخوه السيد حيدر علي شهاب وأشقاءه الآخرون، وكان الشيخ آتيباتا محيي الدين كتي مسليار من أصدقائه وأقرانه .

وكان صاحب همة كبيرة وعزيمة شامخة أحاط جيدا بأن عزة الاسلام وروح السؤدد لا تسترجع ولا تسترد إلا بالنشاطات التعليمية حسب مقتضيات العصر والأمة وفي لغة الزمان وأساليب المكان فشد مئزره لتأسيس منارة علمية شاهقة وهي كلية سبيل الهداية حتى صدق فيه قول الشاعر:

على قدر أهل العزم تأتى العزائم                                                                           وتأتي على قدر الكرام المكارم

وكان المرحوم مستعدا لبذل جميع ما في يده من عقارات وممتلكات في سبيل العلم والدعوة الإسلامية لحد أن أسس كلية مرموقة تابعة لجامعة دار الهدى الإسلامية، التي تخرج في رحابها عشر دفعات أصبحت أفرادها قادة الدين والتدريس في شتى أنحاء الولاية وخارجها، وهذه الكلية كانت بأكملها تتمتع رعاية المرحوم إشرافا ونفقة وإدارة، تحمل جميع تكاليفها وأنفق المرحوم ما في يديه بأجمعه لترسيخ جذورها وإقامة جدرانها، وكان هذا التأسيس خطوة مباركة في تلك القرية وضواحيها، وكفى له فخرا وذخرا أنه كان والدا حنونا بالنسبة للطلاب الذين يبلغ عددهم ثلاثمئة وخمسين، بل كان قاضي محلات من بينها محلته فاداكموري.

فمن انجازاته  التي امتازت بها كلية سبيل الهداية الإسلامية إصدار  هذه المجلة «النهضة « التي تهتم بالقضايا الإسلامية والشؤون السياسية التي تتعلق بمصير الأمة، وقد غذت هذه المجلة  خلال سنواتها القصيرة أفئدة عشاق اللغة العربية الفصيحة.

ولا غرو لو قلنا إنه كان رجلا يتشعب ويتفرع، صانع جيل ومهندس مجتمع وطبيب قلب وجسد، قوي الحنكة والتجربة بالطب الآيورفيدي التقليدي حتى كان الناس – فيهم الفقراء والأغنياء- يتوجهون إليه زرافات ووحدانا في حالة القلق واليأس، مشتاقين إلى إرشاداته وأدويته، وكان لها تأثير كبير في تسلية قلوب المرضى والمتألمين وفي نفس الوقت لم يحرص الفقيد على احتلال المناصب بل تقمص وتعمم لنشر كلمة الله، بل العجب لقد كان ثريا يمتلك أنواعا من الأموال، لكن أنفقها في سبيل الدين والعلم والدعوة.

وأما علاقتي معه استهلت في أواخر الثمانينيات، إذ أتيحت لي فرصة للمشاركة في الحفلة الافتتاحية لمدرسة أسسها لذكرى والده محمد كنجين مسليار  وكان حضر فيها السيد المرحوم شهاب الدين إمبيتشي كويا تنغل- القاضي السابق لإقليم كالكوت، واستمرت واستقرت تلك الأواصر الودية بعدها، وكان مخلصا ووفيا لجميع فعاليات جمعية العلماء لعموم كيرالا، يستشير علماءها ويحترمهم، ويربي أبناءه على مطمار أوامرها وإرشاداتها.

لقد رحل عنا وذكرياته الثرية خالدة في أذهاننا ولا تزال تجري وتزدهر على أفكار جيل جديد استمد من كليته، وستبقى هذه الخدمات الجليلة أكبر شاهد وخير دليل على أنه كان رجلا صالحا، مخلصا في نيته وطيبا في حياته، وعلى أن الحياة أعمارها الأعمال، ومثله يستحق أن يقال فيه:

لئن مات قوم بعد علم وطاعة                                                                             فذكرهم في الناس ليس يموت

لقد نطقت آثارهم بعد مـــوتهم                                                                              بـــــفضلــــــــهم والجــــاحدون سكوت

يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي