بنى كلية, وشخصيته كانت بنفسها كلية

بقلم: منير بن عبد الرحمان الهدوى

بسم الله الرحمن الرحيم، القضاء حق والقدر حق، وكل شيء هالك إلا وجهه تعالى، ولا ريب في أن الله لم يجعل الخلد لبشر في الأرض، وكل نفس ذائقة الموت، هذه من مبادئ الإيمان بالله ومن أسس عقيدة الإسلام، ولكن قلب الإنسان متمرد لا ينقاد لبعض الأقدار، ولا يقتنع به في كثير من الأحيان، ويخيّل إليه أنه من أضغاث الأحلام، مع أنه حقيقة حقت بين عينيه، وواقع وقع على مرأى ومسمع منه، يتحير الإنسان أمام هذه الأقدار، ولا مفر له في نهاية المطاف إلا إلى الانقياد لها والاقتناع بها، وإلجام نفسه وتوطيدها على الاستسلام لما قدر الله له، والإدراك بأنها من سنة الله الجارية، وله فيها الحكمة البالغة، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا.

عفوا أيها القراء، أنا عاجز أن أصف لكم شيخنا المرحوم رحمه الله، فالقلب ملتاع ولا يكاد يقرّ أن شيخنا المحبوب قد ارتحل، والأيدي ترتعد ولا تكاد تستقر على لوحة المفاتيح، واستدعاء ذكريات الشيخ يبلل الأجفان ويُخضل اللحى، ولكن ذكر الصالحين كفارة وبحبهم ترجى الشفاعة، فأرسم لكم بعض السطور حول شيخنا الأستاذ المرحوم الشيخ بافوتي مسليار طيب الله ثراه ورفع درجاته ونفعنا به في الدارين.

وكان الشيخ الفقيد رحمه الله لي ولأشقائي الذين درسوا في كلية سبيل الهداية الإسلامية بمثابة الوالد الرحيم والأم الحنون، تربينا في حضنه لسنوات عشر، فاستمتعنا بعطفه ولطفه، وتذوقنا من شفقته ورحمته شفقة الآباء بالأبناء واعتناء الأمهات بالأولاد وإكرام المضيف الكريم لضيوفه، ربّانا كما يربي الآباء أبناءهم وإن كنّا وافدين إلى كنفه من بيوت مختلفة ومن بلاد نائية، أطعمنا من مفاخر الأطعمة ما لم نكننتناوله من ديار أنفسنا، وأسكننا في أنعم المساكن، وأتحفنا بأجود التعاليم، فنمنا هادئي البال، وعشنا في أرغد العيش، وتعلمنا أنفع العلوم،وكنا نحسبه أنهلا يهمه شيء إلا العناية بأمورنا، كان مرتاح البال في بهجتنا ومسراتنا مقلقا في غمومنا ومضراتنا، كان يستفسر عن أحوالنا كلما زاره أحد من أساتذتنا أو مشرفي أمورنا، ويرشدهم إلى ما هو خير لنا، ويجنّبهم عما يعسرنا.

كيف لا، هي الكلية التي ضحى في سبيل تأسيسها وتطويرها نفسه ونفيسه، ونسج في ساحتها أحلامه، ورأى في منتجاتها من يحققون آماله ويكملون مهمته، فإن الغاية القصوى من تأسيسها كانت تشكيل جيل جديد من العلماء والدعاة الذين يدعون الناس إلى الحق وينشرون الدين في أرجاء العالم، متملكين جميع المهارات والمقدرات التي يقتضيها العصر، وفكرة الكلية كانت نتاج تجرباته العديدة في المجال التربوي، ففي البداية كانت مدرسة ثانوية داخلية اندرج فيها طلاب المرحلة الثانوية ليتحصلوا على العلوم الدينية إضافة إلىالتعاليم المادية، ثم حولها إلى كلية تابعة لجامعة دار الهدى الإسلامية الشهيرة عالميا.

كل هذه الكلمات التي أكتبها والسطور التي أرسمها مدينة للشيخ المرحوم، فلولاه ما كنت أعلم العربية ولا غيرها من اللغات، ولولاه ما كنت أطيق الكتابة ولا تركيب الكلمات، فكان فراقه فراق الوالد الحبيب أو الأم الحنون، صرنا بفراقه يتامى، وأزيل عنا ظل وارف كان يأوينا، وكِنّ حافظ كان يحمينا، وارتحاله رمانا إلى الشمس والمطر والريح بدون ظلة فوقنا ولا جدر حولنا، وتجرعنا مذاقة اليتم، فإنه كان مأوانا ومنجانا في كل أحوالنا الحرجة وظروفنا الصعبة، ولكنه أخلف لنا وارثه الذي هو ظله أو نسخة طبق الأصل.

تعلمنا لمدة عشر سنينفي كلية سبيل الهداية الإسلامية التي بناها شيخنا الأستاذ بافوتي مسليار وروّاها بحياته، فدرسنا مئات الكتب من عشرات الأساتذة، ولكن أكبر كتاب قرأناه وأفضل درس درسناه وأمثل معلم تعلمنا منه كان هو شخصية شيخنا الأستاذ وسيرته العطرة، فإن حياته كانت كتابا شاملا في الشمائل ومدرسة حية في الأخلاق، جمع فيه جميع خصال الحسن وشيم الخير، فحياته كانت كتابا في الزهد والرقائق، وكتابا في الجود والكرم، وكتابا في الرحمة والرأفة بالعباد، وكتابا في خدمة الخلق، وكتابا في التوكل، وكتابا في البشاشة وطلاقة الوجه، وكتابا في التقوى والاحتياط، وكتابا في التواضع وبساطة العيش، وكل كتاب ذو مجلدات وذو أبواب وفصول.

أما الزهد فقد عرفه العلماء بأنه «أن يكون العبد أوثق بما في يد الله منه بما في يد نفسه»، فكان حياة شيخنا تصديقا لهذا القول، وتطبيقا لوصية الشيخ عبد القادر الجليلاني: «أخرج الدنيا من قلبك وضعها في يدك أو في جيبك، فإنها لا تضرك»، وتحقيقا لما قاله الشيخ زين الدين المخدوم في كتاب الأذكياء:

وازهد فذا قطع علاقة قلبكا

بالمال لا ترك له تك أعقلا

لأنه ما غرته ثروات الحياة الدنيا قدر أنملة وإن صبت على رأسه بالدلاء، كلما أتى إليه المال أنفقه في سبيل العلم أو في قضاء حوائج الناس، وأكبر شاهد على زهادته للدنيا هذه الكلية التي كل مبانيها منتصبة في عقاراته الخاصة، وكل تكاليفها – وهي ما يزيد على مليون روبية هندية شهريا – تؤدى من ماله الخاص والذي يحصله نتاج مداواته للمرضى ومعالجته للمشتاكين واستشارته وتسليته لزائريه المتعددي الأغراض، ولو كان لقلبه أدنى ارتباط بالدنيا وحطامها ما أنفق هذا المبلغ الباهظ في سبيل العلم، وفي الأيام الأخيرة من حياته كان يهم ببيع بعض عقاراته للعثور على تكاليف بناء مكتبة جديدة ضخمة للكلية والتي كانت من حلمه الأكبر، وممتلكاته كانت تعتبر كملكية عامة لأهل البلد، فيستفيدون منها في حوائجهم المتعددة،                                          وكان هناك كثير من الأغنياء الذين يحبونه ويعظمونه يتسارعون إلى استجابة طلباته وتحقيق آماله، ولكن الأستاذ لم يستغل حبهم له ولم يستفد منهم شيئا لصالح نفسه.

وفي الجود والكرم كان شيخنا الأستاذ أعجوبة وأسطورة، فبالإضافة إلى إنفاقه المذكور في سبيل العلم كان لا يحرم أحدا من جوده ونواله، وكان يعين كل ذي حاجة بما يسد به خلتهم وينقذهم من مخالب الفاقة والإعسار، وكان مقداما في قضاء حوائج الناس، لا تجد أحدا من أهل بلده إلا وقد حظي بمسحته الإغاثية، إما بطريق التصدق أو بطريق الإقراض.

أما سيرته في التوكل على الله فلا أطيق وصفها، فكانت حياته تجسيدا لهذه الصفة، وأكبر شاهد على ذلك هذه الكلية نفسها، لأن إدارتها كانت تقتضي المبلغ الباهظ من المال، فتكاليفها اليومية تبلغ أربعين ألف روبية، ومع ذلك لم يقلق يوما في شأن إدارة الكلية ولا في شأن مؤن نفسه ولا أهل بيته، بل توكل على الله حق توكله، فكان يرزق كل يوم من حيث لا يحتسب، فأنفق منه على نفسه وعياله وعلى عشرين من معلميه ومآت من طلبة الكلية، وستة من موظفيها الآخرين بالإضافة إلى أجورهم ورواتبهم.

أما خدمته للخلق والإصلاح بين الناس فكأنما هي مهمة حياته والهدف الأسمى لعيشه، وقف حياته في إدخال السرور في قلوب آلاف الخلق من المؤمنين وغير المؤمنين، وكان ساحة داره ملجأ المبؤوسين والمشتاكين والمتألمين، يزوره الناس بأحمال شكواهم المتعددة، منهم المرضى الذين خابوا من الأطباء والمستشفيات، ومنهم أصحاب الأعمال الذين خسروا في التجارة أو ضاعت لهم الأموال، ومنهم من واجهوا المشاكل في أسباب المعايش، ومنهم من فقدوا بعض الأقارب، ومنهم من عانوا المؤاذاة من الأزواج أو الأولاد، ومنهم من أرادوا الشروع في بعض الأعمال أو بعض المبادرات، ومنهم من توجهوا إلى بعض الرحلات والأسفار، ومنهم من اهتموا ببناء البيوت أو تزويج البنات وما إلى ذالك مما لا يمكن حصره، وكل هؤلاء يرجون بعض الكلمات الطيبة من لسانه المبارك والإرشادات المناسبة لتحقيق آمالهم وتكميل أهدافهم وشفاء أسقامهم وإزالة آلامهم وكشف همومهم، فكل من أتى إلى داره بحزمة الهموم وكومة الآلام يرجع منها منشرحي الصدر ومنبسطي البال ومطمئني القلب، ونماذجها كثيرة لا تحصى، ولا تلقى أحدا اتصل بالشيخ بافوتي مسليار في شيء من حاجته إلا ويحكي لك قصة غريبة أعجبته.

وإذا حلّلت جميع شيم شيخنا الأستاذ وتتبعت سيرة حياته تتبين لك أنه كان أنموذجا في كل الشيم والأخلاق كأنه تخلق بأخلاق الرسول وجعل خلقه القرآن، اللهم تقبل جميع حسناته وخدماته لدينك الكريم، وجازه عنا خير ما جازيت به عبادك الصالحين، اللهم بلّ بوابل الرحمة ثراه وأسكننا معه في فراديس النعيم، آمين يا رب العالمين