مهلا يا أبانا… أأيتاما تذرنا؟

بقلم: عبد الجليل أيّايا

كأني أقف على  شفا ضريح فقيد الأمة، الشيخ المرحوم بافوتي مسليار، حينما تنحدر دموع ذكرياته  على رقة خدي، ثقيلة على دقة كبدي، وعندما تغلو دماء فكرياته على رخوة جسدي، تقلق الأنفاس في غرغرة حلقي من شدة الحزن، ونبضة قلبي تنتفض بكل افتخار واعتزاز، وأخذت الذكريات تطير بغير ريش وشرعت أحلامي تمشي بلا قدم ثم تطرق أبواب ذاكرتي كأنها لا تصبر على سكوت عن البكاء.  وكأن آيات القرآن  المتلوة على قبره رنين أبنائه وأنين أحفاده، الذين فقدوا والدهم الشفيق وأمهم الحنين معا، فذاقوا مر اليتامة بأسرها،   لأن مشاعرهم كلما حظيت بملامسة رعاية  الأب كانوا محسين بملازمة  حضانة الأم وشفقتها على البنون، وأذكر تلك الأيام التي كنت في كفالته في كلية سبيل الهداية، في مرئى من الأستاذ الكريم ومسمع منه.

هاج في ذاكرتي ذكرى أول يوم نزلت في رحاب بيته المبارك – وهي تربة ملموسة بنعومة أظفار الشيخ الفقيد وهي التي حملت على متنها قدميه الشريفين طول مسافة حياته – قبل عشر سنوات،                              يوم امتحان الدخول إلى المنهج الدراسي لجامعة دار الهدى الإسلامية. ساقني والدي إلى عتبة باب إيوانه، وذلك الباب قلما يرى مغلوقا مدفوعا، ولكن مفتوحا على مصرعيه دائما، وهناك في زاوية الغرفة كرسي، ليس بهذا كرسي عادي بل  عرش رباني يستوى عليه الشيخ الجليل دائما بكل الخشوع والخضوع ويتجلى للأمة المألمة بكرة وأصيلا،  وهو المأوى الفريد والملجأ  الوحيد الذي تنحل في محراب عدله العقدة وتنفرج فيه الكربة، وفيها تساق النفوس من ضيق الحياة إلى سعتها، وتقاد القلوب من ضجرتها إلى وسعتها، وذلك المنبر الذي  تحن عندها الآذان  إلى كلماته السلية التي تنزل كغيث ينبت منها الفرح والريحان،

وعندما أقوم في جوار بابه  كان الأستاذ غائبا، مشتغلا برحلاته، وكان الناس مزدحما أمام بيته. ولما قدم الأستاذ من سفره رآني أصغر الناس سنا في لباس بيض، وهو أحب الثياب إليه وهو ملازم به، وحينما ذاك رفع صوته ونادى في الناس: «من هو ولي هذا الولد.» فتقدم والدي إلى الأمام  وقال: « هذا ابني قد حضر له امتحان الدخول إلى معهدكم… « فقربني الأستاذ منه، هكذا كانت معاملته مع الأطفال، ثم وضع يديه الشريفة ورقاني على رأسي، وهذه الملامسة منه هي الدواء العاجل لكل داء عاضل، لأن شفاء الله يتسلل من ينابيع أيديه أو من كليمات يسيرة،   ثم بشر أبي قائلا: « هم (مديرو الكلية) سيتصل بكم…» و لم يلبث حتى اتصل بوالدي مدير الكلية على الهاتف في تلك الليلة بنفسها. وا بشرى في رنين الهاتف تلك الليلة… قد فزت الامتحان حائزا الدرجة الأولى، ولله الحمد…

ولم تزل أيّامي في كلية سبيل الهداية تبين عظمة شخصيته الكريمة. رأيت الناس تزدحم كل يوم قدّام بابه، ساقتهم إليه الآلام الجسدية والروحية وانفضو ا إليه لأجل ضر مسهم والأستاذ يسلّيهم. ولم يجد هؤلاء دواء أشفى من كلمة أو كلمتين مزدوجة بالتبسم والعسل.

كانت فلسفته مؤ سسة على العلم والأدب حتى أفنى                            روحه وعمره وجسده في تشكيل جيل جديد صالح للدعوة الإسلامية والتنمية الإجتماعية على مستوى العالم. كان مشروعه الأول أنه أسس مدرسة ثانوية في تذكار والده الكريم العالم المشهور صوفي عصره الشيخ المرحوم كنجين مسليار. وأدّى للطلبة العلوم الدينية والمسكن والمطعم في المدرسة نفسها والعلوم المادية في مرسة عامة قريبة منها. ولكن بعد اختبار عشرة سنوات رأى طريقا أيسر إلى تصديق آماله من دعوة الإسلامية حتى أتبع معهده للمنهج الدراسي لجامعة دار الهدي.

أهم شيئ مس قلبي أنه كان لنا كأب حنون. كلما قدم من أسفاره أتي لنا بالحلوى. كلما أطّلعُ على صحفات مذكراتي اليومية تفيض عيناي حين أري ما خطه قلمي في بعض الأيام. يوم تلقّانا الأستاذ حين قدم من سفره للعمرة المباركة. وهو يعطينا رطبا في جوفه بادام جاف. وأيام تلقانا بالدعاء والرقية. حتي إن أبناءه بلغوا أكثر من ثلاث مئة عددا.

كراماته عديدة يقصها من جربها طول حياته، أنه نظر حركات العالم جالسا في كرسيه داخل غرفته في منطقة صغيرة من جنوب الهند.مصداقا لقوله عز وجل في الحديث القدسي كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها.

تناديني مذكرات أيام ماضية يوم قدم الأستاذ من بعض أسفاره لزيارة البلاد المكرمة من القدس وأردن ومكة والمدينة. كان يجلس في كرسيه وعوائق السفر تُتعِب رأسه وأجفان عينيه يغلق من أجل التعب. ولكنه يسأل: «هل هناك أرز كافية لغداء الطلبة». نوم التعب على عينيه كلما استيقظ يكرر هذا السؤال.  والله ما أحبَّنا مثله أحد، وما كفلنا مثله أحد.

تتوقف الأقلام لدى ذكرياته تسكت الألفاظ من حزن فراقه. كأن شموس المحبة والجود والتصوف والإيمان تغيب إثر وفاته. كأنا تركنا  هنا في ليلة ظلماء لا نري قمرا مستنيرا ولا شمسا زمهريرا ولا نجوما منيرة. ظلمات الوحشة والدهشة والحزن. كأني أسأل تلك الأحجار التي تفرق قبره من سائر الأرض مقتبسا قول من وُفِّق بأحسن القول:

أيا قبر معن كيف واريت جوده

وقد كان منه البر والبحر مترعا

تقبل الله خدماته لدين الإسلام، ومحى ما كان من السيئات في طرسه وجزاه عنا أحسن ما جزا قائدا عن قومه وسيدا عن أمته وجمعنا وإياه في دار السلام..