إذا هبت ريح الإيمان….

بقلم: محمد طيب كنمفرم

إذا هبّت ريح الإيمان جاءت بأعاجيب باهرة وتبديلات وتغيرات ممتازة في العقيدة والأعمال والأخلاق والسلوك وسائر جوانب الحياة، رأى الناس روائع من الشجاعة واليقين والعفة واليمين والسخاء والأمانة المنسوجة بروح التطوع والاحتساب، المزينة المزدهرة بالتواضع في المظاهر وكبر النفس وسمو النظر، رأوا آيات من العدل والرحمة والوفاء والمحبة والرأفة والعدل والإحسان والاتعاظ والنصيحة، رأوا في أصحابها بشرى تعم الأرض والسماء، حتى نمكن أن نتعلم من شخصياتهم الممتازة دروسا وعبرا تلقتها الأمة المسلمة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

وقد هبت هذه الريح العطرة المباركة في فترات تاريخية، قصرت بعضها أحيانا وطالت أحيانا، أكثرها معلومة مسجلة في تاريخ الدعوة الإسلامية والتجديد الإسلامي، كلما استقصينا عن ذلك زادنا العجب العجاب بهرا. فإن سلفنا الصالح قدم لنا تراثا راسخا وخلف لنا وراثة لامثيلة. هي العلم أو العلماء، والعلم إنما يقوم بالعلماء، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وبهم يقوم هذا العالم والكيان. فالأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما أورثوا العلم. فقد رأينا تاريخنا وتعرفنا أعلاما احتلوا محتلا واسعا في قلوب الناس وأفئدتم، لا نمكن سردهم بحد وافر، هم رجال لا كالرجال «هم الرجال بلى هم الجبال بلى: كالدهر في همة بل سادة كبرى»، وعملياتهم الممتازة تستحق الوسام والتأريخ في اللوح الذهبي، تقديرا لما خدموا لهذا الدين الجليل بجهد فارغ ونية خالصة، ولما قدموا لهذه الأمة شتى المواقف والمظاهر في الثبات على الحق والتشبث به، وفي اتباع السنة النبوية طيلة حياتهم، حتى اتبعوه في أخلاقه الجبلية من الأطعمة والأشربة واللباس، مما ليس فيه وضع حكم خاص من الله تعالى.

ففي هذا الزمان الذي ضربت الناس فتن عديدة، التي قوضت صرح العدالة والاعتقاد والفضيلة، والتي لبست على الناس أمر دينهم وهدمت سلوكهم النفسية، بما تثيره من الهياج للغرائز وبما تبثه من انحلال واتساع، يجب علينا المراجعة ولفت النظر إلى تلك الشخصيات الممتازة، إلى تلك الرجال الذين قادوا وساقوا فكرة الأمة والدعوة، وجددوا الدين في كل قرون، ووضحوا سمحة الملة الحنيفة البيضاء وشموليتها القابلة لكل قرون، الصالحة لكل نسمات العالم، إلى الذين قاموا بأصول ليس فيها التخلف والقعود ولا الملل والاستكانة والإكراه.

ومن غضون تلك الشخصيات الفريدة وذاك التاريخ الباسم تلقينا منها دروسا وعبرا، واستوقفنا تلك المواقف الإيمانية، التي حرضت الأمة بالتمسك والتشبث بالدين على أكمل طريقه ومنهجه، وحثهم على طاعة الله واجتناب عصيانه، والتي تستحق التدوير والالتفات، والتي تقوي العزائم وتنشط الهمم وتذكر الآخرة وتهذب النفوس وتنمي شجرتي الإيمان والعفة في الأفئدة، لا بد من مراجعتها ومعاودتها، حتى يكون سدا إلى حد لهذا الفراغ والتناسي، وريا لكثير من النفوس المتعطشة إلى ذلك «وإن لم يصبها وابل فطل».

ومن تلك المواقف الإيمانية التي تشجعنا وتهز شغاف قلوبنا ما شهدناه في ثبات خبيب بن عدي الأنصاري الأوسي رضي الله عنه إلى آخر النفس، وأنى نمتلك ذاك الإيمان الثابت الذي تجلى وبدى في حياة  هذا الصحابي الجليل، الذي أرسله النبي مع عشرة من الصحابيين إلى حشد من الكفار الذي أتى النبي واستأذن في بعث عشرة من أصحابه ليعلمهم الدين وطلبه، فبعث إليهم ومنهم هذا الشجاع الثابت الشهيد، فغدرهم الكفار وقتلوهم إلا خبيبا وزيد بن الدثنة، فانطلقا من قتلهم إلا أنه بطشه هذا الفوج وحبسه، والذي سن سنة الركعتين حتى قال للكفار لما جاءوا ليقتلوه، «أنظروني أصلّ ركعتين» فصلىها ونظر إلى القوم، وقال قولته المشهورة، تبدو منه شجاعته وإيمانه اللامثيل: « والله لولا أني أخاف أن تقولوا إنه زاد في الصلاة لكي نبطئ بقتله لزدت» ودعا عليهم ثم أنشد بأبيات منها:-

فلست أبالي حين أقتل مسلما

على أي جنب كان لله مصرعي

ومن يتلبس فيرتبح في هذا العصر المتلوث بالخداعة والغدر والغش في سائر الأمور الاجتماعية حتى في الأموال المودعة بهذه التجارة الرابحة والصفقة الشامخة كما تلبس به وارتبح صهيب الرومي، الذي ترك جل ماله بل كله إلا النفقة والراحلة للوصول إلى المدينة وكان ذا مال كثير، والذي قال له النبي صلعم: «ربح البيع أبا يحيى»، ونزل فيه القرآن : «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد» (بقرة 207).

وكيف كان ذاك الصبر والرضا بالقضاء وذاك الشاكر الحليم الذي تبدى وتنور في شخصية عبد الله بن جعفر وقولته للأطباء (عندما قال أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك «ابغوا له مخدرا»، وكان قد دخلت في رجله أثناء مسيره إلى الهشام عظمة ففتحت وصنعت جرحا، وعندما وصل دمشق، فسد الجرح وتحول إلى غرغرينة وتسمم، فجمع أمير المؤمنين الأطباء): «لا والله لا أحب أن أغيب عن ربي طرفة عين»، حتى مد رجله فنشرت بالمنشار.

وبعد ذلك أخذوها ليغسلوها ويكفنوها ليدفنوها، فقال ايتوني بها، فجاءوا برجله إليه، فأمسكها وقال: «اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو، فقد عافيت في أعضاء»، وبينما هو كذلك، إذا بالخبر يأتيه، إن ولده كان على سطح قصر أمير المؤمنين، ثم أطل برأسه لينظر الجياد، فإذا برأسه تغلبه فيقع وتدق عنقه ويموت، فيقول: «اللهم إن كنت قد ابتليت في ابن فقد عافيت في أبناء».

وهكذا عندما يمس الإيمان شغاف القلوب، يصنع الأعاجيب والمستغربات، وكان الصحابة قد تغلغل في قلوبهم حب النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، والمواقف الدالة على ذلك كثيرة، منها موقف الصحابي الجليل سعد بن الربيع الأنصاري يوم أحد حين تخلف كثير من المسلمين من أرض القتال، يتفقد رسول الله بطلا من أبطال المسلمين كان عنده فلا يجده، إنه سعد بن الربيع.

يقول صلى الله عليه وسلم: «مَن رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟»، فقال رجل من الأنصار هو أبي بن كعب: فذهبت لأتحسسه، فرأيته وقد طعن سبعين طعنة ما بين ضربة سيف وطعنة رمح ورمية قوس، فلما رآه قال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويقول لك: كيف تجدك؟

فقال سعد رضي الله عنه قل لرسول الله: جزاك الله عنا خير ما جزى به نبيا عن أمته، وقل للأنصار: ليس لكم عند الله عذر إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، ثم فاضت روحه.

ولتحدق الأطراف إلى آخر ما كان فيه، حين أثخن في المعركة فلم يقو على أن يحارب بنصاله، انتهز بقية الحياة ليحارب بمقاله، ولتصير كلماته دويا في آذان المسلمين.

ومما يزيدنا التفكر والتدبر مواقف الأنبياء والمرسلين الذين قابلوا بلايا شتى ومصائب جسيمة أمثال نبينا وحبيبنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم وأيوب ويونس وغيرهم عليهم الصلاة، وثبات الصحابيين والصحابيات الذين بذلوا نفوسهم وجهودهم لهذا الدين الكريم مخلصين لله تعالى، أمثال الخلفاء الأربعة الراشدين وغيرهم، وهؤلاء الرجال الذين قاموا بتجديد الدين في كل قرون، والذين احترسوا هذا الدين والشريعة من كل أهل الزيغ والضلالة ورفعوها، فكل ما يقع في العالم من الردة فهو ردة ولا أبا بكر لها، ومن الثورة هي ثورة ولا فاروق لها، ومن القضايا فهي قضية ولا أبا حسن لها، ومن المحن والبلايا فهي محنة ولا ابن حنبل لها.

ففي هذه الآونة التي الفساد فيها ضارب أطنابه والظلم فيها ماد رواقه، والتي عم الناس فيه البلايا والشكاوي، والتي ظهر فيه الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا، فلم يعتبروها وما اعتنوا بها، وعدوها من كوارث الدهر وبناته، ولم يتعرفوا بأن ذلك عذاب من الله، فإن الأيام تزيد سرعة في هبوطها وشدة في انخفاضها وإسفافها، حتى توقفنا ووصلنا إلى شفا جرف هار، وأساس منهار، وصرنا بلا مرشد ولا خريت، فانحل عنا اللجام، وانهمكنا انهماك الأنعام، فعلينا وعلى المجتمع الإسلامي أن نتمسك بها ونعتبر منها اعتبار أولي الألباب، وفقنا الله، آمين.