أحمد الصافي النجفي: شاعر أعاد أمجاد الشعر العباسي إلى الأدب العربي المعاصر

ولد الشاعر العراقي الكبير الصافي النجفي سنة 1897 في مدينة النجف بالعراق، لأب من أسرة حجازية الأصل وأم لبنانية من مدينة صور، فنشأ في جوّ حافل بالعلم والأدب في مدينة النجف التي اختلط فيها رواد الشعر والأدب بطلاب العلوم الدينية بالمناضلين في سبيل استقلال وطنهم العراق، وقد اجتمع كل هؤلاء لديه حين انتهى من دراسته الدينية وحصوله على شهادة عالية في الشريعة، ولكن أحمد الصافي آثر أن يثقف نفسه بنفسه وأن يعيش على هواه، فما إن توفيت والدته وهو في السابعة عشرة من عمره حتى انخرط في الحياة السياسية التي يهواها، فاهتم بالقضايا السياسية الكبرى، فانضم إلى حلقات المناضل الشيخ عبد الكريم الجزائري، ومن تلك الحلقات انطلقت شرارة ثورة العراق سنة 1919 التي سرعان ما قمعها المستعمرون الإنجليز، مما اضطر شاعرنا أحمد الصافي النجفي إلى الالتجاء إلى إيران والإقامة بها، وما إن وصل إلى طهران عاصمة إيران واستقر فيها حتى راح يتعلم اللغة الفرنسية، ويعلم اللغة العربية من يريد تعلمها، وقد عاش في طهران ثماني سنوات ترجم خلالها إلى اللغة العربية رباعيا الشاعر الفارسي الكبير عمر الخيام، ثم عاد الصافي خلسة إلى العراق، وراح ينظم الشعر الوطني (يهاجم فيه الاستعمار والمستعمرين) حتى ألهب الحماس في قلوب العراقيين، وما أن اكتشف الإنجليز أمره حتى اعتقلوه وأرسلوه مخفوراً إلى المعتقل في بيروت، حيث أمضى أربعين يوماً كان حصادها المبارك مجموعته الشعرية التي أسماها “حصاد السجن” والتي أهداها إلى الشعب العراقي المكافح، ومن معتقله في بيروت عاد إلى العراق، ولكن لم يستقر به المقام حتى أصيب بمرض نصحه الأطباء على إثره أن يغادر العراق إلى مكان آخر أقل جفافاً، فبدأت رحلة تشرده الطويلة منذ سنة 1935 بين سوريا ولبنان واستمرت حتى لحظة رحيله عن الحياة، تلك الرحلة التي تواصلت حوالي خمسة وأربعين عاماً عاش خلالها للنضال السياسي، وللشعر والفن، وقضى أكثرها في لبنان حيث كان دائم التنقل وكتابة الشعر والاختلاط بالأصدقاء، وحيث أصدر حوالي سبعة عشر ديواناً من الشعر، حتى كانت الحرب الأهلية في لبنان التي أفقدته توازنه بسبب غرابتها وبسبب عجزه عن فهم أسبابها تماماً، فاضطر في مطلع سنة 1977 للعودة إلى العراق، ولم تمض شهور قليلة على عودته إلى وطنه حتى رحل عن الحياة في السابع والعشرين من شهر حزيران سنة 1977 وهو في الثمانين من عمره، بعد أن ترك تراثاً شعرياً خصباً، وترجمة دقيقة لرباعيات الخيام الخالدة، وقد صدرت بعد رحيله مجموعته الشعرية “قصائدي الأخيرة” التي تضم آخر ما كتب من قصائد، يُعَدّ الصافي النجفي بسيرته الشعرية والنضالية قيمة تراثية تستحق التأمل والانبهار في كل حين، وصفه كبير النقاد وعلم المبدعين عباس محمود العقاد بقوله: “الصافي أكبر شعراء العربية”.

خصائص شعره

            يُعَدّ الشاعر أحمد الصافي النجفي بسيرته الشعرية والنضالية قيمة تراثية تستحق التأمل والانبهار في كل حين، وصفه كبير النقاد وعلم المبدعين عباس محمود العقاد بقوله: “الصافي أكبر شعراء العربية”. كما قالت الأديبة المشهورة مي زيادة “الصافي النجفي شاعر كبير دون منازع يعيد أمجاد الشعر العباسي إلى الأدب العربي المعاصر”.

 ولا شک في أن الصافي ترک لنا أنموذجاً رائعاً للشعر الصادق الذي یصوّر لنا حیاة الضنک والبؤس والحرمان ویضجّ بالشکوی والتبرّم من هذه الحیاة، فنحن واجدون فیه الصراحة المُشجیة، والتقلّبات والمشاعر والأحاسیس النفسیة والروحیة الملتهبة التي تتخلّلها العبرات، وتکتنفها اللغة الساخرة المتهکّمة فقد کان الشاعر یمیل رغم تشاؤمه وبرمه إلی السخریة والتهکّم إلّا أنهما سخریة وتهکم نابعان من ذلک البرم والتشاؤم والشکوی، وکأن اللهجة الساخرة المتهکّمة التي مال إلیها في لغته الشعریة ووظّفها لتأجیج تلک الروح التشاؤمیة التي هي إنعکاس لطبیعة حیاة الشاعر، والظروف الصعبة التي مرّ بها، ولذلک فإن شعره تعبير مباشر وصادق عن حیاته استخدم فیه لغة التخاطب والحوار الیومي فإذا به شعر واضح تسوده البساطة والیسر، ولا یتعسّر فهمه علی الأذهان ولایُدخل القاریء في متاهات الغموض والإبهام دون أن ینال ذلک من جزالة ألفاظه، ومتانة تعبیره وسبکه، وتبنّیه للأسلوب الکلاسیکي التقلیدي في النظم، وهو يعيد الى أذهاننا بشعره الساخر الشعبي أجواء الشعر في عصر الإنحطاط لدى بعض شعراء هذا العصر الذين شاعت في تعبيرهم الشعري تلك اللغة الساخرة اليائسة المريرة التي رثوا من خلالها حالهم البائس وحال المجتمع الذي عاشوا بين ظهرانيه كابن دانيال ونصير الدين الحمامي وأبي الحسين الجزار وغيرهم، كما نشهد ذلك في قوله:

عيونُ الناس ناظــرةٌ لثوبي

وقد عميتْ فلــم تبصرْ فـنوني

سأصنعُ من غباوتـِـهم ثياباً

وألبسُ، إن عريتُ، عمى   العيونِ

وقوله:

أنتم نظرتُم ظاهري فضـحكتُم

ونظرتُ باطنَكم فعدتُّ ضحوكا

فلنبقَ نضحك، لستُ قطُّ بظاهري

أهتـمُّ إن يكُ بالـيـاً منـهوكا

كلا ولستُم تحفلون بــباطنٍ

إن كان باطـنُكمْ  غدا مهتوكا

وقوله:

ويكَ يا طالبَ التـقربِ مِـنّي

في اقترابي مشاكلُ لا تطاقُ

أنا كالشمس حسبُك النورُ منها

من بعيدٍ ففي الدُّنوِّ احتراق

وشخصیة الصافي النجفي هي من الشخصیات المتمیزة لأنها تمس القلوب مساً رقیقاً فهو یتخذ لنفسه أسلوباً فریداً جمیلاً لم یسبقه إلیه أحد من الشعراء. وهو یغوص في أعماق المجتمع ویعبر عن ذلک بأسلوب عربي أصيل عبر من خلاله عن آلام قومه و آمالهم، وما یجیش في نفوسهم من رغبات وأمنیات.

والصافي فوق ذلک کله شاعر ساخر یرقی بالسخریة إلی أرقی مدارجها، ویعلو بها إلی أعلی مراتبها. وکان شاعراً یعیش مع الشعب، ویفصح عن آماله ولایرضیه الظلم فهو یثور، ویطالب برفع الظلم عنه، وکفّ ید البطش عن أمته، حتی تستطیع هذه الأمة أن تنعم بالحریة. وهو في أثناء ذلک ینتقد العادات البالیة التي تعرقل حرکة النمو في المجتمع العربي.

حياة الغربة والتشرد والسجون:

عاش الصافي النجفي حياة عجافاً، حياة ممزقة بين السقم واليتم والألم والحرمان؛ مات أبوه ولم يبلغ الثانية عشرة، وتوفيت أمّه ولم يكمل السابعة عشرة من عمره، فداهمته الأحزان والعلل، حتى قال في ذلك:

أسیرُ بِجسمٍ مُشْبِهٍ  جسمَ مَیِّتٍ

كأنّي إذا أمشي  بهِ حامِلاً  نَعْشِي

وعاش غريباً داخل نفسه وغريباً بين أهله وعشيرته “بل الغريب من هو في غربته غريب”؛ كما يقول أبو حيان التوحيدي. فكتب الصافي، بحسّ مرهف وبدمع ذارف، أجمل قصائد الغربة، والمعاناة من السجن التي وصفها بالغربة داخل الغربة لأنه سجن خارج وطنه (أری في غربةِ الإنسانِ سجناً فكیف بسجنِ إنسانٍ غریبِ؟! )، كما عبر عن ذلك في قصيدة “شاعر وأزهار” إذ يقول ونحن نلمس في قوله عذوبة لغة هذا الشاعر وفرط حساسيته الممتزجة بالألم والمعاناة:

أقبّلُ الزهرَ في الأغصان مـزدهِياً

وما تسوغُ كفي قـطفَ أزهارِ

جرّبتُ من غربتي ما لستُ أحـمِلهُ

فما أكلّفُ غيري غربةَ الـدار

تموتُ للـغربةِ الأزهارُ إن قُطِفـتْ

فكيف يحيا غريبٌ رهنُ أسفار؟

لو كان يحملُ حسَ الزّهرِ مغـتربٌ

لماتَ كالزهرِ من همٍ وأكـدار

يبدو لي الزهرُ تزدانُ الصدورُ به

مثلَ الشهيدِ بلا جرمٍ وأوزارِ

“طاف الصافي مدناً ودولاً عديدة منفياً مطارداً من أنظمة متتابعة تسلطت على حكم البلاد ورفعت الشعارات الكاذبة لتخدير عقول أبناء الشعب العراقي وساهمت في تثبيت أقدام المحتلين والدخلاء، أكثر من خمسين عاماً قضاها بعيدا عن العراق تطلب رأسه جميع الحكومات، وتهاجم قصائده كل الحكومات.” ويبدو واضحاً من تلك الأبيات مدى الكره والبغض اللذين كان الشاعر يضمرهما للإنجليز؛ فهو يعتبرهم رذيلة ورجساً على الأرض، بل هم الشيطان نفسه، وهم يحملون صفة الغدر كما يحملها الثعبان في أسوء أنواعه.

وليت شعري أين ذهبت هذه اللهجة المتفجرة كراهية وبغضاً عنا ونحن ننوء تحت الإحتلالين الأمريكي والبريطاني وشتى أنواع الإحتلال الأخرى، فهاهو ذا التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى، ولكننا في هذه المرة نأينا عن نهج أسلافنا فإذا بنا نرتمي في أحضان المستعمرين الجدد القدامى، وإذا بالاستعمار الذي كان بالأمس رجساً وعدواً لله ولرسوله وللإسلام يتحول إلى صديق حميم، نصافحه بحرارة، ونتحالف معه، ونتبادل معه القبلات! متصورين – ويا لسذاجة هذا التصور!- انه سيحل كل مشاكلنا،وسيهب لنا الحرية والديمقراطية المزعومتين، وسيحول بلادنا إلى قبلة للديمقراطية في العالم! وإلى جنة يقصدها السالكون، ونحن لا نعلم – وربما رمينا أنفسنا بالجهل وعدم العلم- أنه السبب الأول والأخير في كل المصائب والكوارث التي نعاني منها وسنطل نعاني منها طالما لازمتنا تلك الأحلام والتصورات المعسولة!

وهكذا فقد نذرالصافي نفسه لمقارعة المستعمرين منذ سنواته البكر؛ فهو من الممهدين لثورة العشرين في العراق بحيث كان بيته، في مدينة النجف الأشرف مسقط رأسه، مقراً للنضال ومأوى للمناضلين يلهب فيهم ويؤجج سنا الثورة شعراً وفعلاً. وبعد أفول الثورة نصبت له الأعواد لشنقه، فأدركه الخبر، فعاش حياة التجوال والاغتراب؛ يفر من مدينة لأخرى، ومن بلد لآخر. فصارت حياته سفراً في سفر، يعاقر المرض والفقر ويمجهما شعراً انطوى على كلّ روائع الشعر وتحف الأدب والفن عبر أسلوب واءم فيه الشاعر بين الشكل والمضمون وبين القوالب الكلاسيكية والمضامين الحديثة. لقد كان الصافي مطارداً من الإنجليز، فحط الرحال، بعد طول غياب، في أرض لبنان، ليناصب الفرنسيين العداء الذين قرروا إبعاد صوته الذي كان يتسلل إليهم من بين الأصوات كفورة دم ولمعة نجم في سماء لا تكدرها الغيوم. فكان لهم ما أرادوا وله ما أراد:

سجنت وقد مرتْ ثلاثون حجة ً

من العمرِ فيها للـسجونِ تشـوّقْتُ

سعى “دعبلٌ” للسجنِ طولَ حياتِه

فخابَ، وفي المسعى لسجني توَفّقْتُ

مرّت بالصافي السنون، وحياته سجال بين المرض والمنون. بيد أنّ النضال كان يهبه أسباب الحياة، ويُلبس خصومه عوامل الخواء،وكانت لعناته منصبة على بريطانيا أم الفساد، والسبب الرئيس وراء كل المشاكل التي نعاني منها:

خسئتْ إنكـلترا واللهُ

أعـمى مُـقلتــيْها

قبرُها في كـلّ أرضٍ

حفـرتْه بــيديـْها

سجنتني دون ذنــبٍ

غير لعني   أبــويْها

أمّنت حربي، وسجني

يعلنُ الحربَ  عليها!

ترى ماذا كان شاعرنا الصافي ليقول لو كانت حياته امتدت الى هذا الزمن الإنجلو – أمريكي، الزمن الذي أصبحت فيه القوى الإستعمارية الكبرى صديقة للمسلمين في ليلة وضحاها! ومن العجب أن (بعض المسلمين) الذين كانوا يدعون حتى فترة قريبة أن تلك القوى هي عدوة الشعوب، والعدو الأول واللدود للإسلام والمسلمين نراهم اليوم وقد تخلوا ببساطة عن شعاراتهم السابقة ليرتموا في أحضان تلك القوى حتى النخاع طالبين منها حل مشاكلهم، وتقديم معطياتهم وإنجازاتهم في مجال الحرية والديمقراطية، فرحمك الله ياشاعرنا الصافي،ولقد أنعم الله عليك إذ لم يمد زمانك إلى هذا الزمن، إذن لكان الكمد والغيظ كافياً لرحيلك من هذه الحياة، لا تلك الرصاصة الطائشة التي أصابتك في لبنان!

الشعر الوطني المناهض للاستعمار

            الصافي النجفي شاعر سياسي ووطني من الدرجة الأولى وبامتياز كما يشهد له بذلك شعره الحافل بالأشعار الوطنية والسياسية المناوئة للإستعمار وعملائه، فلقد شغل هذا الشعر مساحة واسعة من دواوينه ومجموعاته الشعرية، حتى أننا إذا ذكرنا الصافي تداعى إلى أذهاننا الشعر الوطني والسياسي بكل مايحمله هذا المصطلح من معنى.

            وقد ذكر د. العاتي  أن الصافي النجفي قد انتمى إلى حركة المشروطة (الحركة الدستورية) المناهضة للاستبداد، والداعية إلى التعددية الحزبية، والحياة البرلمانية الحقيقية. وأكثر من ذلك فإن الصافي كان يتوفر على مشاعر قومية جياشة. وحينما قاد العقيد صلاح الدين الصباغ حركته الانقلابية اتهمت ألمانيا بأنها كانت وراء ذلك الانقلاب. ويبدو أن تهمة النازية قد لحقت بشاعرنا الكبير الصافي النجفي، حيث اعتقلته القوات البريطانية إثر وشاية ملفقة، وزجّته في السجن لمدة 43 يوماً تفاقمت إثرها حالته الصحية، وشارف على الخطر، لكن القائمين على السجن نقلوه تحت الحراسة إلى مستشفى سان جورج، ثم أعادوه إلى السجن حينما تماثل للشفاء. وخلال مدة سجنه أنجز الصافي ديواناً كاملاً أسماه “حصاد السجن”.