حضارتنا الإسلامية أنارت بقاع الأرض جميعا وامتد ضياؤها إلى كل شبر أشرق فيه نور الإسلام،لا سيما ولاية كيرالا ولاية ممتازة مباركة باعتناق الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكثير من الدعاة الربانيين والهداة المتقنين بذلوا نفوسهم ونفيسهم لإحياء كلمة الله العليا في تلك البقاع المترامية الأطراف .ومن مقدم هؤلاء العلماء البارزين فقيد الأمة العلامة النحرير الشيخ كي.وي محمد مسيار الملقب بـ”أمير الفصحاء السنيين”- تغمده الله بالعفو والغفران- وكان داعية موهوبا متحرقا وربانيا ذا قدم راسخ وذوق أصيل سنيّ المنهج في الطريق إلى الله ولله در قائلا:
وإذا كانت النفوس كبارات
تعبت في مـــــــــــــرادها الأفكـــار
ولادته ونشأته
ولد العلامة الشيخ كي.وي محمد مسليار – رحمه الله- سنة 1915م إبنا للمرحوم الفاضل أحمد ذي الخلق العاطر وللمرحومة الفاضلة آمنة المبجلة بقرية كوتناد إحدى قرى من مقاطعة فالكاد. وأنه نشأ وترعرع في أسرة – كرنغات ولبل- أسرة عادية عريقة في بقعة كوتناد. وقد شاع في الحكم أن بعض الناس يولد شريفا وبعضهم يكتسب الشرف وبعضهم يحمل عليه الشرف، وكان العلامة الجليل من حزبي الأول والثاني،وكان أيضا ممن يحضى بطلاقة وجهه ونور قلبه وحسن سجيته حريصا للعلم مند نعومة أظفاره.وكان زمن نشأته مليئا بالعواصف العاتية والمشكلات المتولدة من السيطرة والسلطنة من قبل البريطانيين المستعمرين ولكن والده الكريم ربّاه بغاية جده وجهده مع قطع النظر عن هذا المناخ الخطير.
دراسته وتدريسه
محبة العلم علامة من علامات الأخيار،وكان هذا العبقري كما ذكرنا شديد الشوق والشغف إلى طلب العلم الذي هو من نور من أنوار الله الحنان المنان مع أن والده كان يبذر في قلبه حبة العلم ومحبته في نصائحه وإرشاداته.وكانت دراسته الابتدائية من المدرسة المحلية بـ”كوتناد”،وخلال هذه الفترة نال العلامة الدرجة القصوى في جل أنشطته متنافسا لأترابه الأعزاء ولأحبائه الأجلاء.
فالمرحلة الابتدائية من تعلمه ما زالت تزيد رغبته العلمية وتحمله على الرحلات والجولات ناويا للدراسة العليا،وتلقى العلامة على يد عدد كبير من الشيوخ الفضلاء مثل الشيخ الفاضل عبد علي المعروف بــ”كوم مسليار” والشيخ العلامة نالل أحمدمسليار والشيخ بابّ مسليار الكوتلنغادي وغيرهم من العلماء النحارير.وشهدت لبراعته وتفوقه الدروس المحلية المشهورة من أماكن متعددة كـ”فلكر وأريكضم، ووينغرا وفتنغاتور، وغيرها من البلاد المختلفة.
وتبحر الشيخ رحمه الله في سائر الفنون الإسلامية مثل القرآن والحديث والفقه والعقيدة والنحو والصرف والمعاني والبديع والمنطق وغيرها حيث كان متفوقا فيها على أقرانه بمراحلة. وكان العلامة متأدبا كريم الخلق نبيل الطبع كثير التواضع ذا دعامة العقل وصفاء السريرة ، وحياته ومعاملاته كانت خير شاهد لهذه الأوصاف النيرة.ما زال العلامة راغبا وراجيا لتحصيل علوم وافرة في ميادين شتى ، وكان شوقه العلمي يكثر ويزداد يوما فيوما ،ولذا عزم للمغادرة إلى “الباقيات الصالحات”بــ”ولور” مشتهيا التفوق والتعمق في الفنون المتنوعة ، ولكن الريح قد هبت خلاف عزمه حيث كانت أمواج البدعة تتلاطم وأسحب الضلالة المظلمة تتراكمت في كل حدب وصوب وفي جميع قاصية ودانية،وكان جم غفير من المبتدعين والإصلاحيين يشتغلون بنشر عقائدهم الباطلة ودعاويهم الواهية باستخدام كل طريق ممكن، فشد العلامة مئزره لمساعدة أهل السنة والجماعة ولمعارضة أهل البدعة والضلالة.
واشتغل بمطالعة الكتب الدينية والمجلات الحديثية والإصدارات المعاصرة متركزا على نيل البراعة والفصاحة في اللغة العربية والمليبارية لأن المبتدعين كانوا في قمة البلاغة وذروتها مع أن العلماء السنيين ماكانوا ملتفتين إلى تزيين لغتهم وتحسين عباراتهم ، وحاز الشيخ رحمه الله حظا وافرا من الآلات المحددة حتى صار خطيبا مصقعا بليغا محرك أفكار المستمعين ومحذر الرؤساء المبتدعين ، وكان أيضا يدعم أهل السنة المصطفوية ويفند الدعائم البدعية بكتابته السحرية.ولم يوفق رحمه الله للتدريس إلا زهاء عشر سنوات في “كودور”و”واواد” قريتين من بقاع كالكوت.
عشيرته المشرفة
قد كانت أسرته أسرة عادية عريقة في بلدة “كوتناد” كما ذكرنا قبل ، وكان اسم والده الشريف أحمد الكوتنادي وأمه آمنة الحنونة وزوجته الفاضلة فاطمة بنت حسن الكوريكوزي الإدفالي. وتزهرت في هذه العلاقة السامية أربعة أبناء،وهم عبد الرشيد وعبد المجيد وعبد الكريم وهو الذي مات منهم بسبب موقد الغاز في جسده فأخدته النار ومات، وفراق ولده ألقى العلامة في حزن شديد ولكن أثبته الله بالصبر الجميل ، ثم سمّي لولده الرابع باسمه عبد الكريم ، وأربعة بنات أيضا فهن صفية وحفصة ورملة وزهرة . وكان العلامة في أكثر أوقاته مشتغلا بخدمات الأمة، وكان لأسرته مثل لأهل البيت، يزرع في حقله متزيا بزي الزارع العامي كعادة الصوفية ، ومما يشاهدذلك قول رجل عنه أنه زار بيته لدعوته إلى الجلسة في قريته بأنه كان في الحقل مشتغلا بالزرع.
علاقته بجمعية العلماء
كانت للعلامة علاقة وطيدة بجمعية العلماء بعموم كيرالا (سمستا) في فترة حياته كاملا، وإن هذه الجمعية لقد حظيت باستقطاب كوادر العلماء المتفوقين في شتى المجالات منذ بدءها حتى الآن. والعلامة كي.وي محمد مسليار كان مشهورا ومعروفا لدى العلماء بخطبه الجذابة ومقالاته الوهاجة ، ومن أهم الأسباب التي ساقت شهرته وسارت بصيته الأعناق إلى الأباعد خطبته الممتازة بقرية “تانور”(TANUR) سنة 1954م المشجعة لعقائد أهل السنة والجماعة والمبطلة لأساطير البدعة الواهية الزاحفة.
تولى العلامة عضوية لجنة التعليم الدينية الجارية تحت جمعية العلماء في سنة 1954م ثم فاق منصبه طبقا بعد طبق، واختير عضوا من الأعضاء المشرفة لمشاورة جمعية العلماء في سنة 1955م ، وفي العام 1956م تولى منصب أمين العام لمشاورة جمعية العلماء بعد وفاة الشيخ شهاب الدين إبن السعادة أحمد كويا الشالياتي- قدس سره – في 20 من سبتمبر سنة 1956 م ،وكان رئيس الجمعية آنذاك مولانا الشيخ عبد الباري مسليار وأمينها الشيخ محي الدين مسليار البارونى رحمهما الله.ثم استقر بمنزلته هذه إلى أن يلبي نداء ربه .وخلال هذه الفترة الطويلة اشتهر مكانه لدى العوام واستطاع له أن يطيد علاقته بشبان كيرالا خاصة،وكانت له أيضا علاقةوطيدة بتجار كالكوت بسبب تأثر خطبه طوال الأيام والشهور.ثم في 1962م اختير رئيسا لاتحاد الشبان السنيين(S.Y.S) وفي هذه الفترة أصدرت مجلة رسمية من قبل الجمعية تحت عنوان “سني تيمس”(SUNNI TIMES) ،هو أول إصدار لجمعية العلماء في اللغة المليبارية محضا ،فجريدتي “البيان” و”البرهان ” المصدرتين تحت الجمعية قبل ماكانتا في اللغة المليبارية محضا.
ومن مناصبه أيضا أنه كان عضوا للهيئة التعليمية الدينية (S.K.S.B.V)منذ 1955 م ونائب الرئيس لها منذ 1957 م وعضوا للجنة الامتحانية (EXAMINATION BOARD) وخدم الأمة أيضا رئيسا للمدرسة الداخلية (BOARDING MADRASA) ورئيسا لمجلس جمعية المعلمين لعموم كيرالا(S.K.J.M.C.C) ورئيسا لمجلس جمع الهدايا لرخاء المسلمين(MUsLIM WELFARE) وغيرها من المناصب العالية. وكان أيضا مشتغلا برئاسة كثير من المعاهد الدينية والكليات الإسلامية. ولقد كان من مبادراته الذكية التي نشأت بثقافة جديدة وعالم جديد كلية دار الهداية للدعوة التي اشتهرت بالمنهج الدراسي الجامع بين القديم النافع والجديد الصالح.
دار الهداية للدعوة
هذا مركز تعليمي إسلامي نمى وارتعش تحت رعاية العلامة وحضانته،وهو مركز مركب من المنابر العلمية والمعاهد الإسلامية في أنحاء مقاطعة مالابرم مثل مدرسة دار الهداية للبنين والبنات وكلية داخلية خاصة للبنات ومدرسة دار الأيتام وغيرها من النشاطات المختلفةـ ومن أبرزها كلية دار الهداية للدعوة تابعة جامعة دار الهدى الإسلامية بـ”تشماد” ، أسست على هدف الدعوة الإسلامية في سنة 1999م،تقع في بقعة مانور ،أدفال من مقاطعة مالابرم من ولاية كيرالا،الهند. ومن أهدافها تشكيل جيل جديد يقوم بالأعمال الدعوية والنشاطات الدينية في مستوى العالم ،تحقيقا لهذا الهدف الجليل يستخدم هنا منهج ممتاز تطول مدته إثنا عشرة سنة مند المرحلة الثانوية إلى انتهاء المرحلة العليا أي الماجستير في الآداب والشهادات الحكومية للعالية في الدراسات المادية.
تصنيفاته المرموقة
وكانت من ميزته جرأته الشديدة باختيار طريق ممتاز خلافا للتيارات العصرية، ولذا خاض إلى مجال التصنيف بعد التفوق في اللغات متركزا على تأييد عقائد أهل السنة والجماعة وتفنيد أهل البدعة والضلالة. ومن أبرعها وأنسقها تفسيره المشهور المسمى بـ”فتح الرحمن في تفسير القرآن” وستأتي تفاصيله إن شاء الله.ومنها ماصنفه جوابا للكتاب المسمى بـ”بحذير الإخوان من ترجمة القرآن” للشيخ إي.كى حسن مسليار في بيان صحية ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية كتابه المسمى بــ”ترجمة القرآن في ضوء البرهان”، وهوكتاب ممتاز جدا يبين فيه الأدلة العقلية والنقلية لإثبات دعواه في أسلوب جذاب .ومنها ماصنفه في الفقه الشافعي “غنية الإماء في أحكام الدماء” يبحث فيه المسائل المتعلقة بالحيض والنفاس والاستحاضة وما إليها. من تبرعاته الثمينة أيضا ماتلي: “حسن الخلق من آثار سيد الخلق” و”القنوت والدعاء الجماعي” و”السنة والبدعة” و”التوحيد” و “الزكاة في الإسلام” و “الإسلام والشيوعية” و “لجنة سمستا وتاريخها” وغيرها من المقالات العلمية في القضايا المختلفة.وقد خدم أيضا محررا للمجلة “المعلم” التي تصدر تجت جمعية المعلمين لعموم كيرالا،ومساعيا لمجلتي “البيان” و ” البرهان”.
فتح الرحمن في تفسير القرآن
ومن الحقائق الناصعة التي لا تقبل الجدال أن القرآن هو كتاب سماوي معجز لكافة الثقلين لغة وبيانا وبلاغة وما إليها،وهو دستور الأمة المسلمة لا تزال المسلمون متخلصين من الأزمات العصرية والعراقيل الحديثية ما داموا متمسكين بهذا الدستور الموقر. ومع هذه الحقيقة النضة لا تفهم معانيه ودقائقه ولا يوجد لبه وقشره إلا ببيان العلماء الراسخين العباقرة وبعبارات العظماء الجهابذةـ وجم غفير من العلماء أجادوا أفكارهم وأجالوا أنظارهم في الآي القرآنية حتى فسروها وناقشوا فيها مع تناول القضايا المعاصرة والموضوعات الفكرية،وكان العلامة كي ـ وي محمد مسليار ممن شدوا مئزرهم وشيدوا لبذل الوسع في تفسير القرآن وبيان غرائبه ،وتفسيره – فتح الرحمن في تفسير القرآن – من أبرع مصنفاته صيتا وشهرة وأنسقها عبارة و أسلوبا ، وهو تفسير يعالج القضايا الخصمية صنفه ردا واعتراضا على التيارات البدعية المنشورة بتفاسير سي . أن أحمد المولوي وأمان الله المولوي وعمر المولوي حيث كانت مليئة بأفكار واهية ومعاني زاحفة ومختلطة بالدعاوي الباطلة المخالفة بمواقف أهل السنة والجماعة.
فاشتدت مسؤولية العلامة واشتغل بتفكر طرق أدائها وتكميلها حتى أمره الفضيلة السيد عبد الرحمن البافقي على تصنيف تفسير ممتاز في اللغة المليبارية يعالج القضايا الخصمية ويقوم بتشييد مواقف أهل السنة والجماعة وتهديم أهل البدعة والضلالة. فلبى العلامة لدعوة الزمان بتصنيف التفسير الممتاز المسمى بـ”فتح الرحمن في تفسير القرآن” مع توضيح أصول أهل السنة والجماعة وتفنيد عقائد البدعة والضلالة.
وقد طبع تفسيره مرارا في سنة 1980،1981،1983،1985 م من المطبع الإسلامي بتشماد، وبعد مضي ثلاث سنوات صار فتح الرحمن تفسيرا شائعا بين الأوساط العلمية بولاية كيرالا،حتى تهيأ الأمير الفاضل الحاج زيد محمد رئيس مركز الشبان السنيين بــ”ألعين” لنشره مرة ثانيا مع تحقيق وتوضيح العلامة فضيلة الدكتور محمد بهاء الدين بن جمال الدين الندوي نائب الرئيس لجامعة دار الهدى الإسلامية.
وقد سلك العلامة في تفسيره منهج البحث والتحليل والمناقشة حول القضايا الخصمية بين فريقي السنة والبدعة،وربما يحكي الأقوال من التفاسير البدعية ويفندها ويقوم بتصحيحا في ضوء الآي القرآنية والأحاديث النبوية. ومن الجدير بالذكر هنا أنه وضع مقدمة قصيرة في بداية كل سور يشير فيها إلى فكرة السورة المبحوثة وفضائلها، وأنه يقوم ببيان الحقائق العلمية العصرية عندما يفسر الآي المتعلقة بالأفلاك والنجوم والحيوايات وما إليها. فلا شك في أن هذا من أبرز التفاسير المليبارية الذي لم يزل ولا يزال تزرق قبولا حسنا بين الأوساط العلمية بولاية كيرالا،ولا ينسى دوره في نشر عقائد أهل السنة والجماعة وتأييدها عبر السنين.
فراق حزين
لبى الأستاذ نداء ربه في يوم 11 من الشهر المحرم سنة 1421ه \2000م بعد إتمام نشاطاته الثمينة وتبرعاته النفيسة لجميع الأمة ولأصحابها تصديقا لقوله تعلى ” كل نفس ذائقة الموت” ، ودفن في مقبرة المسجد الجامع بـ”أدفاض” ، ويعقد جلسة خاصة لتذكاره ولدعائه في سنة تاريخ 11 من المحرم في ساحة دار الهداية ،وفقنا الله لاجتماع معه في فراديس الجنان مع الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين. آمين.