ما قالت جدران دار المصطفى

مهما تتعدد المذاهب والنظريات ومهما تتغزر الآراء والمقالات حول أسرار السعادة الأسروية وفنونها وسبل الوصول إلى شغفها  ‏تفشل الأذهان والعقول السليمة أن تصل لتلك الصورة المثالية المشرقة، التي قدمها نبي الرحمة لأمته في تعاملاته مع أزواجه وأولاده وأحفاده، لم ‏تشهد جدران دار الرسول خلال حياته الزوجية طوال ثمانية وثلاثين سنة  تسلط خصائصه النبوية ومحنته الدعوية على معاملته البشرية ‏ومكارمه الإنسانية،بل كان لأولاده أبا شفيقا ولأزواجه زوجا حنونا.

في التعامل مع أزواجه كان هديا رائعا وعلما ساطعا، تعامل مع تسع نسوة مختلفات في الطباع والأعمار والتصرفات والميول والرغبات والنشآت، ‏فكان لهن زوجا مونسا وحبيبا رفيقا وأخا مسليا وأبا رحيما وصديقا ناصحا، كان ينصحهن ويمازحهن، يداعبهن ويقدر مشاعرهن، يسمع ‏شكواهن ويكفكف دموعهن، يصبر على أذاهن ويقف بجوارهن ويؤازرهن في السراء والضراء، فهو خير زوج شهدته البشرية في تاريخها أروع مثل ‏لكل زوج يجتهد لإقامة بيت إسلامي ببيئة إسلامية ، فالله عز من قائل “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة”، ‏

أما بالنسبة لأولاده وأحفاده فكان لهم أبا كريما ذا رأفة ورحمة وشفيقا ذا حماية ورعاية ممزوجة بالبساطة واللطف يتصابى لهم ويجلس إليهم كأنه ‏واحد منهم يتعامل معهم كأنه قرينهم، يستمع لهم ويحنو إليهم ، كان كثيرا ما يزور ابنه إبراهيم فوق الأتلال من عند ظئره، لا يبالي مشقة الصعود ‏والنزول، يصلي بحفيديه في مسجد المدينة يركبه أحدهما ويعلو على ظهره وهو ساجد، ما شتمه ولا أزعجه بل انتظر ومعه الأصحاب حتى يفرغ من ‏لعبه، يسح الدموع ويبكي لفراق ابنه فيسأله صاحبه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : وأنت يا رسول الله؟ فقال :” يا ابن عوف إنها رحمة، إن العين ‏تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون”،

وفي داخل بيته كان واحدا من أهله ، يهتم بزوجاته ويساعدهن في شؤونهن، وعندما سئلت السيدة عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يصنع في بيته؟ ‏ قالت: “‏‎ ‎كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، وكان الرسول الكريم يخيط ثيابه ويصلح نعله ويحلب شاته ويخدم نفسه، تخفيفا ‏منه على زوجاته وإعانة لهن ولم ير- صلى الله عليه وسلم- في ذلك ما يتناقض مع رجولته وكرامته وقوامه على زوجاته وأهل بيته كما يدعي العديد من الأزواج ‏اليوم، وقوانين علم النفس المتعلقة بتعامل الأزواج المحرضة لإدامة المودة. خصوصا إظهار المحبة وإعلامها كل من الزوجين الآخر، قدمها النبي لأمته ‏بإجابة موجزة للصحابي‎ ‎عمرو بن العاص،‎ ‎حين سأله صلى الله عليه وسلم : من أحب الناس إليك ؟ قال‎ : ‎عائشة‎ . ‎قال : من الرجال ؟ قال : أبوها، فأكثر ‏بمسرة زوجة سمعت مشافهة من زوجها كلمة مثل هذه،

وهل يخطر بالبال أن ملكا من الملوك بين حراسه أو حبرا من الأحبار حوله أصحابه ويتبعه زوجته الشقيقة ، يطلب منهم أن يتقدموا لينفرد معها ثم ‏يسابقها؟ فهذا ما تروي ملكة الرسول السيدة عائشة رضي الله عنها عن ملاطفة الرسول صلى الله عليه وسلم قالت‎: ‎خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا ‏جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا ، فتقدموا، ثم قال لي : تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت ‏اللحم وبدنت ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس تقدموا فتقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك فسابقته فسبقني، فجعل ‏يضحك‎ ‎وهو يقول: هذه بتلك،

أما رأى من ينقد الرسول ويعاتب عليه من المستشرقين والعلمانيين الذين يزعمون أن النبي لم يكن محترما ولا مقدرا للمرأة أنه كان يتشاور مع ‏زوجاته ويستشيرهن في الأمور المختلفة، حتى في التعامل مع أتباعه وتنفيذ أوامره، تقديرا منه لرجاحة عقلهن وسلامة منطقهن، فيوم الحديبية ‏حينما عاهد مع المشركين وأمر أصحابه بالتحلل من العمرة، ولم يطيعوه لما كان فيهم الرغبة الراقية لالتزام الكعبة والرجوع الى أوطانهم، يدخل ‏على زوجته أم سلمة ويحل الورطة ويصف لها ما لقي من الناس، قالت: يا نبي الله: أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك ‏وتدعو حالقك فيحلقك فخرج النبي وعمل بنصيحتها، فلما رآه الصحابة أخذوا يقلدونه فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا، وفي غار حراء عندما ‏شعر الصادق المصدوق بالفزع الشديد عندما أتاه جبريل عليه السلام‎ ‎وهو يتعبد في الخلاء، كانت السيدة خديجة أول من يفزع إليها النبي صلى ‏الله عليه وسلم وينشر أمامها همه ويأخذ برأيها، تشير إليه بأن يذهبا إلى ابن عمها نوفل، ويستمع إلى نصحها عندما تؤازره وتعضد من موقفه في ‏وجه كفار قريش،

وفي الجانب المثالي أتحدى هل يوجد نظير لابن عبد الله في شمائله، تقول عائشة: كنت أشرب فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه‎ ‎على موضع في، و أتعرق ‏العرق فيضع فاه على موضع في، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض و إذا كان بالليل سار معي يتحدث ويتنزه،‎ ‎وكان إذا ذبح شاة يقول “أرسلوا بها إلى ‏أصدقاء خديجة”، كانت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان ذلك يومها‎ فأبطأت في المسير،فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي،وتقول حملتني ‏على بعير بطيء، فجعل رسول الله يمسح بيديه عينيها ويسكتها، ما ضربهن مرة وما شتمهن غفلة وما سألهن لم فعلت كذا وكذا.

من عبس من المؤرخين والنقاد والقراء أمام تزويج النبي لأمهات المؤمنين، ومن تصور دور الشهوة والمتعة فيه، يغمضون الطرف ‏ويسودون النهار ويسترون البزوغ، أما طالعوا أن خديجة، شقيقة الرسول الأولى كانت سابقة في السن بخمس عشرة حجة، أما رأوا أن زوجاته ‏كلهن ثيبات إلا عائشة مع أن الأمين الصادق أشد استطاعة من تزويج الأبكار، أما اطلعوا على أن سودة بنت زمعة كانت فقيرة ضعيفة لا تشتهى حين ‏أضافها النبي إلى حياته، وكلهن فارقن الدنيا وقلوبهن طماعة إلى رسول الله، بل ينافسن بينهن لتحصيل مودة الرسول كما روى البخاري عن عائشة ‏رضي الله عنها قالت‎ ‎‏”ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على‎ ‎خديجة‎ ‎وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ‏ثم يبعثها في صدائق‎ ‎خديجة‎ ‎فربما قلت له كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا‎ ‎خديجة‎ ‎فيقول‎ ‎إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد”.

أما تعدد زوجاته بالنسبة إلى الحوائج الإنسانية الشهوانية، من مؤانسة الأزواج والمبيت معهم، فكان صلى الله عليه وسلم يعدل بينهن في المبيت وفي ‏السفر وفي أداء الحقوق والواجبات الزوجية، ففي السفر، كان النبي صلى الله عليه وسلم تصحب معه من يخرج سهمها في القرعة عدلا وإنصافا منه، فقد روي عن ‏عائشة أنها قالت” ‎ ‎إن النبي صلى الله عليه وسلم كان‎ ‎إذا خرج أقرع بين نسائه‎ ‎فطارت القرعة‎ ‎لعائشة‎ ‎وحفصة‎ ‎وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار ‏مع‎ ‎عائشة‎ ‎يتحدث فقالت‎ ‎حفصة‎ ‎ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر فقالت بلى فركبت فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى ‏جمل‎ ‎عائشة‎ ‎وعليه‎ ‎حفصة‎ ‎فسلم عليها ثم سار حتى نزلوا وافتقدته‎ ‎عائشة‎ ‎فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وتقول يا رب سلط علي عقربا أو ‏حية تلدغني ولا أستطيع أن أقول له شيئا، وكان يقسم بين زوجاته بالعدل إلا أن تتنازل إحداهن مختارة، و كان يقسم لكل امرأة منهن يومها ‏وليلتها غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة تبتغي بذلك رضى رسول الله”،

حينما وئدت البنات واعتبرت ولادتها هوانا وذلا، وتوارى أبوها من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، قام الأمين ‏بينهم ببشارة ولادة فاطمة ابنته وأعلن حبه إياها وقال فاطمة بضعة مني فمن أحبها فقد أحبني ومن أغضبها فقد أغضبني، أعظم البنات في ‏أوساط رحلهن بعد أن كن تقبرن بالحضيض، فجعل من أتم المعاملة معها أن يقام لها احتراما وتكريما عن‎ ‎عائشة‎ ‎رضي الله عنها قالت‎: ‎ما رأيت أحداً كان ‏أشبه سمتا ودلا وهديا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها ‏قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها،

ضرب عمل نفسه مثلا لأمته أن كان إذا ولد له مولود أذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى،وحنكه بحلو كالتمر، وسماه باسم ‏جميل، ويذبح عنه عقيقة، ويختن الصبي، ويحلق رأسه ويتصدق بوزنه فضة، يمسح رؤوسهم ويقبلهم ويداعبهم، ويطيب خواطرهم، ويحملهم ‏بين يديه وينفق عليهم، ويسوي بينهم في العطية،‎ ‎وحمل حفيدته أمامة بنت زينب وهو يصلي، رحمة بها وكفا لبكائها ، قد عجب الأقرع بن حابس ‏من تقبيله لحفيده الحسن بن علي،‎ ‎كان يمازح الحسن أو الحسين، ويأخذ بكفيه ويجعله يرقى بقدميه على صدره، ثم يقبله، وكان يخاف على ‏أولاده وأحفاده، ويرقيهم بالمعوذات، ويقول للحسن والحسين “أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة”،

وبالكلمة، السيرة النبوية والسلوك المحمدي نظام  تربوي كامل  يسترشد به على مستوى العالم، واتباعه هو العلاج الشافي لكل ما ‏يعتري العلاقات الزوجية من الأزمات والفتور والمشاكل التي تسبب في كثير من الأحيان إلى حد الانفصال وتشريد الأبناء وهدم المنازل العامرة.

سلام على دار الرسول وأهلها ‏

                 فقد صرت بعد القرب بالدار نائيا

 

  • بقلم: صالح الهدوي توتا