خليل بن أحمد ومساهماته في صناعة المعاجم العربية

بقلم: أبو بكر كي في

إن المعاجم تحتل مكانة ملحوظة في دراسة العلوم العربية فقد اهتم المتقدِمون اهتماما بالغا بصناعة المعاجم. وهي  في أول أمرها ‏‏جاءت لخدمة القرآن و الأحاديث النبوية، إذ كان الناس يحتاجون إلى المعاجم لفهم القرآن والحديث.‏

وهذه المقالة تهدف إلى تاريخ صناعة المعاجم والدور الذي قام به خليل بن أحمد الفراهيدي في إثراء العلوم العربية بصناعة ‏‏المعاجم وهو مشهور بعمله الرائع “العين”.‏

وهو مؤسس علم العروض وواضع أول معجم عربي، ولد في عمان سنة 175هـ، وترك موطنه إلى البصرة فنشأ فيها. كان عالما ‏‏نحريرا في كثير من العلوم والفنون حتى إنه لم يكن هناك عالم أكبر منه بالبصرة وقت حياته. فمن العلماء اﻟﺫين تلقى عليهم علومه أبو ‏‏عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، وغيرهم، فاجتمع له العلوم والمعارف ما أتاح له أن يكون أستاﺫ البصرة في عصره، بلا منازع حتى وفد إليه ‏‏آلاف من التلاميذ يشربون من معينه من كل حدب وصوب فصار منهم علماء نبلاء أمثال: سيبويه، والكسائى، والنضر بن شميل، والأصمعى ‏‏وغيرهم. وقد اعترفوا جميعا، وكلهم أساتذة كبار، بريادته في اللغة، والنحو، والعروض، وعلم الموسيقى، والرياضة.‏

وكان الخليل إلى علمه الغزير متواضعا، زاهدا، ورعا، يحج كل سنتين مرة، ويعيش في خص من أخصاص البصرة، أكلت الدنيا ‏‏بعلم الخليل و كتبه، وهو في خص ، وتلاميذه كانوا يكسبون بعلمه الأموال‎.‎‏ ومن حكايات زهده، أن سليمان بن حبيب بن أبى صفرة والي ‏‏فارس والأهواز، كان يدفع له راتبا بسيطا يعينه به، فبعث إليه سليمان يوما يدعوه إليه، فرفض، وقدم للرسول خبزا يابسا مما عنده قائلا: ‏‏ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان.‏

والخليل هو أستاذ سيبويه واضع ” الكتاب” أول وأفضل كتب النحو، واعترافا من سيبويه بفضل أستاذه، فإننا حين نقرأ في ‏‏الكتاب (سألته ) أو ( قال) من غير أن يذكر الضمير، نعرف إنه يعنى الخليل بن أحمد‎ ‎‏ قال سفيان بن عيينة ” من أحب أن ينظر إلى رجل من ‏‏ذهب ومسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد”.‏

فقد كان الخليل يقف عند ظواهر الأشياء وقفة المتعمق ويغوص فى مكامنها غوص الواعى الحريص على استنباط كنهها ‏‏واستخلاص النتائج مما غمض على عامة الدارسين من أسرارها فيبرزها فى صورة جلية واضحة سرعان ما تغدو قواعد يحتذيها كل سائر على ‏‏درب الفكر والعقل‎ .‎

كانت عقلية الخليل بن أحمد من ذات النوع الدؤوب الذي تشغله القضايا حتى تملك عليه كيانه فيظل يصارعها وتصارعه حتى ‏‏يجليها الجلاء الحسن ويطرحها للناس الطرح المفيد فيفيدون منها ويحتلبون مزايدها ويطورون فيها أن استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ولقد شغل ‏‏الخليل نفسه بعلوم اللغة العربية وتراكبيها وأوزانها واستنبط لنفسه وسائلها وأدواتها الخاصة شأن كل صانع ماهر وعالم حصيف يعكف ‏‏على تطوير أدوات العمل التي بين يديه حتى تستجيب لتطلعاته العلمية المتشوقة إلى الاستنباط والوصول إلى النتائج الأفضل للبحث الطويل ‏‏المتعمق‎ .‎

ولعل الدارسين يعرفون من أعمال الخليل عملين اشتهر بهما أيما شهرة وذاع صيته فى الأفاق تأسيسا على قدرته الإبداعية الفذة ‏‏التي بدت معالمها فى العملين كليهما أكثر من أعماله الأخرى التي لاتقل أهمية ولكن طالت يد الحدثان منها الكثير‎.‎

وكم كان يتبرم الخليل ويضيق صدرا بعجز الناس عن فهم ما يريد ون إدراك ما يضع من أصول وقواعد، ولما كان يبلغ به اليأس ‏‏مبلغه كان يلجأ إلى صرف الناس عما يشغله من هموم العلم وأبحاثه نظرا لما لمسه فى هؤلاء الناس المحيطين من قصور لارجاء فيه وتقاعس ‏‏لايشفى غلته الظامئة إلى مواصلة البحث والتطلع إلى بناء أركان علوم ثابتة الدعائم تعزز وجود اللغة العربية وتبقيها صحيحة وسالمة وطيعة ‏‏الحرف لمن أراد قرض الشعر المنظوم أو نطق الكلام المنثور نطقا صحيحا مستقيما يؤدي المعنى المراد فى سلاسة ويسر‎.‎‏ لقد انتقل هذا العالم ‏‏الهمام إلى جوار الله عام 175هـ ودفن ببصرة.‏

تعريف كتاب “العين”‏

لقد شق الخليل بن أحمد الفراهيدي أول طريق في التأليف المعجمي بتأليفه كتابه المشهور كتاب العين. فلا يتم البحث عن تطور ‏‏الصناعة العربية إلا بالبحث عن هذا العمل الجسيم فقد اختار الخليل لكتابه هذا طريقا ممتازا وذلك بترتيب المواد على الحروف حسب ‏‏مخارجها،‎ ‎وتقسيم المعجم إلى كتب، وتفريع الكتب إلى أبواب بحسب الأبنية، وحشد الكلمات في الأبواب، وقلبُ الكلمة إلى مختلف الصيغ التي ‏‏تأتي منها. فهنا نبحث عن خصائص هذا المعجم وعن ميزاتها المتنوعة.‏

طريقة العين

أما طريقة ” العين ” من جمع المفردات اللغوية فهي تعتمد التقليبات أساسا، فقد وجد الخليل أن اللغة لا  تتجاوز 29 حرفاً، ‏‏والكلمات العربية إما ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو خماسية، وعن طريق التبادل بين المواقع حروف اللفظة الواحدة أمكنه الحصول على ‏‏ضربين في الثنائي، وستة من  الثلاثي، وأربع وعشرين ضربة من الرباعي، ومائة وعشرون من الخماسي، وبهذا استطاع حصر المفردات في اللغة ‏‏غير أنه وعن طريق إحساسه اللغوي الصوتي، ومعرفته بكلام العرب، وثقافته اللغوية الواسعة توصل إلى معرفته المستعمل من حاصل ‏‏التقليب. فالعين لم يعتمد مصادر مدونة قبله ولا اعتمد الروايات اللغوية أساسا لهذا العمل الضخم. ‏

فالألفاظ التي تتكون من حرفين مثلاً: رد تكون معها در، وقد تكون معها دح، أما في الثلاثي فمثل: جبر، جرب، بجر، برج، رجب، ‏‏ربح، وفي الرباعي مثل: بعثر، بثرع، بثعر، برعث = 24 أما الخماسي مثل سفرجل = 120 تقليباً وطريقته في الإحصاء ضرب 28 وهو عدد حروف ‏‏الهجاء في 27 أي عدد الحروف بعد طرح الحروف من التركيب المراد، وبالتالي نحصل على 756 تركيباً يدخل ضمنها المهمل. وقد أهمل في ‏‏الثنائي التركيب الذي يضم حرفين متماثلين مع أنه ورد في العربية قق، وصص، و دد (‏ ‏)‏

ويقرن كلامه عند كل حرف بلفظه  مستعملات  وحين يترك الباقي فذلك يعني أنه المهمل. وحين فكر بترتيب العين حسب المخارج ‏‏الصوتية وجد أن الألف لا يمكن أن يبدأ به، يقول عبد الله درويش في مقدمة العين 🙁 لأن الألف حرف معتل فلما فاته الحرف الأول كره أن ‏‏يبتدئ بالثاني وهو الباء إلا بعد حجة واستقصاء النظر، فدبر ونظر إلى الحروف كلها وذاقها فصير أولاها بالابتداء أدخل حرف منها في ‏‏الحلق)(‏ ‏)‏

ثم يأتي الدكتور عبد الله درويش على طريقة الخليل في تحديد مخارج الأصوات بقوله : ” وإنما كان ذواقة أيها إنه كان يفتح فاه ‏‏بالألف ثم يظهر الحرف ،نحو : أب ، أت ، أخ ، أع ، أغ ، فوجد العين أدخل الحروف في الحلق فيجعلها أول الكتاب ثم ما قرب منها الأرفع ، ‏‏فالأرفع، حتى أتى على آخرها وهو الميم. فإذا سئلت عن كلمة وأردت أن تعرف موضعها فانظر إلى حروف الكلمة فمهما وجدت منها واحداً في ‏‏الكتاب المقدم ـ يعني الباب ـ فهو في ذلك الكتاب (‏ ‏). ‏

ترتيب العين

وقد رتب العين بحسب مخارج الأصوات من الحلق وهي :‏

ع ح ه خ غ \ ق ك \ ج ش ظ \ ص س ز \ ط د ت \ ض ذ ث \ ر ل ن \ ف ب م \ وأي همزة .‏

وجاء في تعليق الدكتور حسن ظاظا (‏ ‏)على هذا الترتيب قوله: ( وقد سقط في هذا الترتيب الغين ، والتاء ، والذال ، والظاء )‏

وقد رتبها ابن منظور في مقدمة ( اللسان ) (‏ ‏) خلال وصفه كتاب العين على النحو التالي :‏

ع ح خ غ \ق ك \ ج ش ض \ ص ز س \ ط د ت \ ظ ذ ث \ر ل ن \ ف ب‎ ‎م \ ي و ا .‏

ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا : إن الخليل كان رائداً للطريقة الصوتية في ترتيب المعجم العربي حسب مخارج الحروف ( والمتصلون ‏‏بعلم اللغات يحدثوننا إن اللغة السنسكريتية فيها هذا المنحني الذي ينظر إلى مخارج الحروف.‏

ولكي يكون الخليل أمينا لمنهجه الذي سلكه في تبويب العين حسب المخارج الصوتية، قسمه إلى أقسام على عدد حروف العربية ، ‏‏وسمي كل قسماً كتاباً مبتدئاً بها حسب الترتيب المخرجي للأصوات أي : كتاب العين ثم الحاء ثم الخاء  الخ .‏

ثم قسم كل كتاب إلى أبواب تبعاً لهيئة الألفاظ التي يشتمل عليها الباب وهي ستة أبواب :‏

‏1-‏                   الثلاثي الصحيح المضاعف، وسماه الثنائي الصحيح أو المضاعف مثل : قد وعف . . . الخ .‏

‏2-‏                   الثلاثي الصحيح ـ وهو ما اشتمل على ثلاثة أحرف صحيحة من أصل الكلمة مثل : جعل وبحر وعلم.‏

‏3-‏                   الثلاثي المعتل بحرف واحد، ومنه أمثال ( وعد ) والأجوف ( قال ) والناقص (مشي) .‏

‏4-‏                   الثلاثي المعتل بحرفين وهو اللفيف نحو( وشي) من اللفيف المفروق، و (شوي) من اللفيف المقرون.‏

‏5-‏                   الرباعي ـ مثل : دحرج .‏

‏6-‏                   الخماسي ـ مثل : سفرجل ، و جمحرش .‏

ونظراً لقلة الألفاظ الواردة في الرباعي والخماسي جعلها بابا واحدا وأدخل الهمزة في المعتل محتجاً بتسهيلها مثل : ذئب وذيب ، ‏‏وبئر وبير.‏

سبب هذا الترتيب

ولقد كانت للعرب صلات بالهند، وكانت البصرة محط رجال الكثيرين من هنا ومن هناك. وقد يكون الخليل قد لقن شيئا من ‏‏هذا عن السنسكريتية فأخضع له لغته العربية، كما قد يكون هذا من بدع الخليل، ولقد كان الرجل رجل صوت فلم لا تملي عليه فطنته ‏‏الصوتية هذا المنحى اللغوي كما أملت عليه المنحى العروضي فأبدع هنا وهناك (‏ ‏).‏

وجد الخليل أن أبنية الكلام العربي المستعمل والمهمل على مراتبها الأربع قد بلغ   ( 12,305,412 ) على وفق الجدول التالي :ـ

الثلاثي:   19,656‏

الرباعي:   591,400‏

الخماسي:  11,738,600 (‏ ‏)‏

هذا  حين عد السيوطي أبنية الثلاثي ( تسعة ملايين وستمائة وخمسون )، والرباعي أربعمائة وواحد وتسعين ألف وستمائة، ‏‏والخماسي أحد عشر مليون وسبعمائة وثلاثة وتسعين ألف وستمائة ، نقلاً عن حمزة الاْصبهاني في كتاب الموازنة (‏ ‏) وهو يناقض ما هو ‏‏معروف عن عدد ألفاظ ( العين)، وعما ذكره السيوطي نفسه في موضع آخر من (المزهر) .‏

خصائص معجم العين

إن معجم العين لها ميزة عظيمة من غيرها من المعاجم حيث إنه قد صار أساسا لمدرسة جديدة في مجال الصناعة المعجمية. ‏‏فالطريقة والأسلوب اللذان اتبعهما الخليل وألزم نفسه بهما جعل الدارسين يذهبون كل مذهب في تتبع نشأة المعجم العربي، وإثبات زيادة ‏‏الخليل لها أو تقليده ما هو شائع عند الأمم الأخرى لاسيما تلك التي احتك بها العرب، وهم الهنود واليونان، كما إن عسر الطريقة و صعوبة ‏‏المنهج أوحت لهم أن ينكروا على الخليل هذا العمل الجاد.‏

يقول الدكتور حسن ظاظا (‏ ‏): ” ويبدو لنا أن الخليل قد فكر في متن اللغة تفكيرا، حسابيا ، رياضيا ، فتصور أن حروف المعجم ‏‏يمكن تتبعها فيما يجوز أن يتركب منها من الكلمات، ابتداء من الكلمة ذات الحرف الواحد إلى الألفاظ المزيدة المركبة من ثمانية أحرف. ثم ‏‏تتبع ما عليه شاهد من كلام العرب من هذه التركيبات فيشتبه على أنه (مستعمل) وما لم يجد على شاهد يشتبه على أنه ( مهمل ) وهو منهج ‏‏دقيق جدا ولكنه يستوعب من الجهد والوقت ما يتجاوز الشخص الواحد إلى عشرات من الباحثين، ولذا فمن المحتمل أن يكون الخليل قد ‏‏مات دون أن ينجز هذا العمل الضخم. ثم جاء بعض تلامذته من بعده، فاختصروا الطريق وكتبوا شيئاً مستمداً من فكرة الخليل دون أن ‏‏يكون تنفيذه لتخطيطه بدقة”.‏

ويضيف الدكتور حسن ظاظا قائلا :(وهذه الفكرة في تأليف الحرف مع الحرف هي التي جعلت كتاب العين لا يقف عند الاشتقاق ‏‏العام المبني على القواعد المقررة في علم الصرف بل كان كثيراً ما يخوض في الاشتقاق الكبير فيتكلم مثلاً عن المواد ضام،وضمن وضم ‏‏وأمضى، في موضع واحد، وعلى ذلك يكون الخليل أول من فتح عيون تلاميذه على ظاهرة الاشتقاق الكبير قبل أن يفطن عليها أبو علي ‏‏الفارسي وابن جني ) .‏