الماء…يا لنبعة تنحدر من السماء…وتبعث الأمل في ميدان الإنماء.. .به تقوم شرايين الأرض وورائدها…وبه تستقيم وديان الكرة ومرابدها.. هو نعمة من الله وحديث عهد من حضرته… يراود البشر بقطره.. ويغازل النهر والبحر بهمره… ينتظره العشب والحشرات… وترتعد عند وقع النغمات بالقطرات….كأنه لحن مزيج من الشعر أو نسيج من سبك الدرر،ربما اقعشعرت لها الجلود واجترت لها الزهر والورود… للمطر معجزة تخرق العادة ولها عزة وهزة تحرك الغادة…لأنه وحي من الله أو وعي من ذي الجاه، فيه رسالة جديدة أو حمالة إلى مدة بعيدة… يعكس في مرآة القلب موجة من الذكريات ويسلس في مرقاة الباب رجة من الفكرات والأثرات…..ويوقظ كماين أنفه ورياحين عرفه…ويذهب به إلى عالم الأرواح ثم يهبط إلى معالم الأفراح…وكأن المطر معبر الانتعاش ومنبر الرياش ومصدر الارتعاش….يستوحي معنيات الأمسيات وحلويات الصبحيات ويستدعي مكنيات الحسيات… ويطفح نشوة في مدامة الساقي ويتحف صحوة في علامة التلاقي… لأنه يحس قلبه ويضرب خيمة في مسامه ولأنه يلمس ربه ويعهد قربة من مقامه…
الأرض تفرش مهدها للأنهار وتعشش في نهدها الترع والآبار…وهي تكفلها وتضمها وتؤلفها وتنعمها… وما أحسن المنظر حين يسمع خرير الأنهار وغدير الأطيار، الطير يفرح لسماعه والبشر يمرح لإيقاعه… وتلك الرنينات أثارة بل هي قيثارة… تضرب عيدان المزمار وتتلو آيات الزبور… في العشايا والبكور… في عمقها غليان وفي عرقها ووجدان… وفي الميدان جمالها وفي الوجدان خياله وفي الديوان مثاله… الشاعر يستنهض فكره إذا رأى الديم تتقاطر والهيم تتبادر والحدائق تتزاهر والأوراق تتناثر، لأنها تحيي في قلبه عدسات الوجد وتحيي في بابه عكسات الرفد والمجد…كأن المطر تيار الأيام وديار الآلام وسيار الأحلام، يصير فيضانا ويصير طوفانا، ويصبح بعضهم كنعانا وبعضهم يصبح فوزانا… ويصير رحمة ويصير نقمة، ولا يتوقف دون الجبال والهضاب ولا يتأسف أمام الأوحال والشعاب.. يجري سريعا ويسري ذريعا.. ربما أتى على الأخضر واليابس وعلى الأخشن والمالس.. صدامة…. هدامة… يدمر ويبيد ويزهر ويجيد، لكنه مسة ناعمة ولمسة يانعة…. تهتز منها الفرائص وتعتز منها العرائس…
السماء تنشق والأرض تنبثق … حتى إذا بصقت السماء لعابها وخرقت جلبابها أتى على الدنيا خيم الراحة والفرحة وقمم الواحة والروحة، وحتى علا خرير الأنهار وصرير الآبار ، المطر سفر الوجود وسفر النجاد والجود، وهو يحمل عباءة الخير والجهود إلى أرض الجدود….وتطير بركته بلا حصر ولا حدود…ولكنه فيض وارد وحوض بارد….في الليل ينسي المرأ ظلامه ويربيه سلامه…ويكون له دفئ وحنان وكلأ وأمان… ويكون الليل له كالجنان ويأخذه في الضمان..
المطر في الصباح
هطلت السماء بعضلاتها ونزلت بقواتها فنظمت سبحة التذكار بنظم التحبار… وانحدرت إلي نغمات وألحان كضرب الأوتار..وانهمرت علي تدفق المدرار.. ووقفت حروفي في باب نشيدي والشوق في حجاب وريدي…. والشمس تطل من الشباك وتتطلع بين الأسلاك.. وتمس البشر والشعر وتبث الشعر والنثر… وتنزل بين اللحم والوضم، فيقوم الإنسان وينتشر وينشط وينتصر..لأن الشعاع يشحن في بطاريته طاقة العزمة والشكيمة….ويتقن عضلته بالهمة والنعم الجسيمة… لأن الإنسان شيمته تتمايل إلى الطبيعة وتتزايل عن الفعل الشنيعة.. وفي قلبه روح تروح مع الأنوار وفي جيبه لوح يبوح عن الأسرار…
في الماضي نادى هارون الذي ملك ساسان وأهلك رومان الديمة الوادقة كالدمعة الخافقة وقال بلسان طلق ذلق أمطري حيث شئت وأقطري حيث جئت ينل الخراج إلي بلا ريب ولا فرية….فساقت الرياح هذه السحب المتراكمة وحلقت فوق الشعب المتفاقمة…حتى جعلها مخضرة مزدهرة… وحولها منظرة ناضرة… وسالت في الوادي أنهار العدن والتسلي فزالت من النادي أخبار الردن والتجلي… فتضرب العصافير في مهدها آلاف العشش وتجتنب عنها الوحش… في القرية ملامح العيش فلا فيها مدامع النعش..كأن المطر سفير الحيا إلى غفير الدنيا…. كساعي البريد ينادي من بعيد ويأتي بخبر جديد….
المطر قصاص يدري نبضة الأكمام ويجري لحظة الأيام…بل هو جصاص له طويلة الإعلام من سيد الأنام….في النيل همسه… في الفرات لمسه… في دجلة حسه… في البردى مسه…ولدت الحضارات في عتبتها وحلبتها ونشأت وترعرعت في كنفها وكفها…وأطيلت في ضفتها العمارات وأشيدت في رملتها الإمارات… وجدوا خلاصة الزمان في ثراه الثري وحشدوا سلاسة الحنان في قراه الحلي… يحول التربة طيبا ويجعل الشيبة شابا… والقفر خصبا والذر منصبّا…
وإذا رأيت الماء بعيدا عن بلدك وعنيدا على عددك وشديدا على رغدك فالقحط ينتصر والسحت ينتشر… طار نومك وحار حلمك، فلا تجد ملجأ ولا منجا ولا مرجا….. الله خلق كل شيء من الماء وإذا ذهب الماء ونضب الرواء فلا نقد ينجيك ولا حقد يشقيك ولا مدد يأتيك… ثم ستظل في الحيرة وتطول عليك الفكرة ….لا يمنة ولا شملة ولا سكنة ولا مأهلة… العيون رامقة وإلى السماء محدقة …لكن السماء بعيدة والصحراء شديدة… السراب يبلعهم والخراب يجرعهم والتباب يتبعهم واليباب يشيعهم…. وإذا اشتد البرد احتد الجلد وعم الزكام والسعال وعظم السقام والعضال…
وأما السراب..يا لخدعة الألباب… كأنه معلمة الضال… وقد عرفه القيل والقال… كم من قافلة سقطت دون سيفها وبسطت حتفها.. وانفلتت من هدفها.. والسراب مزلة الأقدام ومزلقة الاصطدام….. منها الشرور تنتشأ والغرور ينتشي.. يموت الرجل إذا نفد زاده وجمد مراده فلا يوجد له معاده…تسطو عليه التنهدات وتنمو عليه الآهات والترددات…
يا للواحة الخضراء والساحة الغراء تدعو الضال ويستضيفه ويشرفه .. وتحدو الفأل يستأنفه ويعرفه… كدوحة مثمرة وسط الصيف… كلوحة مشيرة نحو الهدف… للمسافر جنة في نهرها وللمهاجر مكنة في حرها…يوسد ريقها ويستمد بريقها ويستزيد إبريقها… يركض برجليه بعدما عض أنمليه…
البحر…يا لموجه وفوجه… يتمايل… يتزايل… يلوح كأنه طيف يتسكع ويروح كأنه سيف يتقطع… لكنه عجب… وإن مضى ربيع ورجب.في عمقه آلاف الصدفات والجواهر…. في سمكه أصناف العرفات والعنابر…تكب عليها همة الفتيان وتثب عليها لمة النسوان.. سوارا وإزارا وخمارا ودثارا….يطرزن لمتها وهامتها….ويزركشن بيتها ويفرشن غرفتها.. تمتخر فيه السفن وتعبر عليها… حاملا آمالا الاجئيين وأموال المشردين….فوق زبده آلام أمست قاتلة… وتحت لبده آحلام أرست قاحلة… كأن الساحل بعد عنهم واعتدى عليهم….مسلسلات الحزن والشجون ومزلزلات الزمن وماء العيون… ترقد فيه هذه المآسي وتركد فيه هذه المراثي … يهاجرون بلدهم عبر البحر العميق إلى قطر سحيق… لا جسر يمتد طيل الحياة ولا نصر يستمد نحو النجاة….مدامع أصبحت مضاجع وأحزان أصبحت إيوانا…
المطر يبتدي من القطر ثم يرتدي شبح النهر والبحر….نعمة عجز العالم لمكافئتها ونبعة رجز العالم لمجازاتها…. لولا المطر لكانت الدنيا قفرا لا ماء وحانت المنايا سرا بلا دعاء…..لكن الباري أفاض على عباده كرما وجودا…..وأنهض البلاد عزما ووجودا… في كل آية إشارة… في كل غاية عبارة وأمارة… هو الله المنعم لا ند له ولا ضد….
العالم يحكي تأوهات الجوع والعطش ويشتكي تنهدات الجور والبطش…كأن الحرب الثالثة تقوم للماء حتى تدوم الدماء…هذه إنذار لا تبذير فيه وتحذير لا تقتير فيه… القارات تجف وتنتشف والقريات ترتشف وتغترف….لكن الماء يخدع ويرفع…فلا منهل يجديهم ولا جدول يهديهم….السماء لا تلتفت إليهم والجرداء لا تنفلت عنهم… أمست المدن صحارى ومست الفتن صغارا… ركام الأنقاض بدل المباني وحطام الألفاظ طيل الأماني…. هذه الدنيا تستقيم ولكن في الاعوجاج وتستديم المنيا ولكن في الاستدراج…ثم يأخذهم الله بغتة وينفذ فيهم ضغطة… كما في عاد صارت كأعجاز نخل منقعر أو في ثمود ثارت كهشيم المحتظر… والكل في حذر… والوجل في القدر….فلا تأخير ولا إدبار ولا إفراط ولا تفريط…
نعم الماء رمز الزمان وعكاز الإنسان…. حديث عهد بربه وأنيس في دربه..منه خلقنا وبه رزقنا..فلا أدم يساويه ولا لقم تضاهيه…كأنه رسالة أو عجالة….