في سراب السفر

بقلم: صبغة الله الهدوي

الأول

اقترب الشيخ العربي بأغلال من حديد، حتى سمع صليله، وقد سدت يدا الأستاذ مع المقعد، لكنه يبتسم، ثم دنا الشيخ العربي نحو الفرحان، وجعل يديه مسدودة

“يؤسفني يا أسيري الصغير”

فحدق فرحان إلى الأستاذ ولم يفهم معنى الأسر والأغلال والابتسامة، وترى من بعيد ضفاف من لبون، شجرة الزيتون، شجرة الحور البيضاء، شجرة  السرو، وهي تجري وتسيل وراء القطعان من الغنم والنعم، وتطير هناك غربان بحرية ونسور، وهل ترى طائرات ورقية تتحرك وتتمايل…

ومد بصره نحو البحر الهادئ، وهو يرقد مستريحا ومطمئنا

” إنه عبقري من يحيي الجماد ويمشي مع الحكمة والأمجاد”

ارتجت صدى من أحشاء الأستاذ ثم تلاشت…وتحرك البحر قليلا وقليلا…وتهب ريح تثلج العروق والشرايين، وشيخ يبتسم وسط الضجات …فلاح لفرحان عمق الآثار والمعالم

“هذه رحلة الآبقين… بئر وقطعان الغنم… وراعي يسوق الآثار ولا يتكلم…وطائرات من الأوراق.. وإشارات بين الشيخ العربي والأستاذ… كأن الصمت يكاد يحيى ويتكلم.. وقورب جندي وأغلال…وكلها تخبئ شيئ ما ولا أعرفها.. لعل بسمة ثغر الأستاذ تفجر من إدراكها”

”  إنه يسهل للعبور لو ارتدينا زي الأسرى والمسجونين، وفي شواطئ الإسكندرية سجون لمحاكمة الإرهابية والمتطرفة، سجون بنتها الإمبراطورية البريطانية ثم قام بها الرئيس جمال عبد الناصر”

وقد تحقق قوله، حتى مر بنا قوربان… وهما يخرقان عبر الضباب والثلوج المتصاعدة، أحدهما مر ولم يهيج بنا لكن الآخر خفف سرعته… فأطل علينا شيخ عربي… وهو يهتف بنا ويحدق إلينا

” شو الإسكندرية”

” نعم”

” هيا سرعة…. لا تؤخر لقمة السجون والجلاد”

وكاد القورب يسري ذريعا، ولعل الموظف كان من أجناد البحر، ثم تعرض لنا عدة تفحيصات وتفتيشات، وقد رأيناهم في أقمشة مختلفة لانتمائهم إلى دول متعددة، وقد أصبح لبنان موطن عدم الاستقرار والبلبلة، وزالت من روابيها رايات الأمن والسكون، حتى جعلها رازي حنان مهوى قراره ومثوى عملياته.

وأسرعت السفينة سيرها وخرقت تموجات البحر الرحيب…وقد قرت عيون فرحان بباكورة رحلته في البحر.. ورأى مناظر الأسماك ترفع رؤوسها ثم ترجع إلى القعر العميق…

وبعد إقامة الصلاة.. فكهم الشيخ العربي من غلة الاغلال… فاستطاع لهم رؤية المناظر والمشاهد العجيبة، ظلل الأشجار… وانطباعاتها وهي بارزة على شط البحر المتلاطم… والبحر يحكي أسرارا غامضة وفوقه غربان تصرخ وتنعق.. وتعمق فرحان في العواطف وقد أضناه البحر وسفره..

ثم اعتوره نوم ممل، وهو يضطرب ويتحرك ولا يهدئ.. كأنه يتخيل من عويل يضرب على طبلة أذنه… وهو يلتوي من الآلام والأحزان..وقد ذهب روحه ونضب ماء حياته.. حتى مس ذوق المشروب الروحي…وهو لمسة الأم الحنون… أمي ….أمي وقد سال منه العرق مع أن الجو يرتعد من البرد القارس… والأستاذ مشغول في مصلاه…

” لا بأس نحن نسير بحيفا… لعلها تذكر أمك المفقودة… نم آمنا.. وليس معنا وقت طويل دون الغزة”

“آمن الرسول بما أنزل إليك”

وترددت تلاوة الأستاذ عبر الجو ثم مسح رأسه وسلى بدنه حتى خاض في وادي الأحلام…

( وقد ركبوا السفينة من دون بيروت وزيدا… وتوجهوا إلى الشرق مخترقا حدود تل أبيب، وغزة، ورافا… وحيفا… ونهارية….عكرة… ولم يجزم فرحان عن نهاية سفره…أكان بين عريش مصر أم بعد رافا….وهذه الرحلت حفرت آلاف الفكرة في قلبه… وانسابت إليه فسحة بعثة الأستاذ وسفره…لأن السفر قد استغرق جميع مصر وإسرائيل وفلسطين ولبنان)

واستيقظ فرحان وهو يتحير من تغير الجو البارد إلى وقدة متلظية.. ولا تسمع سفسفات الطيور…ولا ترن تغاريدهم…والشمس لم تشع نورها والساحل بعيد عن الأنظار….وقد بدت الآن قواحل يابسة بعدما قرت عينه بالمناطق الخصبة المتنعمة…ولما تفارقه تلك الأسماك التي ردفته من قبل..وهي تجري وتثب… والأسماك تحرك وجدانه النائمة في قلبه…وقلبه يساوي بحرا لا ينفك موجه ولا يسكن هيجانه…

“رسول يطل من شبابيك الحكمة وهو يرسل حدقته على الدهر.. يمتلك قوة وعبقرية…ومسالك تنفجر منها آلاف الحكمة…شخص يطوف حول البعثة… ومنطيق الصمت والسكوت”

ثلاث انفلاقات… دهر لم ينتظم ولم يترتب وبحر مع ظلمات لجته وقلب بتعمق فكره وخواطره….حتى التقت في مجمع واحد وخاضت في فكرة عريقة لا يدرك كنهها…وأقبل الدهر يضرب أوتاره على الأفكار… والبحر أنجب دهرا محتدا…والعلم تمثل حكما وأسلاكا كهربائية… فنادى الصمت فرحان… فأصبح الدهر والبحر لساني نطق بلا لسان…فسمع النداء من وراء السنين والخواطر… وتقدم العلم متزهدا ولم يقبل الجسم…فإن قعر البحر إنما هو النور والشعاع والالتماع… والدهر هو المركب يجري بسرعة..

ووصلت سفينة نوح واستوت على الجودي… وامتدت منها رؤوس الحياة والبقاء… وغرقت فيها الجثث والأموات…وتناول عظامها ولحومها الأسماك.. وامتصت الأرض ماءها والشمس جلبت روح القطرات…وودعت الشمس من مغازلة السحاب الثقال…والرياح المبشرات ساقت السماء إلى الأرض.. والبحر ألقى سياطه على الأرواح المتمردة وسادت أجزاءها لإرسال الصواعق المحرقات…

ولكن الرسول الذي قرع حتى في النوبة الثالثة…تقدم ووثب إلى البحر فالتقطه حوت من حيتان البحر… ولبث يسبح الله إلى سنين..

ورسول آخر…تمتلأ حياته ماء وبحرا…وهو يسبح مع مرور الماء والأمواج…ثم يمشي في الأرض يطلب سربا وعجبا… ويمشي خارقا قلب البحر الأبيض لتحرير شعب من قبضة ملك جبار…فيغرقه البحر وشيعته..

ورسول الله محمد يحكي ويسرد قصة  قوم…وقد ركبوا في السفينة ثم استهموا…بحر غاضب مائج… وأفكار تطير وتحترق…ودهر يطوف إلى ما لا نهاية…

في الماء نبضة الحياة والبقاء…ويفارقه الروح إذا جف الماء وغار…الماء حكمة..فلتنشره ولتبلغه…ونسج فرحان خيوط الفكر من بين البحر والدهر…

الثاني

وقد تولى الشيخ العربي إدارة القورب…والأوربي يغتاص في المنام…وقد بدت الآن ملامح الشواطئ البحرية… ووصلوا بحمد الله إلى الشط…حتى أطلقهم الأستاذ من سلطة السلاسل… وقد أجابتهم الطيور بسكوتها وسكونها… وفارقت من أفنانها… يمتد فراش الرمل والصخرة الصماء.. وأقبل الأستاذ إلى صخرة كأنه اعتادها وعرفها… وكانت هناك خشبتان من القصبة…ضربها الأستاذ مرة أو مرتين ثم رمق إلى السماء…

وبعد لحظة قليلة… برز في السماء …بين السحاب والرباب طايرا يتحلق… حتى نزل إلى الأرض…واستوى في راحة الأستاذ.. فعلق في مخلبه ورقة مكتوبة… وأطلقه في الهواء…. فجال فوق رؤوسهم وتلاشى في فسحة السماء الرحيبة…

وبعد قليل من الساعة.. بعدما فتنوا ببهجة الطبيعة ونورتها.حان للشيخ العربي والأوربي أن يودعا الأستاذ ويفارقاهم .. فركبا في السفينة بعدما أبقيا لهم سلة من القوت والطعام…. فتفهم فرحان بأنهم أوصلهم بعدما خرقوا مسافة خمس مائة كيلوميتر…

هذه البقعة التي تمتد إلى ما لا نهاية.. من أين لها هذه الصقور والطيور… وإلى أين أرسله الأستاذ

..وهل هذه بلد الهائمين.. حتى لا نرى أثر الحياة ونبضة الروح إلا بعضا من النياق ترعى هنا وهناك.. ورأى الأستاذ بصمة غريبة في إحدى الصخرات التي ضربها الأستاذ..بصمة يد نقشها في مفترق الدهر…

تجولوا في الضواحي والريف.. وأعطى لهم كؤوس الماء وقصع الطعام…من الجبن والحليب.. فمن بعيد رأوا خيولا تمج الغبار وتثير اللظى… وهي تطبق الآفاق والمعالم.. واستقرت عند صخرتهم… وبرز من بينها رجل بربي في لباس خشن… وأرسل النظر إليهم

“هل يتكلم الأبكم”

“لو تلاكمت يدان بلا لسان”

“لإحياء الكتب”

” فلتتسرب الكلمات”

” لو جفت البحيرة”

“يولد الرسول”

وعانق ذلك الرجل وتلاصق بالأستاذ.. وأمرهم لركوب الخيل… وكان ذلك الرجل مثل ذلك الراعي مع العضلات الفتية… وكان مسير الخيول هادئا مطمئنا…والأستاذ والرجل في كلام مسلسل لكن فرحان لم يقاطع الكلام… وليس فرحان بغريب عن ركوب الخيل حيث كان يتمرس به عندما كان يعمل في البيارة…وكان ذلك من أشهى اللحظات لكن الركوب في الصحارى يكون مضطربا حرجا..

وبعد نصف ساعة من السير.. برزت لهم أمارات الواحة والخصب الوارف…أمارات البركة والخيرات… نوق ترعى ونخيل تستطيل.. وفي جانبها أكواخ فيها عشرات الأولاد والبنات.. وكلهم اشتغلوا بما يهمهم ولا يلقون بلا نحو هذا الموكب… وتحت الشجرات أربع صقور تحدد منقارها… ورأي هناك بئر واصطبل… ولا شك في رخوة هذه التربة لأن آثار الخصب والرفاهة ترى من هنا وهناك..

ومن ذلك الملتقى فارقهم ذلك الرجل البربري.. فأمر الأستاذ بإسراع الخيول وتنفيرها… فأرسلت الأعنة وطعنت في بطون الخيول… حتى أقبلت عادية وصافنة… وبين أيديهم مسافة يوم ونهار… لأن الطرق كانت مضيقة وغير مسهلة.. وللأستاذ مهارة في عبور القفار والرمال…

ومنظر الصحراء لم يجدد في فرحان شيا… بل جعله مضجرا بوسعتها وخلوتها… وقد جاءت الشمس بحرارتها وسخونتها القاتلة.. وأصبح الظل دليلا واضحا للأستاذ حتى ظنوا هل أخطأوا الطريق…. ولم يزل يحدد وقته وميعاده للوصول إلى الهدف…لكن الحر أبدى مخالبه وأنيابه حتى رأوا واحة النخيل وفيها بقية الماء والحياة… واستضافتهم نسمات في مهاب الريح…ورأى فرحان كثبان الرمال تبدو وتحول وفق تلاعبات الرياح العاصرات….

واستراحوا في تلك الظلال المخيمات..

ثم أعطاهم الأستاذ قليلا من الماء وقال” الصحراء لا يجدي فيها إلا الماء القليل وشيئ من الجرعة، لأن الشمس تحرقنا وتلهبنا، وللتمر قوة وحدة لكفاح الحرارة والسخونة”.

ثم ساروا على دربهم بعدما حققوا الهدف والمنتهى…وهم يتوجهون نحو المشرق. والخيول لها سرعة نادرة.. كأن النار تتلهب في الحوافر …وهي تروح عبر الغبار والرمال..وكأن الأستاذ يتيقن في هدف قبل المغرب…

وقبل قليل من غياب الشمس لاحت أمامهم صفوف الجبال وكأنها إشارات إلى الجمود والجحود.. وشجرة الأراك والأشواك.. ومن بينها جرذان وفيران… وقد تغير الجو واشتد برده… وما طلع بدر بنوره وشعاعه… حتى لاح لهم قمر منير فصارت الليلة قمراء مشرقة…

فساروا تحت أنوراه رغم احتجابه في حضانة الجبال…ثم تجلى لهم البدر بأقصى بهجته وبهائه… وفي الطريق رعاة الإبل وقطعانهم… وهم يتمتمون ويهمسون

“أنبياء الصمت”

وكانت الرعاة كلهم بكما…لا يتكلمون… فجالت في قلب فرحان خيالات عن الجبال ومناطق الحياة… وقد ساقت خضرتها هذه القطعان الغفير…

فنادى الأستاذ بأعلى صوته

“وكل أنبياء الله كانوا رعاة الشياه في الشعاب. فيهم خاتم الرسل والأمير العادل عمر الفاروق…وكان كليم الله موسى في مدين وهو غير بعيد عنا…” ولما التفت فرحان رأى القطيع يبتعد قليلا منه…

” وهل لنا سفر طول هذه الليلة…  حتى نستيرح ونعيد الصحة” سأل فرحان بقوة الرجاء وبصيص الأمل

فقال له الأستاذ”إنه لا يليق بإناخة السفر إلا بمواطن الحياة والعافية” وقد صبت حدقته نحو الشعاب المعوجة…

وفكر فرحان عن علامات الحياة التي يتأملها الأستاذ في درك الخلاء… والعزلة… وجال خاطره عن الرعاة البكم… الذين يلبسون خفافا ضد الصحراوات القاسية…الذين يسيرون على درب الرسل. وهم يشمون رياح الشياه التي رعاها كليم الله موسى…

وفي السماء.. رأى فرحان حركة وخلجة… ونورا يلوح ويبوح وينمو… كأنها شهاب من قبس ثاقب… حتى هبط وتلاشى… فأخطأ لجام فرحان عن قبضته وزل قدمه…

” يا فرحان.. ما أصابك”

” ليش…” وهو يسعي في إعادة نعاله..

” ههه..ههه.. هذه هذه البقعة المقدسة… وادي طوى… شهاب قبس وإخلاع نعل… وقد بدت الآن علامات الحياة والحركة… هيا إلى المبيت والاستراحة…”..

وفي القلب تصافير ورسوم تنبث من كليم الله موسى… والمساء تمهد للوحي الرباني…” وهل هذا وادي المقدس طوى”…

” ولو لم يكن وادي طوى… سرنا مقابلا له عن مسافة قليلة…”

واعتزموا كي يبيتوا ويتنفسوا…حول صخرة جامدة..وخلت الخيول تأكل وتسقى… واستعدت الجماعة للصلاة وتوضأوا ودخلوا فيها خائفين.. وفرشوا البساط في الوادي وقد أشغلهم التمر والعنب والخبز.. مع أن البرد أصبح يثلج ويشتد.. ووجد فوق الصخرة رجلا لا ينام كأنه تولى نوبة حراسته…

“ما أجمل الوادي الذي اخترناه… وادي موسى” حتى خاض الاستاذ في النوم وفرحان يتجول ويستقصي في الخواطر ومعالم الصمت الهائل…

في الأمس افترشوا على متن البحر وفي اليوم في فج الوادي العميق…وقبله في حقول مرجيون…ثم في كوخ ببيروت.. وفي الأمس نفسه سرنا والبحر المتوسط..مع الإسكندرية…وفي الحال على وقدة الصحراء… وقبل يومين سرنا مع شقوق الحقول… وكلها توهم بأنها معالم الطرق المعمارية…

سنن كونية ترقد في حضانة آيات الله…وأنبياء يمشون وسطها… وقطعان تتحرك حسب درة الرعاة…ورعاة يسيطرون مع الصمت….ورسل الله الذين أسكتوا الدنيا ببعثتهم…ورسول تعقب مع رسول ليتعرف سر الحقيقة والشريعة…الذي أجبر على الصمت طيل السفر مع الصبر…الذي دعا الله لشد أزره بنبوة أخيه…

وديان وادي المقدس طوى…. نعال مخلوعة ورحلة بحرية علمية… وعلامات تشير إلى الصمت…وكليم الله الذي خاطب فرعون بحبسته وعيه… وملك يتكبر ويتجبر ولا يتصبر…

وقد اضطجع فرحان في شعاب شهدت لقاء نبي من أنبياء الله بعد طول هجرة وغليان… وتسنى له عالم ممتع رائع…

ضفة عالممية… تسيل فيه كؤوس الخمور الطافحة وتتردد عليها ربات الدعارة والزنى… وتهيج فيها أمواج الترفه والإسراف..ويزبد فيها الضياع والفقدان…حتى ضربها عصا فانفلق إلى جانبين…فخاض فيه راعي وقطيعه…وترك الكلاب العاويات في الساحل… والشياه فقدوا هويتهم وبطاقتهم.. وسعت الكلاب في إقصائهم عن النجاة وتلاعبوا بالدم والمال.. وتنور لهم العالم وزفت لهم الدنيا.. عمروا المباني العظيمة والشقق العالية…

كلاب تلهث في الارض مع التقنية والآلة الجديدة.. وعندما يرتفع نباحها يلتئم البحر المفرق ويلقم غضبها كل الكلاب العاريات…ولكن الراعي وقطيعه عبروا البحر بأم أعينهم… ثم كلاب تعوي وتنطوي في تفجر البحر المتلاطم.ثم تمج جثثها فوق البحر…

فرحان بات له حلم رائع… ومنام مبدع….