سعدي يوسف: صوت ممتاز من شعراء العراق المعاصرين

بقلم: سعدالدين. و. ب

العراق بلد من البلاد التي أثمرت الأدب العربي بالشعراء الفحول الذين لا يحصى عددهم، وبذر فيه حبوب النهضة والتجديد. له مكانة مرموقة في الشعر العربي من حيث لا يقدر أي وطن من الأوطان العربية أن يستحقها. وهذه المكانة قد بدأت منذ عهود ازدهار الأدب العربي من العصور الأموية والعباسية. وتعد البيئة العراقية في ضوء تاريخها الأدبي والفكري والحضاري واحدة من أهم البيئات الشعرية في الأدب العربي، حتى يقال إن عراقيا هو بفطرته شاعر. إن العراق هو منجم الذهب الشعري في العالم لا في العالم العربي فحسب. فالعراقيون أغلبهم شعراء، ونسب لمحمود درويش: هذا القول إذا أردت أن تكون شاعرا فكن عراقيا.

الحالات السياسية والأحداث التي وقعت في العراق في بداية القرن العشرين، حرضت الشعراء لاختيار اتجاه جديد يميزهم على غيرهم من شعراء البلاد العربية، كما حرضهم الامتزاج والاحتكاك بالبلاد الأوروبية والأمريكية من خلال الهجرات والبعثات العلمية والأدبية لتجديد الشعر العربي وتغييره شكلا ومضمونا في الإتجاه التقليدي. كما أشار إليه الدكتور عنان غزوان: “شهدت القصيدة العربية في البيئة العراقية منذ مطلع هذا القرن وإلى الوقت الحاضر اكثر من حركة التجديدية في شكلها حينا وفي مضمونها حينا آخر وفي كليهما حينا ثالثا وفي لغتها وبنائها الفني حينا رابعا”.

وفي أوائل الخمسينات ظهرت جماعة من الشعراء تعرف بإسم ” جماعة الروّاد ” يتضمّن فيها بدر شاكر السيّاب ونازك الملئكة وعبد الوهّاب البيّاتي وبلندر الحيدري، قدّموا أسلوبا شعريّا جديدا يكسرون الشّكلانية القاسية للقصيدة التقليديّة ويجلبون الحداثة في الشعر العربي. ول”دار المعلمين العالية” في العراق دور بارز في هذه الحركة الشعرية التي كانت الجامعة الوحيدة في العراق تدرس الآداب حتى تأسيس كلية الآداب والعلوم عام 1949. في هذه “العالية” تخرجت شاعرة العراق الأولى، نازك الملئكة 1944، وتبعها بدر شاكر الثياب الذي تخرج عام 1948، ثم عبد الوهاب البياتي عام 1950، هم حملة التجدد في الشعر العربي في العراق في أواسط القرن العشرين. أصبح سعدي يوسف جزء لهذه الحركة الثوريّة الّتي بدأت في العراق وانتشرت في جميع البلاد العربية.

في مدينة البقيع إحدى ضواحي البصرة ولد الشاعر الكبير سعدي يوسف عام 1934م. ودرس الإبتدائيّة والثانويّة في رعاية أخيه الأكبر بعد وفاة والده وكان صغيرا. ثمّ انتقل إلى بغداد وحصل على ليسانس الآداب عام 1954م. اجتذب سعدي يوسف بالحزب الشيوعيّ وهو في الخامسة عشرة مثل ما اجتذب الشعراء الشباب العراقيّون به في الأربعينات والخمسينات، حينما وجد الشيوعي الشعراء الفقراء والمحرومين مركزا موافقا لانتشار أفكاره وآرائه. وعمل في التدريس والصحافة، وعرف السجن والمنفي وتنقل بين البلدان المختلفة.

عاش سعدي يوسف في المنفى نحو أربعين عاما الّذي بدأه منذ عام 1975م حتى يومنا هذا، في مختلف أنحاء العالم من سوريا ولبنان واليمن والاردن والجزائر ويوغوسلافيا وفرنسا وأخيرا بريطانيا الّذي جعله مقامه الدّائم حاليا. وفي هذه التجوّلات طوال العالم اكتسب خبرات غزيرة من الثقافات المختلفة والمعارف الموسوعيّة تساعد لتوسيع رؤيته الشعريّة. رحلة المنافي عنده حياة طبيعية ليست شعور البكاء والحنين إلى الوطن الّذي ينتاب المنفيّين. ويرى المنافي جزء من حياته حيث يلتقي كلّ مدينة مرّ بها في مختلف أوطان العالم مدينة له. ولا يعتبر إقامته في مختلف أنحاء العالم حتى إقامته حاليا في بريطانيا منفيا، ولكنّه يحاول خارج العراق إلى توطين النفس في المكان الّذي يكون فيه. وهذه المنافي الطويلة ساعدته في إخراج رتابة المنظر وارتكاز الموضوع الواحد في شعره.

وأصدر خلال مسيرته الشعريّة اكثرمن خمسة وثلاثين ديوانا شعريّا منذ ديوانه الأوّل “القرصان” الّذي أصدره عام 1952م. وفي أوائلها تجربته الشعريّة كانت مليئة بالغزل وعنفان الشباب في ديوانيه الأوّل والثاني _ القرصان وأغنيات ليست للآخرين _ ويمكن تسميتها بالمرحلة الكلاسيكيّة المعتمدة على القالب العموديّ.

وفي السبعينات كانت تجربته الشعريّة تراهن على الموضوعات اليوميّة إهتماما إلى آلآم النّاس وانفعالاته وجهادا  للحرّية الإنسانيّة يحمي المظلومين والمستضعفين، والحرّية السياسيّة والجماعيّة والحزبيّة، والحرّية للتعبير واللّسان  بوصفه شاعرا ثوريّا ضدّ السلطة اللإستبداديّة. وقد اشترك في حركة التحرير الفلسطينية والثورة الجزائرية حيث ذاق الخبز المرّ مع الفلسطينيّين الثوريّين في أرض بيروت، ينظّم القصائد مشحونة بالحسرات الموجعة والمحسوسيّات الحزينة بلغة امتازت بالبساطة والحياة اليوميّة في بعض الدواوين، بدأها في”قصائد أقلّ صمتا”. وفي أواخر التسعينات ظهرت تجربته الشعريّة الأوربيّة في ذوق جديد، تراهن على نقل الأحاسيس الإنسانيّة في علاقتها بالزمان وفي علاقتها بالعالم كشاعر متأمّل للوجود والحياة ومهتمّ بالمظاهر الطبيعيّة واليوميّ المألوف.

إنّ مصادر الصورة الشعريّة عند الشاعر سعدي يوسف ليست من مصدر واحد ولكنّها ألوان مختلفة، وهي نتيجة تفاعل بين الشاعر وبين بيئته الأسريّة والإجتماعيّة الكاملة، وثقافته العالميّة الّتي اختبرها من البلدان المختلفة، وأشعار الآخرين من العرب والغرب، والطبيعة الّتي شعرها من الأمكنة المتعدّدة عبر الزمان الطويل. فاللبيئة دور بالغ في تصوير شخصيّة الشاعر واتّساع تجربته الشعريّة وتشكيل رؤيته الفكريّة والتركيز على القيم الإنسانيّة. فالصورة الشعريّة لدى الشاعر معتمدة على تجربته الكاملة من رحلاته وتنقّلاته. نجدها في كثير من الأحيان التجارب التراثيّة والمعاصرة تتفاعل مع بيئة الشاعر وظروفه الذاتيّة. البيئة المكانية عنده صورة مستمدّة من حركة الترحال والتناقل، انتزعها من محيطه المكاني مدينة أو قرية، وكلّ مدينة أو ريف صوّرها الشاعر بطابع تلك المدينة أو الريف الخاص. فنتمتع في شعره صورا واضحة لتلك الأمكنة المتنوّعة من أجوائها الخاصة من المشاهدات والمناظرات.

يعتبر اتّساع ثقافة سعدي يوسف واتّصافها بالعالميّة سبيلا لإتّساع مجال رؤيته الشعريّة، فنقدر القراءة في شعره كثيرا من تضميناته وإشاراته إلى جوانب عديدة من هذه الثقافات الواسعة الّتي لا يستطيع أن يعبّرها بغير تفاعل معها. فقد تنوعت المصادر التي وجد فيها سعدي منهلا يغترف منه ليؤسس ملامح صورة تشهد على ظفره أو إخفاقه، فأفاد من ينابيع الماضي من التراث التاريخي والشعبي والديني والأدبي.

فتصوير الطبيعة عنصر مهمّ من مصادر الصور الشعريّة عند سعدي يوسف، ويبرز هذا التصوير في قصائده بأشكالها المختلفة من جبالها وأتلالها وبحورها وأنهارها وثلوجها ونخيلها وأزهارها من حيث ثلث قصائده معنونة بأسماء مستمدّة من الطبيعة, وكثير من موضوعاته تمزج بمظاهر الطبيعة، وأشيائها.

وكذلك تجربة سعدي يوسف الشعريّة تتّسع باتّساع المصادر الأدبيّة المتنوّعة من القديم والحديث. وكان مولعا منذ صغره في قراءة الأشعار القديمة ودواوين الشعر الجاهليّ خصوصا شعر امرئ القيس. وهو يرى جماليّة في شعر امرئ القيس هي اهتمامه بالمكان والطبيعة ومحسوسيّته للحياة اليوميّة. وفي شعره نرى أيضا هذا التركيز على المكان والطبيعة استمدّها من خبراته العظيمة في أمكنة متعدّدة من المشرق إلى المغرب عبر رحلته المنافي الطويلة. ومن المعاصرين تأثر عميقا بالسيّاب من العراق وإلياس أبي شبكة من لبنان ومحمود إسماعيل من مصر، كما تأثر بالشعراء العالميّين مثل بابلو نيرودا وناظم حكمت ويانيس ريتسوس ووالت ويتمان من حيث ورد في شعره كثير من الصور لهؤلاء الشعراء على صورة اقتباس أو تضمين. لذا كثرت مصادر الصور الشعريّة لدى الشاعر لخبراته الواسعة وتجاربه الوافرة على الثقافات العالمية.

وفي شعره نجد مشكلات عصره وقضاياه العربيّة، فقد أدرك حوادثها،  واستجاب مع الصّدامات والثورات الّتي حدثت في البلاد العربيّة، وحلم تحرّر العرب وفي مقدّمتها تحرّر الفلسطين والجزائري، كما رأى ضرورة الثّورة على الظلم والجور بجميع أشكاله أينما كان. وطالب بالعدالة وأثار ضدّ الإستغلال والإضطهاد في جميع أنحاء العالم. فهو واحد من الشعراء الّذين يروا أنّ العمل الفنّيّ هو متعلّق عميق بواقع الحياة وحقيقتها،  فينبغي أن يتدخل الشعر في جميع مشكلاتها وقضاياها اليوميّة.

ونكتشف محاولة الشاعر سعدي يوسف في استخدام التراثين العربي والغربي في قصائده. امتاز الشاعر سعدي يوسف بمقدرة خاصة على استخدام التراثين العربي والغربي، والتطورات الحديثة التي طرأت في الوطن العربي والغرب أيضا، فكان محاكيا للتطورات في شتى انحاء العالم، في أمريكا وأمريكا اللاتينية وأوروبا، مثلما كان محاكيا للتطورات التي حدثت في الوطن العربي، ولهذا اغنت قصيدته بالرموز والأسطورة عن البابلين والإغريق والهنود والعرب، وكان التراث الأممي والإنساني حاضرا في قصائده.

ومنذ السبعينات أصبح الشاعر سعدي يوسف أشدّ تأثيرا في الشباب العرب بأسلوبه الكتابيّ وكشاعر ثوريّ لتحقيق حقوق الإنسان وكحريص على العدل والقسط. وأصبح منبعا للشعراء الشباب الّذين اقتنعوا فيه لطماحهم الفنّي والفكري وخبراتهم الجديدة. ونال عدّة من الجوائز تقديرا لإبداعيّته الشعريّة، منها جائزة سلطان العويس، والجائزة الإيطاليّة العالميّة، وجائزة كافافي من الجمعيّة الهلّينيّة، وجائزة فيرونيا الإيطاليّة لأفضل مؤلّف أجنبيّ.

وأخيرا يمكننا القول أنّ الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف كانت حياته الشعريّة خلال العقود الستّة السابقة صوتا مدافعا عن حقوق الإنسان و حرّيته أينما كان. لأنّ حياته غنيّة بالحركات والثورات والمنافي، وبتجربة أدبيّة غزيرة لم يكتسبها أحد من شعراء العرب المعاصرين. وكانت قصائده صورة واضحة لتجربته الشعرية المنفتحة على الثقافات  العالميّة. كما قالت. الدكتورة امتنان عثمان الصمادي “أن الشاعر عاش حياة مليئة بالحركة والتنقل والمعاناة، كما كانت حياته غنية بالتجربة الأدبية، والانطلاق نحو التجريب، وأن شعره صورة لتجربته الثقافية المنفتحة على الحضارة الإنسانية.