الترجمةالعربية ماضيها وحاضرها

بقلم: عبد الغفور فاتيبارامبات، مترجم كبير، مؤسسة الحايكي للترجمة والخدمات، الدوحة- دولة قطر

هذه الدراسة تتناول بعض النقاط التي نالت اهتمامي خلال ممارستي لعملية الترجمة وليست آراء نهائية ( حاشا لله) ولكن بعض الأفكار التي مرت بي كدارس مارس الترجمة على مدى سنوات طويلة. وفي البداية أوضح تعريف الترجمة ثم انتقل إلى تاريخها وأهميتها مبينا  عصر النهضة والحركات الهامة وفي نهاية المطاف سوف أحاول كشف النقاب عن مشكلات الترجمة والعربية المعاصرة ومحاكاتها باللغة الأخرى لسبب الترجمة.

يسرد الدكتور محمد عناني في مقدمة كتابه – فن الترجمة-  قصة صديق  من أصدقاء صباه عرف فيه الدأب والمثابرة ولم يتردد يوما في الإعراب عن إعجابه بنشاطه وحماسه للعلم وقد تقاذفتهما الأيام فجمعتهما حينا وفرقتهما أحيانا وكانا كلما التقيا دار الحديث بينهما عن موضوعه المفضل ألا وهو الترجمة بالكمبيوتر وهو الهدف الذي يسعى اليابانيون قبل غيرهم إلى تحقيقه. وهذا الصديق كان يرسل إليه بين الحين والحين قصاصات من الصحف تتضمن أنباء تطوير هذه الأجهزة  وقد وعد اليابانيون بإخراج  الجهاز الموعود الذي لن تستعصى عليه لغة من لغات الأرض عام 1995م (Generation5)              وإن كانوا لم يتوقفوا عن الدعاية لأجهزتهم الحالية وكان آخريها جهاز جربته السيدة/ مارجريت ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة أثناء زيارتها لليابان وإن كانت النتيجة لا تبشر بالخير إذا طلبت من مرافقتها أن تجعل الجهاز يترجم عبارة مجاملة للطعام الياباني مفادها أن اللحم طري ( سهل مضعه) The meat is tender ولكن الكمبيوتر لم يكن بالمهارة فأوقع المرافقة في حرج شديد وأثار ضحك الزوار لأنه أخرج عبارة تعني أن الجسد ضعيف The flesh is weak ودلالتها في الأنجليزية عجز الإنسان أو ضعفه.

                        وهذا حال كثير من المترجمين في هذه الأيام يسعون لجهاز الترجمة الآلي ويعتمدون على أنظمة الترجمة الآلية ,فقد تركوا الورق والقلم والرصاص والممحاة ليترجموا مستخدمين أحد برامج تنسيق الكلمات مع قاموس الكتروني ثنائي وتعد غوغل خدمة سريعة ومجانية وأكثر دقة إلا أنها شأنها شأن غيرها من تقنيات الذكاء الاصطناعي تفشل في فهم لغة البشر أحيانا لا سيما حين يتعلق الأمر بالصيغ البلاغية والنكات الداخلية والتعابير العامية. وهي ترجمة الجمل كلمة بكلمة دون الأخذ بعين الاعتبار سياق المعنى الأصلي والمعاني المتعددةالتي تحملها  الكلمة الواحدة.

                        فأولى الحقائق التي ينبغي تأكيدها  أن الترجمة فن تطبيقي أي الحرفة التي لا تتأتى إلا بالدربة والمران والممارسة استنادا إلى الموهبة ربما كانت لها جوانب جمالية بل ربما كانت لها جوانب إبداعية ومعنى ذلك أنه لا يمكن لأستاذ في اللغة  أو فى الأدب أو في كليهما  ايا كان حظه بالانجليزية أو العربية ( بل أيا كان حظه من العلم بنظريات اللغة) أن يخرج لنا نصا مقبولا مترجما عن إحدى اللغتين دون ممارسة طويلة للترجمة.

مقدمة

                        تعتبر الترجمة أهم وسائل نقل المعرفة والثقافة والفكر، من أجل تحقيق مستوى حضاري أفضل، فهي قنطرة للتلاقح بين ثقافات الشعوب، لذلك يمكننا القول إنها فن من فنون الحياة مع الآخر.. تعتمد الترجمة تحويل نص أصلي مكتوب من اللغة المصدر إلى نص مكتوب (النص الهدف)،

                        عرف العرب قديما الترجمة كأداة للتواصل والحياة مع الآخر، منذ أن انفتحوا على العالم من حولهم، سواءً بسبب التجارة أو الترحال، وكانوا على صلة بالأحباش والفرس والروم، حتى أن الشاعر (الأعشى) عرف عنه تضمينه لكلمات فارسية أكثر من غيره.

                        وبعد الإسلام عرفت (الترجمة) المنظمة في زمن الدولة الأموية، حيث كان «خالد بن يزيد بن معاوية» على رأس منظمة نشطة في الترجمة. وفي العصر العباسي، راجت أكثر بسبب اتساع الفتوحات الإسلامية، فترجموا عن اليونانية علوم الطب والفلك والرياضيات والموسيقى والفلسفة وغير ذلك.

                        وكانت تعد مهام الترجمة تقتصر على أنواع الترجمات التقليدية كترجمة الأعمال الأدبية بلغات عدة حتى يستمتع بها القراء، بل اتسعت مهام الترجمة في وقتنا الحالي لتضم مجموعة من الأدوار المتخصصة التي أصبح المترجمون يقومون بها داخل الوزارات والهيئات الحكومية ودور النشر وغرف الأخبار التلفزيونية وعلى مواقع الإنترنت وفي وسائل الإعلام الاجتماعي، وهذا ليس سوى غيض من فيض وأن جامعات عديدة في العالم العربي أخذت  تنشأ اقساما للترجمة على مستوى البكالوريوس والماجستير.

ما هي الترجمة.

                        الترجمة أو النقل هي عملية تحويل نص أصلي مكتوب (ويسمى النص المصدر) من اللغة المصدر إلى نص مكتوب (النص الهدف) في اللغة الاخرى                        لا تكون الترجمة في الأساس مجرد نقل كل كلمة بما يقابلها في اللغة الهدف ولكن نقل لقواعد اللغة التي توصل المعلومة ونقل للمعلومة ذاتها ونقل لفكر الكاتب وثقافته وأسلوبه أيضا، لكن اختلفت النظريات في الترجمة على كيف تنقل هذه المعلومات من المصدر إلى الهدف، فوصف جورج ستاينر نظرية ثالوث الترجمة: الحرفية (أو الكلمة بالكلمة) والحرة (الدلالة بالدلالة) والترجمة الأمينة

                        الترجمة -كما يُعرِّفها والتر أوين عالم اللغة السكوتلندي الفذ- هي نقل المحتوى من لغة المصدر إلى لغة الهدف، ويقول ابن منظور صاحب ”لسان العرب“: «يُترجِم الكلام، أي ينقله من لغة إلى أخرى»، وحسب تعريف المترجم الكبير چون كاتفورد، فهي استبدال المادة اللغوية في لغة ما بما يقابلها في المعنى في لغة أخرى. حسن، قد يبدو هذا سهلًا، لكن لو كانت الترجمة مجرد عمليَّة استبدال للكلمات، لكان أي قاموس ثنائي اللغة كفيلًا بالوصول إلى ترجمة مثاليَّة لأي نص عن طريق تزويده بقائمة من الكلمات ومعانيها في اللغة الأخرى. في الحقيقة، الترجمة هي عمليَّة توصيل للمعنى أكثر منها عملية استبدال للكلمات، وهي فن مستقل بذاته، حيث إنه يعتمد على الإبداع والحس اللغوي وحسن اختيار الألفاظ، لضمان توصيل المعنى إلى المتلقي بأفضل وأبسط صورة ممكنة

أنواع والوان

                        توجد أنواع عدة من الترجمة، كالترجمة التحريرية، وهي ترجمة نص مكتوب إلى نص مكتوب بلغة أخرى، ثم ترجمة تتبعية، أي عندما يستمع المترجم للمتحدث، ويبدأ في إعادة ترجمة ما قاله، وهي الشائعة في المقابلات بين رؤساء الدول والمسوؤلين)، ثم الترجمة فورية، التي تمارس أثناء سماع المتحدث. أما ترجمة الأفلام، فهي نوع مختلف، تعتمد على ترجمة اللهجة العامية أو اللغة الدارجة للمتحدثين، لذلك تعتبر صعبة الممارسة، وفي حاجة إلى مترجم ذي مهارة خاصة.

                        وهناك فرق بين المترجم والترجمان أما المترجم هو الشخص القائم بالترجمة التحريرية وقوامها الدقة البالغةو الملكة الكتابية المتطورة أما الترجمانفهو القائم بالترجمة الفورية التى تستدعى سرعة البديهة وقوة الذاكرة للنطق بما  يسمعه مترجما من فوره.(التُّرْجُمانُ والتَّرْجَمان: المفسِّر للسان.وفي حديث هِرَقْلَ: قال لتُرْجُمانه؛ الترجمان، بالضم والفتح: هو الذي يُتَرْجِم الكلام أَي ينقله من لغة إلى لغة أُخرى، )

                        تعتبر الترجمة فنا مستقلا بذاته حيث إنه يعتمد على الإبداع والحس اللغوي والقدرة على تقريب الثقافات وهو يمكن جميع البشرية من التواصل والاستفادة من خبرات بعضهم البعض. فهي فن قديم قدم الأدب المكتوب. فقد تم ترجمة أجزاء من ملحمة جلجامش السومرية، من بين أقدم الأعمال الأدبية المعروفة، إلى عدة لغات آسيوية منذ الألفية الثانية قبل الميلاد.

تاريخ الترجمة العربية

                        في الواقع بصعب أن نحدد تاريخاً محدداً بدقة في تاريخنا العربي ، لبدايات ظهور الترجمة لدى العرب ، ذلك بأن ثمة مختصين منهم عُرفوا بإلمامهم بلغات الأعاجم منذ ما قبل الإسلام ، فقد اختلط العرب بالأجانب بحكم رحلاتهم التجارية منذ ما قبل الإسلام واحتكوا بثلاث اُمم مجاورة لجزيرتهم : الفرس والروم والأحباش ، وإلى حدما السريان والهنود والمصريين ، إلا أن الإلمام بهذا القدر أو ذاك بلغات الشعوب لا يعني بالضرورة النقل والترجمة، فقد اقتصرت في الغالب عند العرب على ترجمة عملية شفوية اقتضتها كما ذكرنا علاقاتهم التجارية، ولعل دليل ذلك الاحتكاك دخول عدد من المفردات الفارسية واليونانية والرومانية في أشعار العرب ولعل أشهرهم في هذا الشأن الأعشى ، وقيل ان الحارث بن كلدة تعلم أيضاً الطب في فارس واطلع على التجربة الطبية الهندية فيه

                        أما الترجمة في صدر الإسلام فازداد احتكاك العرب المسلمين بامم اخرى وبدأت ترجمات رسائل الرسول ( ص ) إلى ملوك الأقوام والشعوب غير العربية، ومنهم قيصر الروم وكسرى ملك الفرس ونجاشي الحبشة ومقوقس ملك الاسكندرية ، هذا إلى جانب الرسائل التي بعث بها الخلفاء الراشدون إلى قيادات أقوام وأمصار عديدة لأغراض شتى ، وبضمنها الاغراض الدعوية

                        بعد الفتح الإسلامي وانتشار الدعوة الإسلامية في البلاد المحيطة بالجزيرة العربية التي امتدت  من الأندلس إلى مشارف الهند والصين، أصبحت لغة القرآن منذ بداية القرن الثامن للميلاد لغة الحكم السياسي والتواصل اليومي بالإضافة إلى كونها لغة الدين فترجمت الدواوين إلى العربية وتخلت الإدارات الرسمية عن اليونانية والفهلوية لصالح اللغة الجديدة فأضحت الترجمة من النشاطات الفكرية الأساسية في المجتمع الإسلامي الجديد

                        أما العصر الأموي  فاختلف الباحثون والمؤرخون العرب عما إذا كان هذا العصر هو العصر الفعلي لبدايات الترجمة والنقل من علوم الحضارات الاخرى كالهندية والاغريقية والصينية إلى العربية أم مجرد شهد محاولات فردية محدودة ، وتركز الاختلاف حول مدى اهتمام الأمير الاموي خالد بن يزيد بن معاوية بن ابي سفيان بالترجمة واستقدامه علماء من مدرسة الاسكندرية لترجمة العلوم اليونانية ، إلا ان الكثيرين يتفقون على أنه جرت ترجمة للدواوين في الأمصار المفتوحة خلال هذا العصر وبخاصة في عهد مروان

 

                        ومما لا شك فيه أن حركة الترجمة ازدادت قوة في العصر العباسي بسبب حاجة المسلمين إلى معرفة الأمم الأخرى وبسبب تطلعهم إلى التبحر في العلوم التي لم تكن لديهم ووصلت إلى ذروتها في أيام أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد والمأمون ثم توقفت حركة الترجمة إلى العربية علميا في عصور الانحطاط غير أن النشاط الثقافي بما فيه حركة الترجمة عاد إلى الحياة عندما بدأت العربية تجدد نفسها في القرن التاسع عشر الميلادي في القرن الذي يطلق عليها اسم” عصر النهضة”  ومن اشهر الكتب المترجمة كتاب الجغرافيا لبطليموس ، والأخلاق لأرسطو ، وكتاب اضطرابات العين وكذلك قام المفكر عبد الله ابن المقفع بترجمة مجموعة من الكتب لعل أشهرها ” كليلة ودُمنة ” الذي ألفه الفيلسوف الهندي بيديا باللغة السنسكريتية في عهد الرشيد تمت ترجمة الكتب الطبية اليونانية . وعودة الى عهد المأمون فقد تأسست أهم مدرسة للترجمة على يد المترجم الكبير حُنين بن اسحاق الذي يُقال بأنه ترجم 100 مخطوط من اليونانية إلى السريانية ، و39 مخطوطاً إلى العربية مباشرةً . وبخاصة المخطوطات الطبية وكان حنين يسافر إلى الاسكندرية وبيزنطة للبحث عن المخطوطات الجديرة بالترجمةوغني عن القول أيضاً ان حركة الترجمة في العالم العربي خلال معظم العصر العثماني كانت غائبة واستمر خمودها حتى تعيين والي مصر محمد علي باشا في اوائل القرن التاسع عشر .

الترجمة وعصر النهضة

                        قد عرف الوطن العربي في القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين نهضةً كبيرةً؛ كان للترجمة فيها دورٌ كبيرٌ. وبعد أن مرّ العالم العربيُّ بسنوات عِجافٍ نسبيًا، في مجالات التفاعل الثقافي والبحث العلمي وتطوير المعارف، فإن حركة الترجمة العربية تشهد منذ مطلع القرن الحالي تأسيس منظمات ومراكز ومعاهد وصلت إلى أعلى درجات النقل من اللغات الأجنبية إلى العربية، وهو الأمر الذي يدلّ على أن العالم العربي يلج في عصر جديدٍ من النّهضة الفعلية والواعدة؛ على صعيد عِلميّة الكتب المترجَمَة، ورِفعة مواضيعها، وتخصّص نصوصها من جهةٍ، وعلى صعيد نوعيّة الترجمة ومراحل إنتاج النصوص المُترجمة من جهةٍ أخرى

                        بعد الصّدمة التّي أحدثتها حملة نابوليون على مصر واستفاقة العرب على وقع تخلّفهم المزري مقارنة بنهضة الغرب وتقدّمهم العلميّ والتّقنيّ عاد الوعي بضرورة التّرجمة وأهميّتها لتحقيق التّقدّم الحضاريّ واكتساب أسباب العلم والتّكنولوجيا. رأى محمّد علي باشا (1805-1849) في التّرجمة جسرا لا بدّ من عبوره لنقل العلوم من الحضارات التّي تقدّمت فيه أشواطا (وهي في واقعه الحضارات الغربيّة والفرنسيّة على وجه الخصوص) نحو الحضارات الرّاغبة في الالتحاق بها ، كما هي جسر لا بديل عنه أيضا للتّواصل الفكريّ والتّبادل الثّقافيّ والإبداعيّ بين الحضارات. وبعد صدمة الفجوة التّكنولوجيّة التّي اكتشفها العرب في أنفسهم، بادر محمّد علي باشا مؤسّس مصر الحديثة إلى اتّباع الطّريق التّي سلكها أسلافه من العبّاسيّين ويسلكها كلّ راغب في اكتساب العلوم والتّقانات من الأمم التّي سبقته فيها (وهو ما فعلته اليابان ثمّ قام به الاتّحاد السّوفييتي في بداية القرن العشرين وما تفعله الصّين اليوم). فسعى بعزم ومثابرة إلى توطيد حركة التّرجمة في البلاد المصريّة. فأرسل البعثات الواحدة تلو الأخرى إلى باريس .وألحّ عليها إلى حدّ التعسّف لترجمة ما تحتاجه البلاد من كتب ومؤلّفات علميّة .وأسّس «مدرسة اللّغات» سنة 1835. ووضع على رأسها رافع رفاعة الطّهطاويّ ( 1801 – 1873 صاحب تخليص الإبريز في تلخيص باريس الذي يعدّ أحد أكبر رموز النّهضة والتّرجمة في العالم العربيّ. وكان يرمي من وراء إنشاء «مدرسة اللّغات» التي أصبحت في ما بعد «مدرسة الألسن» إلى تكوين الكفايات اللاّزمة في الّلغات الأوروبيّة التّي تغنيه عن إرسال البعثات المُكْلِفة. وقد عرفت تونس المسار نفسه تقريبا . فترجمت الكتب العلميّة المتعلّقة بفنون الحرب، إذ سلك المشير أحمد باي السّياسة نفسها التّي اتّبعها محمّد على في مصر .فأسّس المدرسة الحربيّة بباردو سنة 1840. وكان ذلك حافزا قويّا على التّرجمة .فعرّب ما يضاهي الخمسين كتابا في الفترة الفاصلة بين تأسيس المدرسة الحربيّة وانتصاب الحماية الفرنسيّة على تونس سنة 1881

                        كلفت الهيئة الإدارية في اتحاد المترجمين العرب فريقا من الباحثين بإجراء إحصاء حول الكتب المترجمة في دور النشر ومراكز الترجمة العاملة في بيروت خلال السنوات العشر الأولى من هذا القرن اي من عام2000م إلى عام 2009م وتناول هذا الإحصاء منشورات أكثر من ثلاث وثلاثين دارا للنشر تعني بالكتب المترجمة وكانت النتيجة أن مجمل  ما نشر من كتب مترجمة  فيها يتعدى ثلاث آلاف كتاب مترجم وقد تناولت الإحصاءات كل ما يتعلق بالكتاب في لغته الأصلية وفي اللغة العربية

                        يكاد يتّفق كلّ الباحثين على أنّ وضع التّرجمة في الوطن العربيّ متأزّم إن لم يكن متردّيا ، تسوده الفوضى ويغلب عليه تشتّتُ الجهود وغياب النّجاعة وضعف المردود. ويبدو أنّ سبب تلك الأزمة اختلال التّوازن بين الحركة العلميّة العالميّة وأعمال التّرجمة التي لا تغطّي عندنا الحاجة الاستهلاكيّة،فضلا عن الهوّة التّي تفصل بينها وبين ما تفرزه يوميّا عجلة الإنتاج العلميّ والتّقنيّ في العالم الغربيّ. و لقد أصبح من العاديّ الذي لا يقضّ مضجع أصحاب القرار أن يتجاوز معدّل المسافة الزّمنيّة التي تفصل بين الأثر العلميّ في لغته و ترجمته ما يزيد عن الثّلاثين سنة. ورغم الشّعور السّائد لدى الجميع بدور التّرجمة في التّطوّر الحضاريّ ونقل التّقانات، فإنّها لم تنل حظّها من العناية في رسم سياسات النّموّ من دعم ماديّ ومعنوي يليق بها. وتشير كثير من الإحصاءات إلى تخلّف العرب الشّديد في ميدان التّرجمة.

رغم هذه الأزمات المتراكمة لا نستطيع إهمال بعض المحاولات التي أخذتها بعض الحكومات العربية في مجال الترجمة والتي دفعت عجلة الترجمة إلى الأمام  ومن أهم مشاريع الترجمة الرائدة الي برزت عربياً مشروع ترجمة الألف كتاب الاول في مصر خلال عهد عبد الناصر في الخمسينيات بإشراف الادارة الثقافية في وزارة التعليم ، ثم تبعه مشروع الالف كتاب الثاني في الثمانينات خلال عهد حسني مبارك ، ثم جاء انشاء المركز القومي للترجمة والذي هدف لتوسيع أعمال الترجمة لتشمل اللغات الشرقية وعدم اقتصارها على اللغتين الانجليزية والفرنسية . لكن رئيس قسم الترجمة في السفارة الفرنسية بالقاهرة ريشار جاكون يعترف بأن حركة الترجمة في الحقبة الناصرية كانت هي الاكثر ازدهاراً في مصر مقارنة بالفترة الملكية وبعهدي السادات ومبارك ، وخلال الفترة الناصرية نفسها تمت ترجمة ” الكوميديا الآلهية ” على يد المترجم المصري حسن عثمان الذي عكف على ترجمتها في ثلاثة أجزاء على مدى عشر سنوات ( 1959- 1969 ) وأشاد بهذه الترجمة إدواردو كريسافولي استاذ اللغة الايطالية ومدير المركز الثقافي الايطالي في بيروت ودافع أو تفهم امتناعه عن ترجمة القصيد الثامن والعشرين من “الجحبم “‘الذي تناول فيه دانتي نبي الإسلام محمد ( صلعم)

                        في اواخر تسعينيات القرن الماضي تم تأسيس المنظمة العربية للترجمة ، وقد ترجمت حتى الآن ما يقرب من 300 كتاب من اللغات الانجليزية والفرنسية والالمانية وغيرها ولا نعلم عما اذا كانت تتولى رعاية ترجمة المؤلفات العربية الى االلغات الاجنبية (ويؤخذ عليها أسعار كتبها الباهظة) . وفي الخليج العربي تُعد سلسلة عالم المعرفة في دولة الكويت والتي تأسست عام 1978 وتصدر كتباً شهرية في مختلف حقول العلوم والمعرفة من اوائل مشاريع الترجمة الرائدة في الهذه المنطقة بالنظر الى ان العديد من كتب هذه السلسلة تصدر مترجمة عن لغات أجنبية . وفي دولة الامارات أطلقت هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث مشروع ” كلمة “الذي يقوم سنوياً بإعلان قائمة بمائة كتاب منشورة بكل اللغات ثم يعكف على ترجمتها ، ومؤخراً أصدر هذا المشروع الترجمة العربية للعمل الكلاسيكي اللاتيني ” الإينادة ” ، من تأليف بوبليوس فورغيليوس مارو وترجمة محمد علي الغول . ومع ذلك فما زالت اسهامات المترجمين الخليجيين في حركة الترجمة العربية للأسف شبه معدومة، مع ان الدول الخليجية من اكثر المناطق العربية في المام شعوبها باللغة الانجليزية . أما في مصر فمن المشاريع التي برزت في هذه الفترة المشروع المشترك بين داري نشر الشروق المصرية و بنجوين راندوم هاوس البريطانية لترجمة كلاسيكيات الادبين العربي والغربي بالتبادل ( أي في الإتجاهين من الانجليزية الى العربية ومن العربية الى الانجليزية ) ، بينما اختصت مؤسسات إصدارية اخرى بترجمة الاعمال الادبية العربية الى اللغات الاجنبية مثل مجلة بانيبال في لندن التي صدرت في عام 1998 لهذا الغرض وتصف ميرلين ديڤيد استاذة دراسات الترجمة في جامعة كوينز بلفاست الايرلندية ان رؤية الاوروبيين الى الاسلام تحولت نحو الأفضل في الخمسين سنة الاخيرة بفضل ترجمة النصوص الاسلامية الى اللغات الاوروبية على ايدي كثرة من المسلمين بعدما كانت تترجم على أيدي الدبلوماسيين والرحالة و الباحثين في سياق استعماري مغرض غير منزه من الهوى .

ومن نافلة القول ان الترجمة خلال القرن العشرين الذي اُطلق عليه عن حق “عصرالترجمة” قد تطورت عالمياً بحيث تحولت علماً قائماً بذاته يُدّرس في أرقى جامعات العالم ولم يعُد خاضعاً للارتجال والهواية أوالارتزاق كما كان الحال قبل ذلك في أحايين عديدة

الترجمة فنا وحرفة

يمكن للمرء أن ينظر إلى الترجمة من الناحية النظرية على أنها علم. وعملياً، قد يبدو من العقلاني اعتبارها فن. ومع ذلك، بغض النظر عما إذا كانت الترجمة تعتبر علماً أو فناً أو حرفة، ينبغي أن نضع في اعتبارنا أن الترجمة الجيدة تحقق نفس المعنى في اللغة الهدف كما في النص الأصلي

قد يعتبر البعض أن الترجمة هي فن. فالأفراد الذين يقومون بالترجمة المحترفة والمتخصصة لديهم موهبة فنية لإعادة بناء أو إعادة تشكيل المستند الأساسي في صيغة جديدة تماماً ومفهومة للقارئ .وقد يصرّح آخرون بأن الترجمة هي مهارة تدعو المترجمين لنحليل وفهم وتفسير العلاقة بين معاني الكلمات وبناء الجملة. وفي المقابل، يدّعي بعض العلماء بأن الترجمة هي علم بمعنى أن المترجم يجب أن يمتلك فهماً كاملاً لعلم بناء الجملة والتراكيب و علم الدلالة والنحو.وبالفعل، يمكن أن تكون الترجمة فناً أو مهارة أو فرعاً من فروع العلم، فهي واحدة من أصعب وأكثر الوظائف حيوية في المجتمع. وبما أن العالم يتطور بشكلٍ مستمر فيما يتعلق بالمحادثة والابتكار التكنولوجي، ازدادت الحاجة لترجمة الأفكار وعمليات التفكير من لغةٍ واحدة إلى مختلف اللغات. لذلك، سواء ما إذا تم اعتبار الترجمة كعلم أو فن أو حرفة، يبدو من المهم الإشارة إلى أن الترجمة الجيدة ينبغي أن تؤدي نفس الدور وتحقق نفس الهدف.

ورغم ما في الدراسة المنتظمة من فائدة لا شك فيها للمترجم فإن الترجمة الحقيقية تبدأ كما يبدأ نظم الشعر لا من الدراسة الأكاديمية بل من الولع الجامح بكشف أسرار  التعبير اللغوي والرغبة الداخلية  في التعبير باللغة القومية بما فيما من بلاغة خاصة بها عما تعبر عنه اللغة الأجنبية بما فيها من بلاغة خاص بها وما نخشاه في الترجمة هو أن يتحول الجانب الإبداعي فيها إلى عملية ميكانيكية لا يغني المترجم فيها إلا إنتاج الكم المطلوب بأسرع وقت ممكن.

يقول الدكتور محمد عصفور: لقد تبين لي بعد ما يقرب أربعين عاما من ممارسة هذا الفن أن مركبه صعب وأن مزالقه كثيره بحيث آمنت في نهاية المطاف بأنه ليس ثمة من ترجمة نهائية وأن أي ترجمة ما هي إلا مشروع قابل للتحسين وأن المترجم الحريص هو الذي يفعل ما كان يفعله زهير بن أبي سلمي : يقلب الوجوه الممكنة للترجمة أو القصيدة ردحا من الزمن- حولا كاملا إن لم يكن في عجلة من أمره – وإلا سوف يكون عرضة لسهام النقد الجارجة.

فمن المؤكَّد أن ممارسة الترجمة ليست حِكرًا على المتخصصين الذين تخرجوا في كليات الألسن والآداب، ففي أي مجال هناك دائمًا مساحة للهواة الذين يريدون إما التحول من هواة إلى محترفين مع مرور الوقت، أو مجرد إشباع رغبة شخصية في ممارسة العمل في هذا المجال أو ذاك. لكننا -في الوقت نفسه- نعرف أنه كلما ازداد تخصُّص الإنسان في مجال ما، كلما خرجت نتيجة عمله في صورة أفضل. ينطبق هذا على ترجمة الكتب، ينطبق على ترجمة الوثائق، وينطبق على ترجمة الأفلام أيضًا

مشكلات الترجمة

تنقسم المشكلات كما قال الدكتور محمد عناني، إلى مشكلات خاصة بالكلمات (Lexical) ومشكلات خاصة بالتراكيب (Syntactic ) وتتضمن مشكلات الألفاظ اشتقاقها(derivation &etymology) ومعانيها ودلالاتها واختلاف ذلك من سياق إلى سياق وتتناول مشكلات التراكيب  وهي المشكلة الكبرى بناء الجملة وفن مضاهاة التراكيب في اللغتين وخصائص السياقة.

وقال كثير ممن مارس في الترجمة ” ليس على الترجمة سيد وأن المترجم مهما كانت قدرته ومهارته وهو واقع في مشكلة ما والحصيف من لا يستنكف عن السؤال والبحث عما لا يعرفه بل أحيانا عما يعرفه أو يظن أنه يعرفه إذ تكون الفكرة في النص الأجنبي عامضة في ذهن كاتبها أو أحيانا  ما يكون قد أساء التعبير عما يريد أن يقوله فعلى المترجم أن يبحث عن تفسير مقنع لما يقرؤه وأن يطمئن إليه حتى يضمن وضوح الفكرة المترجمة وأحيانا يكون للنص الأجنبي من ظلال المعاني ما يجعل ترجمته مستحيلة مثل ما أوردنا حادثة تجربة السيدة/تاتشر للكمبيوتر.

هناك بعض الأمثلة to go the way of all flesh  وهذه الكلمات لا نستطيع ترجمتها حسب الألفاظ ولكن تكمن معنى آخر ومعناه يقضى نحبه اي يموت

It made my flesh creep بمعنى أفزعني المنظر

More than flesh and blood can stand بمعنى فوق طاقة البشر وليس فوق طاقة الجسد فحسب  وكذلك في اللغة المليبارية കാടു കയറി  بمعنى انعطف عن الموضوع وليس الذهاب إلى الأجمة كما نفهم من الكلمة. فلا بد من تعريف جديد للمترجم

فالمترجم كاتب عمله هو صوغ الأفكار في كلمات موجهة إلى قارئ فالفارق بينه وبين الكاتب الأصيل هو أن الأفكار التي يصوغها ليست أفكاره بل أفكار سواه ومن الغريب أن يكون هذا الفارق مدعاة للحط من شأن المترجم  في بلادنا وفي الحقيقة نقل أفكار الغيرأعسر من التعبير عن آراء المرء الأصلية. فالكاتب الذي يصوغ أفكاره الخاصة يتمتع بالحرية في تطويع اللغة لتلائم هذه الأفكار بل تطويع الأفكار لتلائم اللغة. والحقيقة التي أشرقت فسطع نورها حتى لا يكاد ينكرها أحدهي أن اللغة والفكر لا ينفصلان وليس للكاتب أن يزعم أنه يكتب ما كان يعتزم كتابته فقط بل حين تصدى للكتابة، فعملية الكتابة نفسها عملية استكشاف للأفكار ووضع الكلمات على الأوراق إبداع فكرية لا عملية تجسيد فكري بمنى أن الكاتب يأتي بأفكار جديدة أثناء الكتابة ( أيا كان علاقتها بالموضوع الأصلي) ولا يقتصر عمله على تجسيد أفكار مسبقة في كلمات.

أما المترجم فهو محروم من هذه الحرية الابداعية أو الحرية الفكرية لأنه مقيد بنص تمتع فيه صاحبه بهذا الحق من قبل وهو مكلف الآن بنقل هذا السجل الحي للفكر من لها لها أعرافها وتقاليدها وثقافتها وحضارتها إلى لغة ربما اختلفت في كل ذلك. والعلم بهذا ليس أمرا ميسورا ومتاحا للجميع بل يتطلب سنوات طويلة من التبحر في آداب تلك اللغة ومع ذلك وهو مطالب بأن يخرج نصا يوحي بأنه كتب أصلا  باللغة المترجم إليها اي مطالب بأن يبدو كاتبا أصيلا وإن لم يكن كذلك. وهذا مكمن الصعوبة الأول والأكبر ومعنى ذلك هو أن يتسلح المترجم بالقدرة على استخدام الألفاظ والتراكيب لتدل على ما يريده من معان وليس هذا بمتوفر في معظم من يتعلمون اللغات الأجنبية بل وليس هذا بممكن دون ممارسة الكتابة الأصلية سنوات طويلة.

وإذا كان على المترجم أن يجيد فنون الكتابة باللغة التي يكتب بها فعليه أيضا فهم النصوص التي يترجم منها ولا يكفي في هذا الاستعانة بالقواميس أو بكتب النحو رغم أنها لا غنى عنها في هذا الباب. ولكن عليه أيضا أن  يلم بعلوم العصر ليس فقط فنون الصياغة اللغوية بل يحتاج أيضا إلى الإحاطة بمعلومات كثيرة عن العالم الذي نعيش فيه إحاطة تمنع الجهل. أي لم تعد اللغة عددا من الكلمات والعبارات والأمثال التي كانت أساتذة اللغة في مدارسنا يتكئون عليها ويلقنوننا إياها كيما يشتد ساعدنا ونبرع في أفانين اللغة فتلك ما يطلق عليها لغة التراث التي تجمدت في القوالب والأفكار جميعا.

العربية المعاصرة

فاللغة العربية المعاصرة هي لغة العلوم الحية ولغة العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية الحديثة وهي لغة لا بد  من تطورها( فالتطور هو سنة الحياة) حتى تواكب حضارة العصر بل حتى تساهم فيها. إذ لا نستطيع أن ننقل ما نعتز به من علوم حديثة وآداب حديثة إلا إذا آمنا بما يسمى بالعربية المعاصرة ويكفي للتدليل عليه ضرورة إلمام المترجم بقدر من المعلومات  يمنع الجهل و تسرب العلوم المعاصرة إلى اللغة العربية حتى على مستوى الصحافة اليومية. ولن يستطيع  ترجمة ما يأتي في الصحيفة اليومية من موضوعات إلا من ألم باساسيات اللغة. فلا يقدم مترجم  على عمله إذا كان علمه مقصور في أسماء الأسد والجمل والخمر والسيف وما إلى ذلك فمهما بلغت فصاحة هذا المترجم سيقف عاجزا أمام اصطلاحات عادية: سعر الصرف exchange rate والسمسار broker وبوليصة الشحن bill of lading وما إلى ذلك من أصطلاحات المال والتجارة أو الاصطلاحات الشائعة في المجالات العلمية الحديثة  مثل الهندسة الوراثية genetic engineering وطبقة الأوزون ozone layer  أو طبقات الأرض  strata أو معنى الطبقة الفارغة Leisure class أو المرأة العاملة Working women وغير العاملة  Lady of leisure  أو نصرة المرأة  Feminism أو الاحتجاز لدى الشركة Remanded in custody أو جرائم السطو المسلح Armed robbery أو البيان الصحفي

Press release وهذه أمثلة من الصحائف اليومية.

لا تختلف اللغة العربية عن اللغات الأخرى في أنها أثرت في غيرها مثلما تأثرت هي بغيرها من اللغات التي اتصل بها العرب. كلما ضعفت القوة السياسية والاقتصادية والثقافية لأمة من الأمم ضعف تاثير لغتها في لغات الأمم الأخرى وهذا مبدأ ليس له استثناءات كثيرة منذ أن صاغه ابن خلدون في مقدمته عند حديثه عن تأثير الغالب في المغلوب ولما كانت الأمة العربية في عصرها الحديث تصنف بين الأمم المغلوبة فإن من الطبيعي أن يكون تاثير لغتها في اللغات الأخرى ضغيفاوأن يكون تاثر لغتها باللغات الأخرى قويا وبما أن الأمة العربية في هذه الأيام تقف في الغالب موقف المتلقي وليس المنتج في مجال الثقافة والعلوم فإنها مضطرة للتعامل اليوم في وسائل الإعلام والتعليم مع كم هائل من الكلمات والمفاهيم الجديدة التي ليست لها مقابلات جاهزة في اللغة العربية. والتي يجهد المترجمون في ترجمتها أو تعريبها بدرجة  تتفاوت في النجاح من حالة إلى أخرى بحيث تغني بعض الترجمات عن قراءة النصوص الأصلية ويحتاج بعضها إلى قراءة النصوص الأصلية كي تفهم الترجمة. ويمكننا رصد هذه الظاهرة من الناحية الإيجابية والسلبية أما الناحية الإيجابية فتتمثل في التأثير الذي يغني ( اللغة الحديثة) العربية المعاصرة بعدد هائل من المفردات وأساليب التعبير الجديدة وفي ازدياد الحروف والأصوات التي تستعمل فيها أيضا. أما الناحية  السلبية فتتمثل في فوضى الاشتقاق والتعريب والتقليد الذي لا مسوغ له لبنية اللغة الأجنبية وفي شيوع العجمة في كثير من الكتابات التي يكتبها عرب خارج نطاق الترجمة المباشرة مما يدل على تغلغل الأثر الأجنبي في أساليب التفكير والتعبيرا عند العرب تغلغلا يصعب التغلب عليه.

المفردات

لعل أوضح أشكال التأثر والتأثير في سياقنا الراهن هو استعارة لغة من اللغات مفردات من لغة أخرى وفي عصرنا الحديث  تتم هذه عن طريق الترجمة التي تنشر هذه المفردات في وسائل الإعلام المختلفة والتعليم. والقارئ للنصوص العربية المترجمة في كثير من العلوم الحديثة لا يملك ان يستوقفه الأعداد الهائلة من الألفاظ ذات الأصول الأجنبية الواضحة من حيث المبنى والمعنى.

نلاحظ دخول الكلمات من لغة إلى أخرى ظاهرة مألوفة جدا ولكن دخول اللواصق (السوابق واللوحق) أمر نادر الحدوث إلا بين اللغات ذات الأصل الواحدة مثل الانجليزية قبلت أعدادا كبيرة من اللواصق من اللغتين اللاتينية واليونانية لأنها لغة تنتمي إلى عائلة لغوية واحدة أما العربية فتنتمي إلى عائلة لغوية مختلفة فإن قبولها يصاحبه دائما شعور بالقلق مثلا إن صيغة الجمع الطبيعية في لغة الانجليزية es ولكنها استعارت الكلمات اللاتينية مثل index,appendix, formula وصار الجمع البديل وهو الجمع القياسي وهم يقولون muslims ليس muslimin فهي تميل مثل اللغات الأخرى إلى استعمال العناصر الأصيلة فيها.

ومحاكاة العربية للانجليزية في استعمال بعض اللواصق أمر يثير القلق مثل استعمال بينصية ترجمة لكلمةintertexualityوهذه البيــ تلوي عنق اللغة العربية لتتناسب ظاهرة لغوية في لغة أخرى ولو قلنا تداخل النصوص لأدى المعنى المطلوب بطبيعة اللغة العربية ونرى هذا الميل إلى نحت السوابق  ظاهرة فاشية في قاموس مشهور هو قاموس المورد وضعه منير البعلبكي وفي هذا القاموس نجد منحوتات مثل بخلوي intercellular وبيقاري intercontinental  وبيثقافي intercultural  الخ….والفرق بين السابقة الانجليزية وهذه السابقة العربية المقترحة  هو أن السابقة الانجليزية لها معنى حتى عندما لا تكون متصلة بجذر بينما ليس للسابقة العربية بيـ معنى. والسابقتان الوحيدتان اللتان قبلتهما العربية دون تحفظ هما” لا” في كلمات “اللاأخلاقية” و” اللاأدرية” و ” ما”  في ” الما ورائية ” و في ” الماتريدية” وفي ” الماجريات” ولهاتين الكلمتين لهما معنى عند الاتصال والانفصال على السواء كما هو الحال في السابقة المقترحة ” تحمائي- تحت  وتحسطحي وفوبنفسجي وفوسمعيات وفوحسي كترجمة لـ underwater وundersurface وultraviolet  وsupesonic وsupersensible  على التوالي.

اشتقاق الأفعال من اللغات الأجنبية

يمكن اشتقاق الأفعال من الأسماء الأجنبية إذا كان الفعل الناتج رباعيا ولا يجوز في الحالات الأخرى مثل تلفن وتلفز وأكسد وهدرج واقترح قاموس المورد كلمة كمتر في هذا المنوال ولولا أن الفعل حوسب يلاقي قبولا أوسع باعتبار الكلمة ذات أصل عربي مفهوم لكان حظ كلمة ” كمتر” من الشيوع ما للكلمات المذكورة. وقد أجازت اللغة العربية قديما نحت الأفعال العربية  من كلمات متعددة من أمثال بسمل وحوقل وحمدل.

الألفاظ المضافة

هناك أعداد كثيرة من الألفاظ التي أضيفت إلى اللغة العربية بتأثير اللغة الأجنبية وذلك باستعمال من داخل اللغة عند الترجمة وقد نال كثير من هذه الألفاظ حظا وافرا من الشيوع وصارت جزءا لا يتجزأ من اللغة وقد صيغ كثير منها على أوزان عربية سليمة أعطتها ما حصلت عليه من المشروعية. ومنها صيغ على وزن فعللة مثل مكننة وعولمة ومنها على وزن تفعيل  مثل تصنيع وتعقيم وتأميم والتخصيب إلخ.. ومنها على وزن تفعل مثل التصخر والتجنس والتأقلم.

ولكن هناك صيغ ليس لها سند قوي من اللغة رغم وجود أمثلة متناثرة منها المتون المعتمدة مثل الروحانية والجسمانية والأفريقانية والتاريخانية(historicism)والجوهرانية Essentialism  والكيانية  Universalism  والعلمانية Secularism …الخ.

وهناك أيضا ظواهر في هذا المجال تستدعي التوقف عندها لانها تشير إلى تحولات أساسية في بنية اللغة منها فصل مورفيمات  ظللناها وناقشنا عن أخذ كلمة بين أو تحت ويخذف منها الحرف الأخير ويلصق ما بقي منها بكلمات أخرى للحصول على صيغ مشابهة للصيغ الانجليزية مثل بيقاري وتحمائي وهناك أيضا لصق كلمتين وإيجاد كلمة واحدة تخالف المعايير العربية منها شلليطفلي- متعلق بشلل الأطفال واختلافيمنظري= متعلق باختلاف المنظر وأفروأمركيون وهندوأوربي والآخر زمانية لكلمة eschatological  ولا شك أن قبول مثل هذه الصيغ أمر يحكمه الشيوع على كل حال إن هذه الظاهرة تشكل إسهاما لا يستهان في حقل العلم والثقافة لأنها تساعد على إيجار تعابير ومصطلحات مقابلة

التركيبات

تختلف اللغة الانجليزية عن العربية في أنها لغة تركيب بمعنى أنها تعتمد على ترتيب الكلمات في الجملة في إيصال معنى محدد على حين أن الفصحى المعربة تتوسل بعلامات الإعراب لتحديد المعنى  ومع ذلك نشاهد بعض الانحراف من هذا الموقف حيث أثرت الترجمة وما زالت تؤثر في اللغة العربية من حيث تراكيبها سواء في نطاق العبارة القصيرة او نطاق الجملة  الكاملة فالأول مثل أكثر وضوحا more apparent  وأكثر دقة  More exact وأكثر اتساعا More extensive  بدلا من أوضح وأدق واوسع على التوالي وهذا بتأثير من اللغة الانجليزية وكذلك ميل متزايد في إحلال صيغة الاسم المتبوع بالصفة محل الاسم المضاف والمضاف إليه وذلك في عبارات مثل ندوة توعوية ومبارات كروية والرواية الرسائلية بدلا من ندوة توعية ومبارات في كرة القدم ورواية الرسائل على التوالي. وكذلك ميل لاستعمال كاف التشبيه في صيغ ليس للتشبيه فيها وجه مثل ” الواقعية كمفهوم أدبي أو البرلمان كسلطة تشريعية الخ…حيث توازي هذه الكاف كلمة as ولا يمكن اقتلاعه بحجة مجافاته للأسلوب العربي السليم وكذلك أخذت صيغة الظرف الانجليزية تطرد المفعول المطلق من اللغة العربية وتحل محله عبارات مثل ” بصورة كبيرة أو بشكل عشوائي مقابل تعبيري largely   و Arbitrarily  على التوالي.

على أن تأثير الترجمة هذا أخذ يتغلغل في أعمال اللغة تغلغلا يجلعنا نحس بعض النصوص المكتوبة بالعربية أصلا هي  نصوص ترجمها مترجم ضعيف من ذلك كما في الأمثلة التالية، الفحولة النسقية الموصلة بالشعرنة والشعرية بكل مشمولاتها التجويزية واللامنطقية واللامألوفية وكذلك جمل مثل ” المسافة كما قلت اختلافانية اختلافية لأنها وجودية منوجدة………… وأن ربط الجمالانية بالعقلنة والتعقل  والمعقولية والعقلانية هو ما تصوب له ميتافيزيقا الجمال…………. وكلنا عاجزون عن فهم هذه العربية.

وهنا لا بد للمترجم أن يستخدم الفصحى المعاصرة بدلا من هذه الخزعبلات لأن  أهم ما تتميز به هذه اللغة هو أنها تحتفظ بالسمات النحوية والصرفية للفصحى التراثية مما يفرض على المترجمين أن يكتبوا ويفكروا في التراكيب الأساسية للفصحى التراثية حتى تخرج نصوصا في صورة عربية أساسية  مثل استخدام المبتدأ والخبر والجملة الفعلية كما في المثالين التاليين.

على المنضدة كتاب There’s a book on the table
وقعت (بعض) القلاقل في كراتشي There was unrest in Karachi
ساد المدينة الهدوء بعد قيام الشرطة بتفريق المتظاهرين There was quiet in the city after the police dispersed the protesters

والإسراف في الصفات وإضافة الاسم المثقل بالصفات إلى اسم آخر تمثلان عقبة ما يفتأ المترجم المحترف يعاني منها فيجب تحويلها كما يلي

He had a long coat on, old fashioned and faded

لن يجد صعوبة في ترجمة الصفة الأولى ” طويل) لأنها مباشرة ولكنه سوف يلجأ إلى التحويل في ترجمة الصفتين الثانية والثالثة

كان يرتدي معطفا طويلا من طراز قديم وحائل اللون  وكذلك

Rosy cheeked, erect an looking quiet healthy, Enid began to speak

كانت إينيد تقف منتصبة القامة وقد تورد خداها وبدت موفورة الصحة ثم بدأت حديثها.

ويمكن تحويلها إلى جمل فعلية أيضا

بدأت إينيد حديثها وهي متوردة الخدين منتصبة القامة بادية الصحة.

لقد حلت هنا واو الحال محل الفعل لنقدم لنا جملا متوازية لا تقل استواء على الجمل الفعلية.

أما التراكيب الاصطلاحية فلها أهمية بالغة في اللغة الانجليزية فلا يمكن ترجمتها كلمة بكلمة بل يجب أن نجد ما يقاربها معنا مثل to beat one’s breast معناه الحرفي يدق صدره ومعناه الاصطلاحي يندم على ما ف عل أو على ما فات ويقابله يعض بنان الندم أو تعبير to burn one’s boat  معناه الحرفي يحرق قواربه ومعناه الاصطلاحي  يقطع خط الرجعة، بمعنى يجعل التراجع مستحيلا.  وكذلك he has bats in the belfry   ويقابله تطن في راسه الطيور طنينا ومعناه الحرفي لديه خفافيش في برج جرس الكنيسة فعلى المترجم أن يستعان بالقواميس المتخصصة في هذا النوع من المصطلح.

أما ترجمة الشعر

فهي بين ثلاثة مذاهب الأول هو النقل الحرفي للألفاظ في سياقها الاصلي والثاني هو نقل المعاني فحسب بعض النظر عن نسق الجملة أو انتظام الكلمات في العربية والثالث هو إعادة سبك العبارات على كل حال يستطيع في بعض الأحيان فى ترجمة القصيدة تقديم المثيل أو البديل للعمل الأصلي باللغة المترجم إليها اي محاكاة الشاعر فيما فعل من وزن وقواف وصور ومعاني وهذا هو أصلح المناهج للترجمة الأدبية.

وإذا طبقنا هذا المنهج على الشعر الغنائي وجدنا أن على المترجم أن يضع نفسه مكان الشاعر وأن يحاول أن يقدم مثيلا لقصيدته بلغته هو وبإيقاعات هذه اللغة وقوافيها وصورها وقد يقترب أو يبتعد عن المعاني الأصلية ابتغاء لهذه الدقة في المحاكاة وكان إبراهم عبد القادر المازني من أفضل المترجمين وأبرعهم في هذا الصدد – كما كاتن العقاد يشهد بهذا دائما- فهو يتردم مثلا قصيدة لويليام شيكسبير كما يلي

أبعدوا عني الشفاه اللواتي                                      كن يطفئن من أوار الصادي

وابعدوا عني العيون اللواتي            هن فجر يضل صبح العباد

واستردوا ان استطعتم مردا                                   قبلاتي من الخدود النوادي

أما الأصل فهو

Take, O take those lips

That so sweetly were foresworn

And those eyes the break of day

Lights that do mislead the morn

But my kisses bring again

Bring again

Seals of love but sealed in vain

Sealed in vain

وفي هذه الترجمة فإن القارئ العربي سوف يجد في الوزن والقافية إيقاع عربي عريق يقع في الأذن العربية.  أن المترجم لم يوازن بين البحرين في إطار مطلق بل وزان بينهما في إطار استجابة أبناء كل من اللغتين لإيقاع الشعر ونجد في كيرالا محاولة لترجمة شعر كمارناشان الشهير إلى العربية تحت عنوان الزهرة الساقطة بيد المترجم أبو بكر نانماندا وهناك أمثلة كثيرة ولا أريد الإطالة.

خاتمة

كان امتلاك معلومات في القديم يعنى امتلاك سلطة كبيرة وكان الإنسان يقوم بأسفار تدوم لأسابيع أو أشهر على ظهر جمل أو عربة للحصول على معلومة أو قراءة مخطوطة أو الحصول على جواب لسؤال ما. أما اليوم فقد تغيرت الحال مع التخزين المعلوماتي ومولدات البحث وشبكات الانترنت فقد أصبحت المعلومة متوفرة للجميع ومتاحة لهم ولم يعد امتلاك المعلومة أو حفظها ميزة لأي شخص من الأشخاص أو حكرا عليه.

وهذه المعلومات لا بد أن تتحول إلى معرفة وعلم وهذا الأمرض يفترض وجود نظام يرتب هذه المعلومات من الداخل وعند تداولها بين الناس ومعنى ذلك أن المعرفة يجب أن تكون مشتركة بين أفراد المجموعة الواحدة وأن تكون تيارا فكريا أو مدرسة علمية وعندما تدخل هذه المعرفة إلى وعي الأفراد و/أو لا وعيهم وتندمج في سلوكهم فإنها تصبح نمط حياة وتتحول إلى رؤية خاصة للعالم فهي تؤثر في التقاليد وتشارك في بناء الثقافة وإن كانت عملية استعمال الخطاب اللغوي في التواصل تقوم بترسيخ هذه الهوية بأبعادها ومستوياتها المختلفة، فإن المترجم عند قيامه بعملية الترجمة لا يقوم بنقل المعلومات بل يحاول أن يؤدي في اللغة الثانية كامل ما يحمله في اللغة الأولى.

يشهد المثال الحي من التراث العربي الإسلامي( كما نجد ومضات أرسطو في شعر المتنبي) على أن الترجمة ليست سوى حلقة في سلسلة تبدأ بتحصيل المعرفة في اللغة الأم وتنتهي بالانتماء إلى الثقافة مرورا ببناء المنظومة الفكرة وتمتين الانتماء إلى الهوية الفردية منها والاجتماعية.

ولا بد من تدخل رجال السلطة في تفعيل عملية الترجمة وما بعد الترجمة وإن الحكومات العربية بدأت تعي أهمية الترجمة ودورها في التطور الثقافي للأمة فمنها ما يخصص دوائر حكومة لذلك
( مثل سوريا ) ومنها ما يؤسس المراكز المخصصة في الترجمة ( مثل مصر وتونس ودولة قطر) ومنها ما يقدم الجوائز إلى المترجمين أو يخصص ميزانيات كبيرة لترجمة الكتب العلمية الأساسية مثل السعودية وقطر الكويت والإمارات

المراجع