لمسة حانية

بقلم: صبغة الله الهدوي

الدرس الثالث

” صبابا..صبابا”

 انتفض فرحان وارتج من صوت غريب لم يتعرفه

وكلهم أطلوا هاماتهم عبر الفرش الملتفة…  فرأوا الحارس ينفر شيئا وينحيه.. ويقصيه بعصاه… وسمع فرحان  من قريب صوتا يرتفع من حيوان كأنه فأرة… والتمعت
أنيابه في الظلمة البهيمة… وهي تفر وتثب عن طعنات الحارس…

” وهل قتلته يا حارس”

” نعم واحدا…وهي تفتك على النائمين وتنشبهم”

” وما هو الحيوان”

” هو من نوع الفئران الصحراوية…تهضم اللحوم وتكسر الأجسام.. وقد رأيته مرة يهجم ثعلبا.. وهي تأكل بقية الحدأة والنسور وتستطيع للحياة بدون شربة أي جرعة”

وكأن الفئران تلتفت إليه لتستمع ما قال عنها…

ونزع الحارس سكينه من الصبابا ولطخه بالتراب.. ورقد فرحان وهو ينظر إلى الحارس الجديد… لكن الاستاذ منخرط في صلاته وعبادته ولا يتحرك نحو هذه الصرخة والضجة… وفوقهم يبسم الهلال الوهاج المشع…

وأيقظهم الحارس بأذانه… واستعدوا للسفر ولم يتمهلوا..ورأو في الرمال جثث الصبابا… وفهم فرحان بأن من معه كلهم متمرسون ومدربون..لأنه لا يستطيع لضربة في مرمى البعيد إلا لهم…

وطارت ركابهم بين الجبال المطلة عليهم من كل جانب…والشمس تبدي خدها من بعيد…وهي تجري فوق الأعشاب والأشواك.. وبقية الحياة تلوح من هنا وهناك…وفي الممرات عديد من الرعاة وهم يهزون أيديهم نحو الأستاذ لكنه لم يكترث بهم.

(وقد انسحب فرحان وتنازل عن مهمة الاكتشاف عن الأماكن التي ساروا فيها… وعجز عن ابتكارها ولو بالخرائط الجغرافية)

وما هذه التربة إلا واحدة من الطرق المصعبة التي تستهدف إلى المرمى..

والطريق إلى بلدة الهائمين متكونة من مثل هذه البقاع… ولا يحل طلسمها أبدا…وأصقاع ما زالت تختفي من أعين العقل والدماغ…والله يهدي الناس إليها ويسوقهم…

ولما تجلت الشمس هجراء سلكوا في وادي جديد…وهي لا تفترق ولا تمتاز من أخواتها في الصحراء..مكان مهيب يخيم بالصمت الهائل… وأشجار مكتظة.. والطبيعة تنطق وتصنع الأعجوبة في حافتيها…

( وقد خضعت أمام هذه الجبال أيادي الفتيان المرتصة… ولم يتمكنوا للعثور على عوجها وأمتها)

وتخيل إليه غرابة خلقها وافتذاذ شكله من بين الجبال… حتى أن الحوامة تعجز للهبوط عليها.وهي تسمح لك الظلام البهبيم والدهمة والمدلهمة…وإن رأيت على شفاها حفنة من الأشجار….

وتخيل إليه لعلها مرتع الأطياف والهواتف.. منبع الحقائق التي لم يعرف الإنسان قدرها وقدرتها…ولا تسمع من عمقها إلا عرير الصرصور وإزعاجاتها…لكن فرحان لم يزل يدور حول قمة جبل توهمه كأنها سبابة…وهي تمتص شيئا من الغرابة….

فورا… أمسك الأستاذ لجامه فتوقفوا….حتى رأوا السحاب تستر عيون الشمس… كأن الأستاذ يلتمس شيئا.. وعبس وجهه برؤية هذا المشهد الحزين… حتى دفع خيله في بطنه…لكن الخيل لم يتحرك بل أصبح جامحا.. إذ سمع فرحان صوتا مزعجا…

في السماء… يطير صقر وهي يحوم فوق رؤوسهم… وهل كان الصقر يعاقبنا ويخيم لنا…فنزلوا من الركاب فرجعت خيولهم تجري وتسرع.. ورجع الأستاذ بزاده وفي وجهه أثرات الفرح والسرور.

” لقد خضنا إلى بلدة الهائمين.. ودخلنا فيها فاقدين أنفسنا وليس لنا إلا الاعتماد على أقدامنا حتى نبلغ منزلنا”

وارتفعت درجة الحرارة..وعدلت السحب من طرقها.. واكفهر الجو وتجمع الظل…ومشى الأستاذ وهو يراقب كل حركة…كأنه أيس من السحاب الدليلة..وأسرع خطاه والظل ينكمش…

نعم.. والأن وهم يهربون… يفرون إلى مظلة شجرة بين قعر ومنظر مهيب…والشمس تلعب بهم وتلهيهم… حتى نادى فرحان وهو يهتف

” ها…لقد مس الظل في ساق تلك الشجرة”

ونزلوا في ظلالها.. وقد تنازل الظل من عروقها وجذورها.. وتنهد الأستاذ وهو يناصحهم….

الدرس الرابع

“حقا كان هذا الظل هو الدليل الوحيد أمامنا، فلا بد من تحديد الوقت حتى نصل إلى هذا الظل الوارف، وقد عمني القلق عن هذه السحابة الممطرة فيضيع منا الظل المنتظر، لكن الله خلصنا وأوصلنا إلى واحة الخير والرجاء” تنهد الأستاذ قائلا

“فلماذا دنونا مسرعين نحو هذه الشجرة”

“إنه أمر لين، لأن دربنا يحدده الظل الذي يبثه ذلك الجبل المطل علينا، وإن فاتنا الوقت في تحديد المكان لأصبح خطأ فادحا في مسيرنا، ألا ترى أشجارا ملتفة متماثلة، لا يميزها إلا العقل السليل والخبرة الحاذقة، ولأنه أول بوابة إلى بلدة الآبقين”

فاستفهم فرحان وقد أخذه الوجل والدهشة” أما إنها مجرد شجرة، فأين الطريق” ولم يجب الأستاذ إلا أنه تخلف وأشار بيده نحو الشجرة، وهي تمتاز من بين أخواتها من الأشجار، فلا يفرقها إلا الظل.

أشجار ملتفة الأغصان عالية الأفنان، وهي توحي صمتا رهيبا وصوتا مخيفا، فارتفع هنالك ضربات الطبول ودقات الدفوف، فكل دقة تحاكي بعضها بعضا، دقة الراعي الأبكم ودقة الأستاذ لاستجابة البازي من قبل.

وتقدم الأستاذ من خلف الأجمة المكتظة، دهشة وحيرة ثم حدق إلى السماء،” دقة تتلوها نظرة إلى السماء، عادة ترى في جميع الأرجاء”

إن المعالم مرتقاها إوج السماء، فلا معلم بين السماء والأرض إلا من السماء، وهناك علاقة لا تنجذم بين الثرى والثريا.

فورا… ظهرت لهم حركة حجزت صمت الأوراق، سلم من الحبل، وهو ينسل من بين الأشجار والأوراق، وسقطت أمامهم خشبة سدت بطرف السلم، وطرفه الآخر في أقصى ما ترى أعينهم….

وشرع الأستاذ في صعود السلالم.. متمطيا ومتحسسا… حتى وصل إلى منتصف السلم وضع فرحان خطوته الأولى حتى آخرهم…. ورأى خلال صعوده رقي الجبال الوعرة الضيقة ولما التفت فما وراءه إلا ملامح الوادي والحقول والتلال… كأنهم يطلع أسباب السموات….

وجذبته الدهشة … سلالم لا تنتهي آثارها…. فورا مستها خشبة مسمرة والأستاذ يسعي في تقريب السلم نحوها…وكان هناك سطح ملمس… ولا تبدو زاويته لحجاب الأوراق…  رويدا رويدا وصلوا جميعا إلى هذا السطح المدهش…. تفتحت أعينهم من الحيرة والذهول..

وما عرفوا إلى أين يتجه الطريق…وقد هولتهم المشاهد الغريبة إلا أن الأشجار لم تبلغ حتى منتصف الجبال الشاهقات…وعندئذ أخذ الأستاذ سكينته وقطع عودا أو عودين.. فأدركوا أن هنالك أيضا فتائل من الحبال… وكأنها بداية جسر من الحبل الممتد… وعبروا عليها محتذرين ومتفكرين.. وما رأوا نوبة من الشمس المشرقة لأجل الأوراق المكتظة حولهم.. وتخليلوا أن وراءها أطياف وأشباه… وانتهى الطريق أمام واجهة الغار..

ولما نظر فرحان إلى الجانب الأسفل اندهش وتحير… إنه لا يرى أثر السلم الحبلي.. ومن جلبه ودفعه إلى الأعلى…طلسمات تتلوها أخرى..إنهم يقومون في صخرة مسمرة بالحديد.. والجسر متصل بهذا الحديد… ولما رأى فرحان انشقاقات بين خطوط الصخور نزل إليها ولم يمنعه الأستاذ.. فكل انشقاق يسوق إلى الأعلى وهو يساير مع جانب الجبل الشامخ..

وإذا زلت الأقدام لا محالة في القعر العميق!!

لأنه كلما يصعد السلم يتصغر الحبل وطرفه ويتألم القدم وساقه… حتى توجهوا إلى سدة غار وهم مغرورقون في قطرات العروق….

دخله فرحان مرتبكا لأنه كان ضيقا جدا… وهو يبث الصمت الرهيبرويتبرع الظلام الحالك.. ويضرب الهواء في طبلة آذانهم.. وإذا صرفوا وجوههم عن سجوف الغار شاهدوا أشعة تنسل بين الانشقاقات…

ولم يزل فرحان في ارتباك وريبة حتى دفعه الأستاذ إلى الأمام… ولم يتخيل له وعورة الطريق إلا أنه سول غرابة وندارة…فورا مس فرحان بشيئ ما كأنه يصغر ويكبر.. ولما وضع خطوة أو خطوتين زمجر الغار

“توقفوا”

“ما الذي اندلع الغار” قاله الأستاذ بصوت لين

” اقرأ كلمة احتضنها الغار لثلاث مائة سنة”

“قلوب تتمض بالإيمان وفتية آمنوا بربهم”

” الذي حمته الحمامة والعنكبوت”

“طهارة الهجرة”

وقد امتصت هذه العبارات المرتفعة شيئا من الغرابة والندارة..مرة أخرى دفعه الأستاذ بشدة مضيقة، كأنه يسير مع ثبات الكهف وغار ي الحراء والثور… وكأنه سأل الأستاذ

“إذا لم تستجيب العبارات المشيرة”

“الموت نعم الموت، لأنه لا يصل إلى المنزل إلا من استدرك معنيات الإشارات من الأشجار الطويلة…وإلا فالموت حتم”

حتى عم الجميع معالم القلق والخوف

“وهل وقع شيء مثلها”

“نعم… مرتين أو ثلاث مرات…الذين احتلوا هذا المكان الجميل والذين دخلوها بنية شرسة حتى أيسوا لاختراق ظلمات الغار”

“وهل يستطيع الرجوع برؤية منارة الغار”

” ممكن ولكن إلى حد الشجرة… وبعدها لا تستطيع..لأنه لا يفوز بالسلم الخشبي حتى يعود إلى الغار أو يقفز إلى القعر… فلا حياة في هذه الأماكن المهيبة.. ألا ترى صمتا يرعب”

“ولم يقتلهم”

“وما قتلهم أحد بل اختاروا لهم الموت…لأنهم جاءوا بدم كذب فأهلكهم الغار وأماتهم.. لأنهم كانوا يهودا أو جواسيسهم”

“ما اسم هذا الغار”

“عار النداء..كما ناداه الأجداد لأنه يذكر الآيسين من استجابة النداء… الذين صرخوا وبكوا في بطن الغار.. وقد أصبح مشهدا مؤسفا..وقد مات فيه عديد من الملهوفين خاصة خلال أيام الدولة العثمانية، مرة اقترب إليه راعيان فدخل أحدهما الغارولم يرجع بعد عديد من الأيام…وكان يسمع نداءه مرات من الغار..ولم يرجع هو وحده بل لم يعد ذئب وأرنب دخلا الغار في الوقت نفسه…لأنه زلاقة الفرائس والقناصين”

“من استخدم الغار لأول مرة ومتى كانت الحادثة”

“إنه لا يستحق لي كي أجيب.. ولم أتصل به إلا قبل بضعة سنوات، ولكن يمكن لي القول إنه لا يدري سره بعد الله إلا رجل واحد”

“وإذا تملص أحد إلى الجانب الآخر من الغار”

“يجيبه الغار  لأنه بوابة الموت من الخلف”

ومر عليه جميعهم مرتدين دثار الخوف والاختلاج.. وقد أخذهم الاكتئاب والحزن الطويل.. وحكموا قبضتهم في الحبل وهو يسير مستقيما ومعوجا.. ومشوا فيه قريبا نصف ساعة وساعة وبريق أملهم في قوله سبحانه” واعتصموا بحبل الله جميعا” وهو يرتج طيل آذانهم وأفكارهم.. وتخيل لهم أنهم يسيرون بين جبال عاتيات بين إوج وأمت…

وتراءى لفرحان بصيص من النور وقد أمله طول المشي والعبور.. واشتد الضوء والوميض حسب اقترابه ودنوه منه… حتى استقام له الطريق وتوسع وبدى الطرف الآخر من الغار.. وأطرق رأسه كي ينجو من اقتحام الضوء الشديد..ويضربهم صوت الماء المنحدر من العلو

فجذبه الأستاذ وتقدم هو إلى الأمام

وكلهم كادوا يتنفسون…فردعهم الأستاذ وقال” لا تخافوا… لا ترتعدوا…بل استلقوا على وجه الأرض”

ورفع فرحان رأسه بشدة الذهول…كأنه يذهب مغمى عليه وغمض عينيه ثم نظر ثانية…لأنه رأى صورة مدهشة في الأسفل ومرعبة تماما..

وكانت واجهة الغار في الطبقة العالية.. تستحيل الطموحات لها.. وأعجبهم قمة الجبل سافلة عالية محددة… وإذا انزلقت الأقدام فمصيره جحيم الأرض العميق… وهناك عين صغير بجانب الجبل وقد أملس في المكان…وهو يسيل إلى فتحة مثل القصعة والبحيرة وعلى ضفافها حيوانات ترتع وتكلأ..

وكيف ينجو من هذا المزلق المظلم… وكيف الطريف للتخلص من الأشواك ومعترك الأعشاب.. التفتوا جيمعا إلى الأستاذ وهو يبقى مبتسما

” وقد علمتم خطورة الأمر  إذا وصل محتبيا  إلى هذا”

وأسحبهم الأستاذ أولئك الذين يرتعدون ويضطربون.. ويسكتون من هول الأمر المشهود ثم نزع صندوقا من خصره ثم طواه طيتين وضرب عليهما بشدة… فأولدت صديات شتى في رحم الغار…

لحظات ولمحات..اقترب إليهم شيئ مثل السلة وأخذه الأستاذ وأمر فرحان بالجلوس فيه..فتحكم الحبل وارتفع رويدا وانحدر شيئا فشيئا… ثم أمرهم الأستاذ للنزول عليه…

   رحلة عبر الصخور الهائلة… ولا تنسى تلك المغاورة المعجزة.. من الذي يدبر هذه الحركة ولا يلوح في الجو إلا أثر ضئيل من الحبل.. وفي الأسفل خضرة منتشرة متشتتة.. وعلى البعيد يلمح معالم الجبل.. ومنه بدأت الرحلة واستهل السفر…

رحلة السلة زادته نشاطة واهتماما وألهته القطرات المتطايرة من عين الجبل.. ولعلهم سمعوا صداه من الغار…وأمروا بالنزول في مهبط الماء وأخبرهم

“ربما يخدعكم الماء فتنزلق أقدامكم”

حتى اختبأت السلة من بين أظهرهم ثم غابت في تلك القمم الشاهقة

“لا بد من الحذر “

والتفت الأستاذ وتقدم نحو منفتح الغار..وهناك سلالم مثل سلالم شكلت للصعود..وعلقت مسامير من الحديد كي يتحكم القبض والأخذ…ولكن إذا أخطأت الأقدام فلا حياة تبقى دونهم…

وبعد برهة من السير المسلسل..أصبحت السلالم تعلو وترتفع من مضيق الجبل… وبعد قليل من الساعة وصلوا إلى سطح مزدهر متسع…وارتاحوا جميعا..وقد هيج عضلاتهم هذه الحركات المتتابعة وناموا جميعا إثر نسيم مر بهم… ولم يستيقظ الأستاذ إلا بعد نصف ساعة..

وقد عبروا معظم الطرق الخطرة…ولا يضرهم المسير في حافتي الطريق وأعادوا نشاطهم وفرحان..وهو يمشي بقوة وعضلة..ولم تزل المضيقات تمر بهم وتهبط منهم… وتوقفوا خلف غار خلف الصخور..وهناك مهب الريح البارد ثم مشوا قليلا والآن يسمعهم صوت الرعاة والقطيع وصفصفات الطيور…

وقفز فرحان من ذلك المضيق وفي أسارير وجنته لمعان الفرح والسرور..والحياة والحبور..زهرة وخضرة وبحيرة وبهجة..وأنعام آخرى ترعى وتكلأ.. بل هناك إنسان وبشر.. وانفجر قلب فرحان نشاطا وهزة… نعم فإن مع العسر يسرا.. والقرآن يأتيه بتسلية ولمسة حانية…

خلف المضيقات والصخور…خلف طرق الغار الطويلة..خلف بيروت العروس والحيفا والمرجيون…كأنه يضيع لي ما هو نفيس لي…خيول..صقور..ومخاطر..وشرطة..والشيخ سالم.. وشوارع حيفا…وكلها تنفلت من يدي…وقبل كل شيء أمي الحنون…وقد ضاع لي الآن عنواني التليد…والآن أقوام واستريح في مهبط الآبقين…أرض اللاعنوانيين…