الشيخ بافوتي مسليار: إن الزمان بمثله لبخيل

بقلم: ميران سعد الدارمي

الحمد لله الذي أورث الأرض ومن عليها وإليه راجعون، والذي كتب عليهم الفناء وتأثر بالبقاء، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد عبده ورسوله، وعلى آله الطيبين الأخيار ، وبعد

فنحن في غاية أسف وحزن وفي أعماق يأس وبأس، لا نستطيع أن نعرف كر الزمان ومر الأوان، لفراق ملجئنا وملاذنا الشيخ بافوتي مسليار قدس الله سره العزيز، كان في حياته المثل اللامثيل للأمة المسلمة، لأنه قضى حياته لخدمة الإسلام ونشر العلوم، وسعى للآخرة سعيا مشكورا.

حينما نطلع على حياته الممتلئة بالخيرات والحسنات نجد أنه وليد نجيب الأبوين الصالحين، كريم الطرفين العزيزين، حفيد الجدين الجليلين، فتربى في حجر الفلاح، واحتضن بحضانة التزكية، واسترضع برضاعة الصلاح، حتى أن تصبى صبا الصالحين، وتأدب بأدب المفلحين، ونشأ تحت رعاية والده الكريم الزاهد الصوفي الجليل الشيخ كنجين مسليار نور الله مرقده، قد أثر في حياة الأستاذ تأثيرا عميقا ونفوذا بليغا، واتبع أثره في كل أعماله وأقواله وأفكاره حتى صار صفيا ذكيا، وأرشد الناس إلى الصدق والسنة ظاهرا وباطنا سرا وجهرا دهرا مديرا، فقضى حياته كلها في خدمة الأمة الإسلامية في أكمل وجهها مع وعي تام عن حاضر الأمة ومستقبلها.

وكان ذو كرامات عظيمة، ومن أبرز كراماته أنه أسس معهدا دينيا في عنفوان شبابه، وأنفق فيه بما في جيبه، وتوكل على الله حق التوكل، فكان كامل التقوى والإخلاص في أعماله، وتمت تلك الكلية في حفاظته ورعايته حتى صارت نهج البداية وسبيل الهداية، وقد تخرج من هذه الكلية  علماء كثيرون تمهّدوا في مختلف أنواع العلوم، مهيئين لخدمة دين الإسلام و بلغ عددهم نحو ثلاث مائة، والآن يتعلم فيها ثلاث مائة وأربعون من الطلاب.

ولقد كان الشيخ رحمه الله في أكثر الأمور أصلح وأكمل، و لو عددناها نجدها وافرة ولقد جمع الله فيه من حكم عادل ورأي فاصل وأدب بارع ولب نافع وعلم عميق وحكم جليلة، والله عز شأنه جعله ملجأ وملاذا لكل الإنسان حتى أنقذ الله تعالى إياهم بيد وليه من كل مصائبهم، حينما نطلع حياته يبين لنا أنه كان معن ابن زائدة رحمه الله في هذا العصر:

مضى لسبيله معن وأبقى

مكارم لن تبيد  ولن تنالا

كأن الشمس يوم أصيب معن

من الإظلام ملبسة جلالا

وخلال حياتي مع الأستاذ كنت أعامل معه معاملة جيدة حتى  اطلعت على كثير من كراماته، و أعجبني مع الحيران البالغ أنه كان يقول بما في قلوب الناس وبما في بيوتهم ومساكنهم وقاعاتهم كما كان ذلك من معجزات عيسى عليه السلام، وهو دليل ساطع على أن أولياء الله تعالى يعلم علم الغيب بإذن الله وقدرته، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه» رواه البخاري.

فكم من مشاهد رأيناها بأعيننا وكرامات صادقة سمعناها بآذاننا ووقائع علمناها من عند الناس مثل البقرة التى غابت عنهم و العجوز التى ضلّت عنهم و المجنونة التى تمردت، فأنبأهم بأنها فوق سقف البيت أو أنها في هنا وهنا، فسبحان من علّم علم الغيب للأنبياء والأولياء والصالحين، ويا خسارة من رآها بالباصرة الظاهرة فجحدها وأنكرها غافلين جاهلين، فإنهم يأتون من الأمر منكرا من غير دليل ولا يقين.

ومن تجرباتي معه أنه لما ابتلي أبي بمرض شديد حتى لا يستطيع أن يتحرك ويلتوي في السرير، أخبرته عن مصيبة أبي التي أصابته، فقال لي:» لا بأس، كم هي  المسافة بين بيتك و المسجد الجامع؟» ولم أفهم معنى قوله حتى آن موت باليوم التالي.

وقد كشفت الكروب وفرجت الهموم بمحض كلمة منه. كما علمنا به نبينا الكريم «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه» و قد علم الناس جيدا وعرفوه حق معرفته، وفرح الناس به حتى يشركوه في جميع معاملاتهم اليومية، فكان منهم من يخاف على مشروعاته التي يتقدم بها بغير إذن الأستاذ الكريم، واليوم صارت هذه الأمة يتيمة بفقده، حزينة شديدة على فراقه، فكان ذلك فراق أب حنون كريم.

كان الشيخ رحمه الله يمشي رويدا هوينا جل نظره إلى الأرض، ذاكرا لله وشاكرا لأنعمه، ومفكرا في آيات الله ومسائله، عكوفا حريصا على عبادته، كانت حياته لإحياء السنة النبوية، وكان يحضر المجلس وقدماه متورمتان، فخاف الرب سبحانه وتعالى في رخصه، وتمسك بسنة الرسول وعزيمته، وكان يحضر المجلس ماشيا على قدميه المتورمتين، وإن لم يطقه على ذلك يحضر كيف أمكن بالمراكب، ثم إنه كان يصلي قائما ونحن حوله نخشى وقوعه بورمه الشديد، ولكنه نسي ذلك في عبادته، وعظمها بما تستحقّ من تعظيمها وإجلالها، وكان قد أمر بالتسبيح قبل المغرب والصبح وبالرواتب أن يقيمها.

فلم يمش في الأرض متبخترا ولا مفتخرا، بل مشى متواضعا مطأطأ رأسه مثل الغصن المائل إلى الأرض لثقل أثماره اليانعة، ولله در من قال وأحسن في المقال:

ومن له رفعة بالعلم والنسب

له التواضع منها أحسن الصفة

ثم إنه لم يدع في يوم من الأيام صلاة الضحى والتهجد، وسائرالسنن الشرعية، بل اعتناها بعناية كاملة ورعاية تامة متوفرة، واحتاط احتياطا كاملا في تناول الطعام  واللباس، فكان لا يأخذ لنفسه أكثر من ثلاثة ثياب، وكان يخاف الله فيه ويتقيه ويقول إنها يحاسب في الآخرة، وإن أعطاه أحد وبلغ أكثر من الثلاثة يعطيه لأحد آخر، وكانت حياته خير مثال لمن اتصف بصفات عباد الرحمن والمؤمنين في القرآن: «وعباد الرحمن اللذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما»، «كانوا قليلا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون».

وكان شغوفا بالعلم حريصا على نيله ومعظما له ولأهله، ولذا أسس معهدا تربويا شامخا،  وأعلى مكانته على مستوى العالم، فتخرج منه قريبا من ثلاثمائة من العالمين النابغين في عدة فنون، وتتربى هناك أكثر من ثلاثمائة من الطالب، وكل نفقاتهم من الطعام والمسكن كانت من عند الأستاذ قدس الله سره العزيز، ولكنه توكل كل ذلك على الله الجزيل.

ففي صفوة القول، تراكم فيه جميع خصال محمودة في المؤمنين من التواضع والكرم وحسن الخلق والمعاشرة، لم يعاشر و لم يجالس بأحد إلا وقد حل في قلوبهم محلّ الإجلال والتعظيم ونال منزلة سميكة في صدورهم، كفى ذلك دليلا على حب الله تعالى له ووضع القبولية بين الأنام.

تقبل الله جميع خدماته الدينية، وجزاه الله تعالى أفضل ما يجزي عالما صوفيا، وصب عليه شآبيب رحمته، وجمع بيننا وبينه في فسيح جناته، آمين يارب العالمين.