ارجعي إلى ربّك راضية مرضية

بقلم: محمد سفيل بن عبد الكلام

في صباح يوم الأربعاء، فى السابع عشر من أكتوبر في هذه السنة، كنت باحثا في جامعة دار الهدى الإسلامية حينما قرع سماعي خبر أليم، لم أحب أبدا إيصاله ولم أرض إيقاعه ولم أود سماعه ، بل لا قدرة على التغلّب على قضاء الله تعالى،  فامتلئت قلوبنا كربا، وضيقت صدورنا نكبا، فدهشت أرواحنا وتحيرت أفكارنا وثقلت أنفسنا علينا، نبأ وفاة تقي صوفي وفي، وهو شيخنا الكريم بافوتي مسليار، فكنت أسارع إلى  جوار شيخنا المرحوم ، إلى حرم كلية سبيل الهداية الإسلامية .                              فعيناي قد كحلت برمد البكاء وقد احمرت بالدموع، وسالت على خدي قطرات الدموع طرا. وصار لذيذ العيش مُرا. وبدلت كينونة العقل سَكرا. فما زلت أذكر ذكريات  لذيذة من حياته كفارة لحياتي المذنبة وأفكر عن سيرته المجيدة وسريرته الحميدة. اللهم أفرغ الصبر علينا…

فوطئت بقدمي تربة كليتي ، ورأيت هناك جما غفيرا قد غفلت شغولهم وذهلت شعورهم وثلجت أرواحهم وبردت أنفاسهم بهذا النبأ الأليم الهائل. ورأيت أشجار القرية قد مالت أغصانها، وأعشابا قد ذبلت فروغها لإطفاء نور لامع وضوء بارز أثمرها وأينعها وأخضرها وهو حي أمامها. وداع شيخ عزيز كريم جواد لا تبلغ الألفاظ صفاته ولا تجد الأقلام شيماته، وهو ملجأ الناس وعمدتهم طول حياته الشريفة. فلا استطاعة للناس أن يحس فقهدانه ولا فراقه ، ولا أن ينسى خدماته وحسناته. اللهم تقبل حسناته وخدماته …

فوقع في نظري شيخي المرحوم قد غطت شعوره الأكفان، وقد تجمّع هناك للتعزية الأناسى، وهو في فناء الكلية مكفون بأحسن الثياب وأجمل الطيب، فكأني أقف على فناء جنة، فعندما نظرت إلى عينيه حسست أنه يقول بقلبه :سارعوا بي إلى روضة الجنان وإلى جوار المنان… فوقفت في قربه ناظرا إليه رجاء بركة منه في روحي ونفسي، فما زلت أراقب في وجهه متذكّرا أيام حياته الماضية وراء الأمس المحمودة، فالله أنعم علينا للتعليم في جواره الكريم. الحمد لله …

وقد حظيت بقربه كثيرا في حياتي وأنا في الصف الثامن في كليتي، فشرفت مساء أيامي غالبا بعرفته الكريمة المتعددة لعلمه الطبي في بيته. وكنت مباركا بنفثاته في رأسي حينما أحس أي ألم من روحي وجسمي، وقبلت بشفتاي يمينه وكنت ألتذّ بها لأني أجد منها روحة وراحة في قلبي. وترى هناك في غرفته كرسيّا قد بوركت وتشرفت بجلوسه. وقد شهدت جدرانها بكلمات الناس الموجعة المتألمة وهو المرحوم يشفي صدورهم وسلية من الله، ويعطّي قلوبهم رحمة من الله، ويعطي الأمانة تسلية لنفوسهم، فلا تفرقهم ملة ولا شريعة ولا طبقة ولا درجة، بل هو ملاذ كل ضعيف وقوي وكل فقير وغني، وكل مريض بعد نظره صحيح وكل سقيم بعد رأيته نشيط، فالناس يتكلمون بتعاملهم معه ويتحدثون بتجربتهم معه ، فيرجعهم بتزكية النفوس.اللهم ارفع درجاته….

وكنت وفقت في عامين بالإمامة في مسجد كلية سبيل الهداية الإسلامية مع أخي العزيز محمد صفوان، وهو يأمرني بوعظ بعد صلاة العصر في كل يوم رمضان، ونزال نقوم بالوعظ أمام الناس بعد كل عصر ونتحدّث لهم الأحاديث الواردة بفضلية الصلوات والقربات من الفوائد النادرة وهو أيضا جالس في المسجد، يسمع كلامنا ويرشدنا بعضا منه، ويمدحنا ويحثنا بموعظة الناس نفعة لعلومنا الحاصلة  وقربة لهم إلى الله المنان. وفي تلك الأيام نشارك معه في مائدة الفطر وهو يأكل معنا طعاما، ويقول لنا: كلوا في حالكم هذه كثيرا طيبا. واه أسفا… أشتهي إعادة تلك الأيام الماضية في حياتي.

ولازمت جواره حينما كنت في  الكلية عند دراستي هناك، فذات يوم، قد وقعت واقعة أعجبتني جيدا وتأثرتني طيبا، إذ كنت أمامه وأنا أرغب منه دراسة شيء، فحينما دخلت إليه وقفت هناك لحظة أو بعض ساعة  فأمرني أستاذي بورقة فيها بعض سور مختارة للمواظبة وفى أوّل كلّ سورة تبيّن فضيلتها، فأخذت منه تلك الورقة ، فأمرني بقراءة أحاديث السور، فقرأت حديثا بعد حديث فكلما فرغت من حديث هو يبينني عن فضيلتها ومعانيها، وينبئني عن مجاعة العالم والفقر والبلايا في الكون حينما قرأت فضيلتي الواقعة والملك، فعند ذلك أمرني بإخبار طلبة الكلية بقراءة سورتي الواقعة والملك في كل يوم. وفعلت ذاك والحمد لله. اللهم أدم عليه الكرامة والرحمة في الأخرة….

وقد منحني الله تعالى فرصة لخدمته حينما كنت في الصف التاسع في الكلية، حينما كنّا مسؤولين بإصدار مجلّة النهضة، وكان من مسؤوليتى لكتابة مقالة الأستاذ فكلما تصدر المجلة أقرأ عليه مقالته وهو يسمع مني، و يسئلني عن موضوعات العدد، ويعطني فى يدي شيئا من المال للتبرّك، فلجنة النهضة تحفظ هذه االبركات. يا ليتني ردت إليّ تلك الأيام المتشرفة اللهم شرف أحوالنا بكرامته …

و أشكر لله سبحانه وتعالى على إنعامه عليّ، وكنت أفتخر بحظي العظيم بكرم الله، وقد قمت بدراسة بعض الكتب منه للاغتراف من بحرعلومه حينما كنت في الصف العاشر في الكلية، وقد حصلت هذه الفرصة بوسيلة ابنه الكريم- الحمد لله – وهو أيضا يسمع منه الكتاب ويدرس، فأولا قرأت كتاب شرح المنهاج للمحلي اختيارا من نفسه وهو يسمع ثم يذكرني المسائل والأحكام، وقد تعجّبت حينما رأيته يقرأ متن الكتاب من حفظه وهو في شيخوخته ويصوب غلطي أيضا، وثانيا أمرني بدراسة كتاب مشكوة المصابيح من أول الكتاب فقرئت عليه وهو يوضّحنا المعاني والعبارات مع رواية بعض قصص من نفسه. وثالثا كان التعليم بمختصر المعاني من الفصل الثالث وهو علم البديع، فالآن أسمع من وراء أيامي الماضية صوته حين يذكرني عن البلاغة والبديع. فكلما علمني أستاذي صحفا من الكتب الثلاثة شعرت في نفسي نشاطا وراحة، وفي كل يوم هو يأمرني بالمطالعة زيادة بعد قراءة بعض منهن. اللهم انفعنا بعلومه في الدارين…وفي اليوم التالي حينما سألته عن علمي الفلك والمنطق -وقد ذكرني ابنه قبل عن مهارته في الفلك والمنطق- أجابني أستاذي بشعرعن عدم زيادة الفائدة والمنفعة منهما:

وابن الصلاح والنواوي حرما                                                                                 وقال بعض ينبغي أن يعلما.

وكلما أدخل جواره غالب الأيام لراحة  نفسي برؤيته  أجد منه بركات وأفهم منه كرامات فدهشت يوما حينما أجاب الأستاذ لمرأة وهي وراء البيت من حيث لا ينظرها بل يسمع منها كلامها، هو يقول لها عن موضع بيتها وجيرانها ويرجعها بسلامة القلب وأمانة الحال. فيا ويلتا لم أنل منه إلا قليلا، ويا ليتى استكثرت منه العلوم وأكثرت له الخدمات.وياليته عمّر طويلا مديدا…

وكنت زرته في هذا العام في يوم الجمعة قبل لجوئه إلى السرير بشدة المرض، فحينما رأيت الأستاذ أخبرني أنه يذكرني قائما على المنبر خطيبا في الكلية عندما أخطب أمام الطلاب، فقد هزني قلبي فرحا وسرورا بهذا الخبر. دائما أحس من وجهه بسمات الرحمة والراحة وأجد منه وإن كان مريضا نسمات الإيمان والإحسان. نعم والأراضي والسماوت تشهدان لخدماته والبلدان والقرى تنطقان عن خيراته والأشخاص والأعيان تذكرون حسناته والأمة والمجتمع تفكرون قرباته ، اللهم تقبل حسانته وتجاوز عن سيئاته ….

فقد جرت مرات صلاة الجنازة بإمامة أشراف الناس وساداتهم. وبعد، يرفع جسمه إلى القبر، فرأيت الناس يطرحون حثيات التراب عليه ذاكرين «منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى» فلا أدري كيف الناس يتعاملون هذه عليه هل يرغبون هذا….لا  والله قلوبهم غير مرضية ومطيعة علي أفعالهم وأعمالهم. أيضا أطرح عليه التراب، فما زالت يداي بالزلزلة والارتعاش كرهة من فعلي…

فلا أرضي أن أدفن نجما كان ضياء للناس كافة، بل هو ثريا في فلك الصوفيين وبدر في دورة المقربين إلى الله تعالى، وهو مأوى الحسنات ومثوى الخيرات. والله لو جمع أمواله لنفسه ولعزته لكانت باقية بعد اشتراء قرية  كوتاكل، فلم يبال بالدنيا ولذاتها واهتم بالآخرة وحالاتها.

أخيرا، قد صبت على مقبرته المياء الباردة ونصبت بجنبيها النبات المظللة، والشمس تطلع وإن كانت في وقت غروبها إلى تربته وهي تسألنا عن السبب… ونحن نودعه بكلمات القرآن « يا أيتها النفس المطمئنة ، إرجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلوا في عبادي وادخلي جنتي»….