كلمتها قطرات دمع

بقلم: الحافظ مصطفى أوركم

كيف وارى الثوب الأبيض ذاك الجود الفياض، وأنى يستطيع سرير الخشبة على حمل شخص قاعة قلبه أوسع من الأرض فضلا عن السرير، عندما رقد على لحده مطمئنا وجدت رجاء جيل مستلقيا مدثرا، تفحصت يمينه لكي أقبل على ظهرها وإن لم أقدر فأستلمه كأني أطلب ضالتي فلم أجدها، رأيت من الناس آلافا يزدحمون يطلعون إلى لحد فيه آمالهم قد سترت بخرقة ولكن كيف السبيل لتحقيقها فقد اشتغل بالارتقاء إلى درجات الجنان.

ما للدموع قد انحدرت وبلت خدي ولا يكاد تيارها ينقطع، ما للأتراح تراكمت في لجة القلب كموج يهيج الخاطر يقلق، وما لك يا نفسي أراك كئيبة على خلاف عادتك، فشكت بثها وحزنها إلي من فراق سيدها، فخفت الفناء عليها فقلت مثل قول إخوة يوسف لأبيه والله تفتئين تذكرينه حتى تكوني حرضا أو تكوني من الهالكين، وسليتها في هدوء، تعالي… تنفسي في جو ضريحه تجدي رائحة المسك تنتشر من ذاك القبر المعطر، وقفي على فجاج مر عليها بقدم لم تخط خطوة إلى كراهة تسمعي أنين المدر والحجر تبكي معك شجنا، وضعي يديك على أسطوانة بناية أسستها يد لم تمتد إلى معصية تجدي آثار خدمات سجلتها تلك اليد، وأصغي إلى هديل الحمامة تطيروتنأى فإنها تطلب الفقيد، وانظري إلى الغمامة فإنها تنكشف تمهّد طريقا لمسير روحه، ثم ارجع البصر كرة أخرى إلى السماء فإنها تفتح أبوابها لترحيبه وأملاك السماوات مسرورون لقدومه والناس حيارى حول جثته راجين الرؤية الأخيرة.

رأيت كرسيه الذي اتكأ عليه خاليا في تلك الغرفة الملأى بشكاوي الناس بدل الهواء، وانكسر قلبي لرؤية القطن في أنف لم يتنفس قط لبقاءه بل لبقاء الغير، وقد تزايد وجدي لرؤية الشفتين ساكنا ومن قبل لم تفرغا من التسبيح وكلمات التسلي، بوابة داره بقيت مفتوحة ترحب كل من يدخل، شاكيا يتقدم وفرحا مسرورا ينصرف، والله ما وجدت فناء تلك الدار مستوحشا، قليلا ما أتاه الناس مبشرين وجل بل كل أتوه شاكين، ولكن قد بقي في الخاطر سؤال: كيف زين مهجته بتلك البسمة ولم يجد فراغا إلا للاستماع إلى أتراح الناس.

لقد سرني أن تستبطئ صفوف المسجد لقدومه، ولا يزال يقرع أذني دوي تسليمة الناس عند مجيئه وكنت أصغي إليه من الصف الأول حرصا لسمع صوته، وكلما انتظرت فرصة لحمل كرسيه إلى مكانه سبقني به صديقي وما كنت حسودا إلا في ذلك، فذاك كرسيه الخالي بزاوية المسجد يعلن ذكريات الفقيد بأعلى صوته، كرسي حمل على حجره رجاء الأمة أياما، وشيء فريد على وجه الأرض يباهي الناس والجن بذلك الفضل.

يا أرض كيف حجبت شخصا شأنه أعجز الشمس وجاوز السماء، لا تستكبري من ستر جسمه فإنك لن تستطيعي أن تستري نور مكارمه ولو حرصت، ولكني أبشرك بأنك محببة إليه فلذاك ذات يوم أشار إليك أنت واختارك مرقدا له، فاحمليه في جوفك كالصدف المكنون وراعيه حق رعايته، وصنه كما صان الحوت ذا النون عليه السلام.

رجل قصده الآلاف من أنحاء العالم ولكن أخفى صوته حتى لا يتجاوز إلى ما وراء سماع المخاطب، كلما أصغيت إلى كلامه ما سمعت إلا همسا، فعندما أقعد في المسجد منتظرا وقت الصلاة كأني أسمع همسه وصوت أقدامه، لكن كلما التفتتُ وجدت الصفوف مسدودة الخلل وفي طرف الصف الآخر كرسيه الوحيد كأنه ينتظر قدومه، كأنه يطلب من المؤذن أن لا يستعجل بالإقامة وأن ينتظر لمجيئه لحظات، كأنه لم يدر فراقه وأنه لا يحمله بعد على حجره.

ما للحمامة على سطح داره قد نسيت هديلها تنظرني كأنها تشكو إلي آلامها، فسألتها عن سبب غمها فأشارت إلى جدران داره، جدار عليه شكاية جيل سجلت، وسقف عليه أتراح القوم سطرت، وفي تلك الغرفة كرسي عليه كان يتكئ، له لسان طلق عاود التكلم بألفاظ الشفاء كماء زلال يهطل، وكم أتاه شاكيا وباكيا يغترف غرفة بيده من نهر التسلية فاض كالسيل من تلك الغرفة.

تركتك نفسي لم لم تواظب على ملاقاته وهو متكئ على كرسيه كما عاود، وكلما دخلت عليه سألك بعطف «يا بني! ما الذي جاء بك» وقد رحبك بوجه طلق، وبقي على كرسيه صباح مساء لأجل تربيتك أنت، عاش لك وسهر وتعب ومرض وأخيرا توفي لك فقط، لأجل حفظك وبقائك، أدناك وقربك بقلبه، وعلق جدران غرفتك بفناء داره، وعدك إياك وزملاءك من أهله وعياله، ولملاحظة شأنك مشى على قدميه وهما تشتكيان الضر من ورم.

ذاك الصباح لم تكشف الشمس ضوءها تماما، ونسيت الدجاجة صياح الإيقاظ، وأملى علينا المعلم حديثا يحرض على إكثار ذكر هاذم اللذات، وجرى على الشارع مركب فيه رجل ينعى فقيدا من القرية المجاورة، وكل ذلك ألهمني أوهاما كأن شيئا مؤلما يراقبني وينتظر الفرصة ليفتك علي وقد وقع، ما تيقنت بالخبر ولم يطمئن قلبي، ولكن الدموع على خدي صديقي شهدت بصدق الخبر وحيرة الناس بفناء داره قد قوت ذلك، وقفت بجوار رجليه وهو في اللحد مدثر أتمنى قيامه من اللحد ولو لحظة فأعانقه بين رؤوس الأشهاد ولكن كان أضغاث أحلام، تلونت وجنتي من الشجن وزينها بقايا الدموع.

لبست درع المتطوع ووقفت أمام المصلين أسوي الصفوف وأسد الخلل، رأيت بعض أقاربي قد اتصلو إلى قرب اللحد وتبسموا لرؤيتي فحاولت الإجابة بالبسملة ولكن الدموع سبقت البسمة وأجابت، حمل إلى المسجد ثم إلى المقبرة، حملوه ولكن كيف استطاعوا على ذلك وكان نفس الأمة وقلبها وآمالها وأمانيها، ثارت حثيات رموها من الجوانب ووقعت بعضها فوق بعض على ظهر ذاك القبر، يا أيتها التربة الكريمةَ! ما الذي أهلك لمعانقته وأنت محض التراب وأنا من جنس نفسه، أيا حجرا وارى جثته أنت حجر مهجور تظله وأنا عاجز عن نشر مظلة فوق رأسه الشريف، جوارحه مدفونة ولكن ذكرياته في قعر القلوب خالدة لن تخلق ولن تفنى.

لقد بوأت في سويداء قلبي خلوة فيها أخلو معه عندما أحس القلق من الأحزان، ونقشت في جدار القلب وجنة لن تغيب عن بصري وإن كانت قد توارت بالحجاب أو قد غطيت بالأحجار تحت الثرى، وقفت لحظة على فناء مرصوف وهو يرتعد يشتكي فقد الإحساسات الباردة من نعومة تلك الأقدام التي مرت عليه، وتلك الأشجار تهتز تعتذر ضياع لمسات تلك البنان الناعمة.

جمع الناس آمالهم ورجاءهم ودفنوها في تلك المقبرة مع جثة ملفوفة بالثوب الأبيض، انصرفوا خاسرين مهطعين مقنعي رؤوسهم مودعين ولكن كلمات الوداع تكسرت قبل الانتهاء إلى ألسنتهم.

في ذاك الأربعاء لم أجد تلك العمامة التي سترت ذلك الرأس الذي فيه فنون العلم مخزونة، لم أجد تلك البسمة التي شعرتها والتذذت بها كرؤية تفتح نورة في حديقة الورد، انصرف الناس فلم أجد بفناء داره تلك الجماعة، فقد غادروا القرية كما غادر بلال مدينة النبي المحبوب، هل رأيتم أيتاما وآباءهم أحياء، فانظرونا إنا قد صرنا يتامى، وانقلبنا عصافير تغرد على الغصون من فقيد لن يرجع، من أمل لن يبرأ، قد غاب عن العيون ولكن بقاياه تنطق بصوت لا تسمعه إلا إذا أصغيت، وقد أسس بقرب داره بناية لو لمست جدرانها لوجدت منقوشا على كفيك سطور تاريخ لا تجدها في صحائف الكتب.

حثيت ثلاث حثيات فرميتها بل سقطت من يدي ولم يسعني الوقت أن أتلفظ تلك الكلمات «منها خلقناكم…» فلم يستكملها لساني، فكملتها قطرات دمع انحدرت على خدي…