بقلم:عبد الرحمان مبارك الهدوى, أنغادفرم
انتظرت لوعة الفراق أن تخمد و تخبو وأحزان الأيام أن تنقضي و تنجلي ولكن طال الانتظار وأبت إلا البقاء، فتناولت قلما يتعثر بالدموع، أتعقبه حزينا يدفعه قلب مكلوم وجناح مهضوم متبعا بالدعاء بالمغفرة والرحمة و الرضى من الله لسراج من سرج الأمة وعلم من أعلامها، نشر الله به العلم والرحمة وأخرج على يديه عديد من الخريجين و سكن به آلام قلوب الضعفاء والمساكين،مع ما هو فيه من العبادة العظيمة التي ليس عليها مزيد في حياته بما أخذ نفسه فيها من الجد والتشمير.
حينما نغسل عبرات عيوننا و نسكن أنين قلوبنا لانتقال أبينا الودود وشيخنا الجليل العالم الولي العارف بالله ملجأ الفقراء والمرضى والضعفاء والمبتلين الأستاذ سي. أتش محمد بافوتي مسليار باني ومؤسس كلية سبيل الهداية الإسلامية التي تصدر منها هذه المجلة منذ اثنتي عشرة سنة متسلسلة بسجال الصبر والإيمان، نذكر رجلا عشنا معه سنين و أشهر وأيام و لحظات ودقائق، نحسبه – والله حسيبه – ممن قام بأمر هذا الدين ونشره، وقد أفضى إلى ما قدم وذهب إلى ما جمع، والله وليه وهو خير الحافظين.
معما أنا في الحرج الشديد والرغبة من الجميع في بقاء أعمال شيخنا وأستاذنا خفية بعد موته كما كان يحب في حياته، أرغب الاقتداء والتأسي به وإعلامَ سواد الأمة أن الخير باق فيها إلى قيام الساعة وأطمع دعوة صادقة ترفع درجته وتعلى نزله في العليين.
نعم، فقد فقدنا أمس أو أمس قبله حلقة من سلسلة العلماء المتصوفين الذين هم ورثة الأنبياء ومصابيح الدجى وأعلام الهدى حفظ الله بهم الدين و أنار بهم السبيل، تضرب لهم أكباد الإبل، وتطوى لأجلهم الأرض وتثني لسببهم الركب، يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.
فكلماتنا هذه في حياة عالم عابد زاهد ضحی نفسه ونفيسه و أنفق ماله وباله لإحياء روح الدين و نشر نور العلم، لحق إلی جوار ربه تاركا فينا في خلفه ثلمة لا تسد، فله قدم صدق وقدح معلى في حفظ الإسلام ونشر الدين وحسن الاقتداء، وهو أولى الناس بذكر محاسنه وفضائله وخصاله، وذكر الصالحين كفارة للمعاصي والزلل.
هو الشيخ الفاضل العابد الزاهد الولي العارف بالله محمد بافوتي مسليار صاحب العلم العميق والعمل العتيق والخلق الجليل، تصوف في حياته وتستر في عبادته وعاشر مع الناس بخدمته و خدم العلم بماله٬ فقد أفنى عمره في العلم والتعليم والتصوف والخدمة والنصيحة لله ولرسوله ولكتبه ولأئمة المؤمنين وعامتهم٬ ولندرة حديثه عن نفسه وعمله فقد يعذر مثلي في التقصير، فغالب السير تكتب بيد أصحابها أوممن حولهم، ونحن مع عالم زاهد يخفي حسناته مثلما يخفي أحدنا سيئاته، لهذا صعب التوسع وقل الزاد٬ رحم الله شيخنا ورفع درجته وأعلى نزله في دار النعيم.
ولد سنة 1948 م من أب صوفي غاص في بحر المعرفة الشيخ كنجين مسليار وأم تقية اسمها كنجاتشو في أسرة تشولكلكت التي نبغ من أصولها وفروعها عدة العلماء والصوفيين، تتصل سلسلته من جهة الأب إلی القبيلة البكرية قبيلة الخليفة الأول سيدنا أبي بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله ﷺ في السر والعلن، ورغم أن سلسلته من جهة الأب تصل إلی القبيلة البكرية فهو للعلماء وطلبة العلم ذو نسب رفيع فيهم ومنهم، باَن ورث العلم والعلماء دما ولحما طيل حياته الی الموت.
كان أصل هذه الأسرة في مالابرم حتی استوطن الشيخ زين الدين أحد من أجداده الأفاضل في بارابور قرب كوتاكل٬ ثم انتقلت الأسرة اِلی تربلشيري٬ وفي آخر حياة أبي شيخنا كنجين مسليار رجع مع أسرته إلی قرية وتفرمب قرب كوتاكل ثانيا، وأثناء هذه الرحلات والاستيطان صارت هذه الأسرة ملجأ المرضی والفقراء في قری تربلشيري و مارايمنغلم و نلايا و ما حولها من القريات، لأنه كان كنجين مسليار ماهرا متبحرا في العلاج الروحي واليوناني فصارت الأسرة مأوی لمن أيسوا من المستشفيات والأطباء.
نشأ صاحب ذكرنا الشيخ المرحوم في بيت علم ودين ودرس تحت والده العلوم الدينية، ومن أخص مشائخه وأكثرهم أثرا في حياته سماحة الأساتذة مويتين كتي مسليار كرنجافادي و كنج مسليار أوركم وكنج محمد مسليار جرشولا و موسان كتي مسليار أودكل، ومن أقرانه المشهورين الذين تلمّذوا عند نفس والده الشيخُ الولي المشهور بـ بيران أوليا والشيخ محمد مسليار ننديل، والشيخ مويتين كتي مسليار أتيباتا أيضا قرينه في الدرس، وقد درس منه بعض الكتب في مدة التعلم في الدرس في المسجد الجامع بودكممري، رحم الله أرواح المنتقلين وطول الله أعمار المنقلبين.
ولكن رزقه الله صدق الرغبة ومحبة العلم وحسن المعتقد والتربية الصالحة على يدي والده العارف الصوفي الكبير كنجين مسليار رحمه الله، فأخذ عنه علم الحقيقة والتصوف وتربی تحت تربيته و تعلم منه العلاج الروحي والتقليدي وتمهر به، وتلبس بعد بلباس أبيه و تخلق بخلقه و تخلف بعد موته لمن يزورونه من المرضی والمبتلين بأمراض وجسمانية و شيطانية وروحانية راجين الشفاء والكفاء والراحة النفسية.
تبحر الشيخ في العلاج التقليدي وعلاج اليونانية و الآيورويدية مع تجربته الساطعة في العلاج الروحي وعلاج الطبيعة رغم أن رجا منه اللاجؤون والزوار كلماته العاطفية ذات معان شامخة، كان صاحب بصارة عميقة عجيبة لا يدركها الا من له مقام بارز عند الله تعالی، فكان الولد سر أبيه.
صارت كلماته العاطفية شفاء لصدور المبتلين و رواء لقلوب عطاش الرحمة والعاطفة من شتی فرق القوم سواء عنده المؤمن وغيره والغني والفقير والسياسيون والأمراء، كلهم زواره راجين خيرا في مرادهم ببركة علاجه و قوله و لمسه و رقياه، وقد رسمت وسجلت عديد من المجربات التي تشهد على أن أقواله ذات بصارة عجيبة من بُعد وعدم رؤية مباشرة موافقة للواقع ٬ وأصحاب التجربة جدراء للتفصيل، فكان في رجال حديث أنس رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ.
كان خلقه التواضع تزين به علمه و عمله وزادَه جمالا علی جمال٬ أعجبنا سكونه وخشوعه وتتمثل فيه الآية: «وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا».
وحينما تسلسلت زواره من كل ناحية القوم مسلما وكافرا و غنيا وفقيرا و ذي جاه و سياسيا وغيرهم، لم يدخل في قلبه مثقال حبة خردل من الكبر والرياء والعجب، عاش في جماعة القوم بالخدمة لهم واعتزل بالحقيقة عن الجاه والمكانة عندهم٬ لم يرج إلا الرضی من الخالق٬ تلكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
كان بعيدا عن المظاهر يمشي الهوينى يذكرك بسير السلف والعباد والزهاد، رزقه الله الأموال فما غيرت قلبه ولا أثرت فيه إلا محبة للخير، أتته الدنيا وهي راغمة على مناصب عليا فردها، وساق الله إليه الأموال من أملاك باعها بملايين الريالات ولكن أنفقها لإعلاء دينه الإسلام ونشر حياة الإسلام .
فكانت نتيجة إرادته الخالصة المخلصة كلية سبيل الهداية الإسلامية أسست سنة 1986 لتذكار أبيه سي اتش كنجين مسليار٬ دار دوره الأول مدرسة ثم درسا ثم كلية شامخة مرموقة تحت جامعة دار الهدی الإسلامية منذ عقدين، وقد تخرج من الكلية خلال هذه الفترة أكثر من مأتي خريج و ما يزال يتعلم حاليا ثلاثمائة و خمسون طالبا بتوفيق الله ومدده، روحه و دمه و لحمه وشحمه كله هذا الشيخ الوحيد، فتح أياديه البيضاء في الإنفاق لقوام هذه الكلية٬ والهدايا التي يعطيها له زواره صارت زادا للكلية في مسيرها ونهضتها الفاخرة من بين سائر الكليات تحت جامعة دار الهدی الاسلامية و صارت تلك الهدايا زادا لشيخنا في حياته البرزخية، فكان ممن َأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ.
وهذه المجلة مجلة النهضة العربية التي نذكر الشيخ بسواد مدادها وبياض صحفها محضُ فخر هذا الشيخ الجليل حيث انطلقت المجلة بقوتها وحماسها في إشعال روح اللغة العربية وإقامة راياتها خفاقة في كل واد، وقد تمت بحمد الله وتشريف منه عشر سنوات سجلت نقطة تاريخية في صفحات لغة الضاد، ولا بد من تلقيها وتكريمها بالدفوف والطبول، لأنها تمثلت همة لفيف من الرجال الخلص الذين تجهزوا وتحزموا لكسر المستحيل، وقد أدت مجلة النهضة دورا رياديا في ترقية اللغة العربية بجودة عالية في المستوى الأكاديمي والجامعي، وقد تبلورت خدمات النهضة حين طويت بساط المبادرات العربية وانقرضت الدوريات عن جذورها في ريادة حركات لغة التاريخ والمجد، وفتحت هذه المجلة بلمستها الحانية آفاقا جديدة في ميدان الأدب العربي الفصيح، وامتدت قبضتها إلى المقالات والدراسات والاستطلاعات واستقطبت حول أحدث الأخبار والملفات الساخنة التي تمس قلب الأمة الإسلامية، وخلال هذه السنوات القصيرة والمستطيلة بالنسبة لمجلة تصدر عن أيادي الطلبة استدعت إعجابات العباقر وكبار الصحافيين حيث عبروا عن أعلى شكرهم وتقديرهم لهذه الشعلة المستطيرة، وقد استوقفتهم هذه الفعاليات الساذجة التي تسعى لبناء موجة جديدة في بلدة ذات التنوع والتحزب، وما وراء هذة المساهمة الصحافية إلا هذا الشيخ الكبير، فيا حبذا من عالم تظاهر في الناس بمساهمة صحافية في لغة الضاد واعتزل عنهم بالقلب والمعاشرة الاجتمعاية.
وكان الشيخ ذا تعلق عميق روحي بالعلماء والصوفين والسادة خصوصا بسادات أسرة فانكاد٬ وكانت الصلة بين الشيخ وسادات فانكاد صلة روح يرسل الشيخ بعض زواره إليهم وبالعكس، وتسليم مجموعة الكتب المحفوظة عند فقيد الأمة معالي السيد محمد علي شهاب ونقلها إلى مكتبة الكلية نفسها دليل واضح علی علاقته الشديدة مع سادات فانكاد٬ قام بهذه المبادرة المحمودة نجلا السيد المغفور له معالي السيد منور علي شهاب وأخوه الأكبر بشير علي شهاب طول الله أعمارهما وتقبل خدماتهما الجليلة.
وكان الشيخ آخر كلمة لسكان قرية فارافور وما حولها من القری في مجال الدين والسياسة والاجتماع وغيرها، وأمثال هؤلاء الرجال الذين قضوا نحبهم والتحقوا إلی الله راضية مرضية يرشدنا إلي أن الله يجعل في هذه الأمة من الخير إلى قيام الساعة، فرغم الفتن تجد ذلك الورع، ورغم الشبهات يظل هناك المتمسك، وفي زمن الشهوات يتميز المؤمن الصادق، أولائك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون.
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يسكنه الفردوس، وأن يجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وأن يجمعنا وإياه والمسلمين في مقعد صدق عند مليك مقتدر كما أسأله وهو صاحب الجود والكرم أن يجملنا بالتوفيق للتأسي بخطواته المقدسة، وإنا لفراقك يا شيخي لمحزونون.