بقلم: عبد الشكور بن محمد
«من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه»،حينما يخطر في بالي ذكريات شيخنا المرحوم بافوتى مسليار تهجس في ضميري صدقة فى عهده مع الله وخضوعه الذى صبغ فى طيات لباس التقوى….واختار ما عند الله وابتغى من فضله وذكر الله خاليا ففاضت عيناه…
شيخي… اجتمعت فيك بهجة الزهرة وهالة البدر….وأهديتَ إلى الفقراء قلبك وقالبك وعششت في فؤادهم بالود والأمن حتى باض وفرخ… وأهديت مرهم المحبة لمن يعاني الشجو والكآبة…شيخي ..لن تموت أبدا..رصفت في سبيل ربك آمال الحكمة والموعظة……وأنفقت آمالك وحلمك فى سبيل الخير …حتى نمت وتربت وازدهرت وكادت تجني ثمارا قد أينعت…..
لو سألتموني ما هي أفضل نعمة حلّت بك ؟ لأجبتكم «نشأنا فى حجر شيخنا»…كلما أطل إليه في جوار مصراعي بابه دعاني بيديه وناداني «يابنّي» ويقول «وماذا خطبك يا بنيّ « كأن آلامي تذوب في نداءه كما يذوب الملح فى الماء…..إنها لحظات لن أنساها …ولمحات لا تمحي….
ومن عرفه فقد عرفه …..حينما يحلم الأغنياء ترويجا في تنمية الأسواق وأسعارها، الحلم في قلبه ترويج الآخرة ببناية صوامع الجنان وشرفاتها …وهو من رجال تفتخر بهم الأزمان …ونبضات الإخلاص تدق في لبانهم…….فرح بالضيافة وقرى الضيف، وتقر عيناه في تصدّق يمينه حتى لا يعلم شماله ما ينفق يمينه…..لقد حظينا بالمجالسة معه فى مختلف أحوال…كنا نأكل معه وهو ينظر إلينا بالفرح والحبور….ويقول: كلوا واشربوا هنيئا.
إنني تحت وابل الذكريات التي تتقاطر منها شآبيب حنانه وتنحدر من أوجها سذاجته وكرامته… وكان شيخنا يخاطبنا في موضوع يحرض فيه في الزهد والتقوى.. يوما أتانا يخاطبنا في شهر ربيع الأول عن ولادة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وتنبؤ الراهب ورقة بن نوفل وطويته الحسنة حتى تجرع أثناء خطابته اللّسنة عقبات المشركين نحو النبي حتى امتد كلامه إلى الساعة أو ما يقاربها…فها هي لحظات تحكي ثوانيها عن عمق علمه وحسن عمله…
فلما آن أوان الوداع منا اشتد له حب الإله فابتلاه الله بالمرض …..ولكن قلبه مطمئن ويسأل عن أحوال الكلية وأبناءها…حتى يسأل من حوله : وما بال كليتنا وأولادنا؟……فذا هو أعجوبة الزمان.
ذات مرة لما سأله الزائرون عن حال مرضه فأجاب منشدا:
إن الفراغ إلى سلامك قادني
ولربما عمل الفضول الفارغ
نعم …..قادني إلى سلامك يا رب..وأراد به ما لم نرِد….واختار ما عند الله وابتغى من فضله……وعنى به معنيين: إن الفراغ إلى شفاءك قادني …….أو إن الفراغ إلى جوارك قادني….
فلما حل وقت الوداع……تزود بزاد التقوى…واستعد لسفره تمام العدة…فناداه ربه فلباه قلبه….كأن الأملاك ينادى : يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعى إلى ربك راضية مرضية…..
واحتشد الناس لملاقاة شيخ كريم قبيل ملاقاته ربه الرحيم…. ووجناته تلوح بنور الإيمان وضريحه تفوح روائح الجنان…. وكم من ختمات قرآن أوصل إلى قبره… وكم من تهليلات ظلت قنديلا في ضريحه .. ومونسا فى قبره….ويأتينا عديد من الذي شاكين عن وفاته باكين لمماته حتى خيل إلينا أنه حي….كيف يسكت مولود إذا مات والده؟ إنها ثلمة لا تنسد … يا ليت أمي لم تلدني ويا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا..
لقد مضت الأيام والعلماء كأن هام الزمان يخطط بالمشيب… وفينا رجال ماتوا وهم فى الناس أحياء…. ونذكرك كثيرا.. إنك كنت فينا كريما….. وتذكرك الأجيال ويدعون لك.. ورثت ورثة عظيمة من الأنبياء، وغرست أجيالا تذكرك وتدعو لك، يا شيخي .. فاليوم ترقد في حجر أمك هادئا.. كلما نصل إلى جواره فنهدي إليه سلاما لعل شيخي يرد سلامنا ويسمع نداءنا ولعله يأكل ويشرب من طعام الجنة وشرابها لـأنه أطعمنا وسقانا ..فالآن يرقد هانئا فى جوار أمه الحنون.. وقد سعدت برؤيته فى المنام ولا يمكن بي أن أعيده إلى الأنام
فذا الوقت سمعت حمامة تنشد فى حندس الليل على عيدان اليأس:
ورأيت مجدك من ديارك طامحا
فرضيت إن سماحكم مقبول
فالآن ألمى قد تزايد كثرة
فى أي وقت يا كريم مطل
ردد سلامي حين أرسل مرة
موتي مماتك لا يحول الحال