بقلم: محمد سالم بن عبد الرحمان الفيضي ولونّور
إذا الظل الذي أظلّنا زال عنا، وإذا الأب الحنون العطوف فارقنا، وإذا البدر المنير في الظلمات غاب عنا، وإذا المنهل الذي أروانا ودّعنا فارتحل عنا،
وإذا الملجأ الذي آوينا إليه تجنب عنا… كيف نصبرعلى هذه الأوضاع.. وكيف نتحمّل هذا الفراق… وأنى نجد السلوى بعد..
إن الدموع لتدمع.. وإن القلوب لتقلق وتتحرّج… بفراق شيخنا الكريم وأبينا السموح ومرشدنا المربّي أستاذنا بافوتي مسليار أعلى الله درجاته في العلّيين وتقبّل خدماته وحسناته لدين الله القويم مع الذين أنعم عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وجمعنا معهم في دار النعيم.
حسن السيرة وصدق النية والإخلاص والتقوى والخلق الكريم والوقار المؤثر والسمت المميّز والتواضع وملازمة الصمت مع الهدوء والهناء والروح الطيّب والابتسامة النضّارة والبساطة ورجاحة العقل والفطانة والبصيرة الحادّة كانت هي من أجلّ صفاته جمعها واستأثرها وحافظ عليها طوال حياته.
ارتوينا وارتوى الناس من معينه السلسال الفياض.. وأشبعوا من محياه النضّار من إرشاداته ومواعظه بل من كراماته وبصائره.. كم من قلوب شاكية اطمأنت بين يديه…وكم من أرواح حرجة ارتضت حسب إرشاداته … وكم من عليل كئيب قد سئم الحياة صار صحيحا نشيطا مرتاحا برقياته.. بعون الله وإمداداته.. ألا وهي الوصلة الوطيدة بينه وبين الله، وصلة راسخة متينة، من الذين قال الله عز وجل عنهم:» من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا» لو أقسموا على الله لأبرّه.
كفى له فخرا أنه ما أن شاع نبأ وفاته إلاّو قد أسرع الشعب المسلم أفواجا من مختلف أطراف العالم إلى بيته لرؤية محيّاه أخيرا وصلّوا عليه صفوفا وأمّم لهم العلماء الأعلام الجهابذ من الأتقياء والأصفياء المقربين إلى الله.
وما أصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :» إذا أحبّ الله العبد نادى جبريل إن الله يحبّ فلانا فأحببه فيحبّه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبّوه فيحبّه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض» (أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في باب الملائكة).
وداع لم يندمل جرحه من أعماق قلوبنا بعد ولا يزال يبقى ثلمة لا تسد… وداع بكت لأجله السماء والأرض، لبّى نداء ربه بعد ما قضى حياة حافلة بالخدمات الجليلة المثيلة التي لا مثيل لها في التاريخ.
نعم، بلّت يداه بما رام من تشكيل أمّة جديدة يحفظون دين الله ويعضّون على سنة الله بنواجذهم ويربّونها ويتولّونها على كواهلهم حتى ما كانت يده اليسرى تدري بما ينفق ويبذل يمينه لتحقيق هذا المرام والتخطيط له.
أجل، أيّها الشيخ العزيز.. قرّ عينا في رحاب الخلوذ…ونم كنومة العروس… فإن وراءك جيل جديد قد أنجبته وأنشأته وربّيته على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحب في الله والبغض في الله وأرشدته إلى طريق السعادة الأبدية السرمدية في سبيل الحق والحقيقة. فهذا الجيل الجديد القوي الواعي التقي ليس إلا ثمرة من ثمرات جهدك ومأثرة من مآثرك ونتيجة من نتائج حبك وإخلاصك، أيقظت النائمين ونبّهت الغافلين وأرويت الملهوفين وأيدت المستضعفين والمعتلين بقيادتك وابتساماتك التي ازدهرت في محياك، فيا من حظه يفوق إلى ما لا غاية له، ويا من حسناته وخدماته تشفع وتشهد له عند الحساب.
بالله عز وجل اتصل شخصه وروحه وقلبه وقالبه وبالخلق اتصل عمله وتجاربه، حياته تنعكس في ميدان الخدمات والإنجازات والعمليات المؤثرة المستنيرة الفذة، استأنس في ذكر الله واستدرج مدارج التقى والتربية لتنمية دين الله وتطوّراته حسب مقتضى الزمان حيث أخذ على ناصيته الأمّة المسلمة في هذا الزمان الأخير حينما ظهر الفساد في البر والبحر وأصبح فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر، فوداعه ليس وداع رجل واحد بل وداع أمّة تفقدت من يأخذ بناصيتها، فللّه در من قال:
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدّما
لم يكن خطيبا مصقعا ولا قائدا مبرزا بل جذب الناس في روحه النقيّ الصافي وفي إرشاداته الخالصة ومواعظه المستطابة وحسن معاشرته، أحسّوا ملجأ في تلك الغرفة الضيقة واستشعروا الراحة لأرواحهم وأبدانهم في محيّاه واستأثروه أبا حنونا وطبيبا ماهرا وقائدا مرشدا طبيب الأرواح والأجساد طبيب العقول والوجدانات.. فمن ذا يقرض الله قرضا حسنا يضاعف له أجرا.
فلا محالة، أنه لم يرد علوّا قط ولم يسترح بما ينال من هدايا الناس ولم يستلذّ بما يتغمّده من التعظيم والإجلالات، بل هو من جملة هؤلاء الذين وصفهم الله عز وجلّ «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين، من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى اللذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون» (سورة القصص).
ومن الحقائق الغضّة الطريّة، أنه أحبّ اللغة العربية أشد الحب لما أنها لغة القرآن ولغة أهل الجنة ولغة صاحب السنة محمد صلى الله عليه وسلم، بل كان فخورا بإصدار هذه المجلة مجلة النهضة التي هو مؤسسها من الكلية التي هو بانيها ومربيها ومتقنها.
كلية سبيل الهداية الإسلامية التابعة لجامعة دار الهدى الإسلاميّة، هي القلعة التربوية التي أسّسها وبناها والشجرة الشامخة المثمرة التي أنبتها وأطعمها وأرواها رغم التحديات والتدهورات كسفينة كبيرة تجري في لجة بحر مرتعد، وكطيارة ضخمة تسرع في مهمّتها ومسؤوليّتها إلى غايتها المقصودة ومنتهاها المرجوّة تكاد تخضرّ في ميدانها وتستثمر في مجالها إسلاميا ودعويا وفكريا وماديا، كان وحيدا سائق هذه المؤسسة وموكلها ومربيها ومرشدها وحاميها، وما هي إلا بهمّته الرفيعة الحادّة وتوكله الخالص النقي عن أي شائبة الريبة والخوف، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنتم تتوكلون على الله حق توكّله لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا».
فها هي الثمرة التي أيّدها ستفوق إلى قمّتها وهذا النور الذي أبقاه لنا وينير جميع العالم وينير الأمة المسلمة سينير الأجيال إلى الأبد إن شاء الله بعونه عندما تعود الأمة إلى جاهليتها وترجع إلى ما فعلت الأمم السابقة لأن الذي أنارها هو خالص النية والتقوى لا يخبأ الله آماله ولا يضيع أحلامه، لأنه كان جدّه وجهوده على قدم وساق لإعلاء كلمة الله وتربية الأمّة وتبنيتها وتزكيتها حسب مرام الشريعة. فهذه والله إن شاء الله إلى الأبد ستفيض منها الأزهار والأثمار إلى قبره، صدقة جارية متواصلة إن شاء الله تفتح إلى قبره أبواب من الجنّة ويفرش بأفرشة الجنة.
فهذه المجلة هي من أجلّ ما رام في تأييد الهوية العربية الإسلامية لتدوالها واستخدامها في الدعوة الإسلامية، فبحمد الله إنّها تسير في تاريخها ويستمرّ جريانها حتى الآن بحمد الله وبعد إن شاء الله لدرجة أن قرّرت مكانة مرموقة ويدا ممتازة بين المجلات الأخرى البلدية والدولية.
دمه ممتزج بدم أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين في الغار، أبى الله إلا أن يتشرّف بانتسابه إليه رضي الله عنه، فدماءه تغلي في إعلاء دين الله وإثراء الدعوة الدينية التربوية في العالم كما كانت دماء الخليفة الأولى تغلي.
تشمّر ليل نهار صحيحا وعليلا لهذه الغاية المحضة، إنما هي تبنية أمّة ترفع لواء الدين وتأخذ بلجام الشريعة في تلك الأيام التي ستواجه فيها الأمّة المسلمة الشقاوة والإعراض عن الحق والإيمان والانصراف عن مدار التقوى والإخلاص تعمّ فيها البلوى وتفسد فيها الزمان بما كسبت أيدي الناس، فهذه بصيرة حادّة لتلك الأيام التي أبصرها بعيني قلبه وروحه.
وعلى الرغم من هذا، فلا شك أنه من أحبّ أولياء الله تعالى وأتقياءه المقرّبين من اللذين قال الله تعالى عنهم فى حديث قدسي: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» ما شاهدناه قط يخاف في شيء أو يحزن إلا لوجه الله كما قال الله عز وجلّ «ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولا هم يحزنون».
نحن – الطلبة – صرنا بعده أيتاما، كنا بجوار أبينا نرتع ونلعب ونستثمر ونربو ونستمتع في حياتنا بالعلم والأدب والتقوى، كنا بغاية بركته نخوض في الامتحانات والمسابقات بدون أيّ جزع ولا فزع، كنا برقياته الروحانية نستدرج مدارج التقى والإخلاص ونستشعر بالراحة في قلوبنا وعقولنا وأجسادنا وأرواحنا كأنّما اغتسلنا من الأرزاء، بمحض وضع يده على رؤوسنا نحسّ شعورا تربويا وصحوة إرشادية روحانية، كنا نسبح في الرخاوة التي أفرش لنا ونغدو الأنشدة التي علّمناها فهو يتشمر لنا ليل نهار لا يعلمنا أيّ تعب ولا جوع، كنا نجدّد أفكارنا وانبعاثاتنا في هذا البستان الجميل التي رسم لنا بإنجازاته وخدماته وحسناته، كنا نتخبط في ظلمة الجهالة خبط عشواء فحيّانا وأخذ بأيدينا إلى فناء هذه المؤسسة، كنا ننزلّ في مسيرتنا فيقودنا ويأخذ بلجامنا، كنا نرتاب في سفرنا فيتقننا ويؤيدنا، كنا نركب متن عمياء فينبهنا ويعيننا، كنا نرتاح في جواره ونغوص في الماء الذي يصب علينا، كنا إذا نابت بنا النوائب دققنا بابه ونأوي إليه ليشفع لنا عند الله، بل الآن قلوبنا تتلاطم.. والعيون تستفيض كأننا سكارى وما نحن بسكارى، تفقدنا أبا رحيما حنونا ومرشدا تقيا وطبيبا خالصا ومعالجا ماهرا في معالجة الأرواح والأبدان.
إلا أنه اختار الآخرة التي هي الغاية المقصودة في حياتنا، اختار لقاء الله، اختار الزوال من هذه الدنيا الدنية إلى الآخرة الأبدية السرمدية الخالدة.
سرعان ما تحولت الأمة أيتاما، وتبدلت الرخاوة شقاوة وتصمم غمام السماء وهي لا تدل إلا على رفعة شأنه ومنصبه وعلوّ مرتبته بين الله وبين الناس. فالموت لا بد لكل فتى مواجهته ولا تدوم الدنيا لواحد من أبناءها أبدا
ولو كانت الدنيا تدوم لواحد
لكان رسول الله فيها مخلدا
هذا، ومما لا يشك أحد في أنه ذو كرامات رفيعة وعمليات فذّة عجيبة الشأن، فالأمة لهم تجارب رائعة مستغربة مديدة مع الأستاد فلا أقدر على استجماع كلها، فمن أهم ما أحسسته بنفسي من أستاذي:
أ نه مرة بعدما فرغت من صلاة العصر أحسست في وجهي شيئا من الجرب الشديد وكان الجرب يتزايد ويتزايد حتى احمرّ وجهي وظهرت فيها العلامات فذهبت إليه وذكرته فقال لابنه الأستاذ كنجين الهدوي الجالس قربه أن يأتي بماء فأتى به فألقى فيه بعضا من الملح ورقى فيه وقال لي: «اغسل من هذا الماء وجهك في ثلاث غرفات واشرب الباقي « فما أن شربته حتى شفيت بحمد الله واسترحت.
ومرة أخرى أصابتني صلابة في بطني حيث اثّاقل على الخروج فأتيت عنده وقلت له فقال لي» كُل من الكشمش الأسود إحدى وعشين سيشفيك الله إنشاءالله» ففعلت كذلك وشفيت بتوفيق الله.
فهنيئا له في هذا الحظ الوافر لاستجماع محبة الله بإعلاء كلمته وخدماته لدينه، نِعمت الهويّة هذه، الهوية التربوية الدعوية الروحانية في وجه الله في الدنيا والآخرة، هنيئا لك هذا الجيل الجديد التربوي وهذه الأمة التي ربّيتها فأنرت لها طريق السعادة، سيزالون إنشاء الله على عهدك وطريقتك لا زال الله أسبغ على روحك شئابيب رحمته كلما كرّ الجديدان وبقي الفرقدان.