بقلم: زيد علوي
العلماء هم أعمدة الأرض وبها تقوم الأرض والسماوات، وهم القادة يقتدون وهم السادة يهتدون، فهم المتبوعون والناس أتباع وهم السائقون والناسأرداف. يدبّرون الأمور والأشياء من بيوتهم حسبما شاءوا ويتصرفون فيها كيفما رأوا. وأما العلماء إذا جمع لهم لذة العلم والتصوّف كانت لهم درجة عظيمة لدى الناس، وذلك أن العلم يرشدهم والخبرة تقومهم إلى ما هو أصوب وأرضى للخالق.
العلماء ورثة الأنبياءن والأنبياء ما ورثوا دينارا ولا درهما، بل ورثوا العلم ، وسر سير الأنبياء إلى الخلق هو دعوة الخلق على طريق الحق، وإخراجهم من الظلمات إلى النور ومن الباطل إلى الحق. فالعلماء ورثوا الأنبياء في هذه المهام، فبوجودهم تنتظم أمور الدنيا وتستقيم أحوال الناس، وبفقدهم تختل الأمور وتختلط الأحوال، وموتهم موت العالم بأجمعه.
وفي خلال الأشهر الماضية فقدت الأمة بعضا من كبار علماءها وأساطين فقهاءها مثل العالم الصوفي الأستاذ بافوتي مسليار الأمين العام لسبيل لكلية سبيل الهداية الإسلامية وكان عالما مشهورا وأبًا كريما للأيتام والطلاب. كان فقيد الأمة الشيخ بافوتي مسليار عالما بارعا في شتى العلوم الإسلامية واللغوية مع براعة تامة ومهارة كاملة. فكان قاضى البلاد المليبارية كبلد فارافور، وكان له يدٌ عظيمٌ وعنده شفاء كامل لأمراض الناس وشكواتهم، و كان قائدا يهديهم إلى طريق السداد. يجيئه الناس شاكين حاملين بالأحزان والأمراض ويرجعون سالمين مبشّرين شافين
ساد الناس بالقيام على تشكيل جيل بذلوا أوقاتهم في طلب العلم، وكم من الطلاب ماتت قلوبهم وكم من الأيتام يتموا بفقد الأستاذ الجلي بافوتي مسليار، وقد كنت نلت فرصة جزيلة لأكون طالبا في كلية سبيل الهداية الإسلامية، وكنت نلت مصاحبة عظيمة مع الأستاذ، وكلما زرت الأستاذ في وقت حياته من الألام والأحزان، فيضع الأستاذ يده المباركة على رأسي ثم يدعو بدعاء فيقول: لا ضير بك، كلٌّ يكون جيدا حسنا.
وكلما دخلت الإمتحانات أو المسابقات نذهب إلى حضرة الأستاذ ونبين سبب المجيء فيطلبنا الأستاذ ويبحث عن الأمور ويرفع يده الكريمة للدعاء ويقول آخرا: إن شاء الله سيكون الفلاح والنجاح لكم، فكذلك يقع، فبفقده تكاد أنوار الحكمة والشفاء تضمحل وشمس الصوفية تغرب وأشعة الفطانة تنحسر. فلا أدري من أين أبدأ بيان حياة الأستاذ، إذ كانت حياته كلها مملوءة بالصفاء والذكاء والعلم والتصوف.
كان والده الكريم الشيخ كنجين مسليار من نوادر الصوفيين ونوابغ العالمين، قضى حياته في حفظ الشريعة المطهرة وله كثيرا من المشايخ من بلدان شتى وتقدم في طريقة التصوف المقدسة عملا وسلوكا، وكان ممن حسنت سريرته فحسنت سيرته، صار قاضيا ومدرسا ومفتيا وطبيبا وملجأ لكثير من الناس لا سيما لبلاد تشربلشيري، ثم جاء الأستاذ إلى بلاد فارافور وصار الناس تحت تربيته وتدريسه.
قد سمعت كثيرا من كرامات والده من سكان فارافور، ذات يوم كان ذاهبا إلى المسجد، خلال ذلك نبح كلب من الكلاب إلى وجهه، فاتقد مصباحه حذاء الكلب فمات الكلب سرعة، ومن العجيب أيضا أنّه كان يسبح في الماء مع ابنه بافوتي مسليار ويغوص إلى عميق نهر كدلندي طول ساعتين أو ثلاث ساعات. ذات يوم جاء رجل من مسقط رأسه تشربلشيري له باسور فقال الأستاذ لغسل وجهه من عين قرب بيته بفارافور حتّى شفى . وكان الأستاذ طبيبا ماهرا يعالج الأمراض التى بلغوا في غاية المرض والشدة. ولم يكن عند الأستاذ دواء خاص بل يأمر الاستاذ أن يشرب ماءا أو أن يغسل وجهه بالماء.
وكذلك عاش بافوتي مسليار مطابقا لحياة والده الكريم، وأعطاه والده كثيرا من الإجازات مثل إجازة السم وغير ذلك، ولذا صار الأستاذ بدلا ساطعا لفقد والده، كان حياته أيضا مملوءا بالصفاء والكرامة والتواضع والمحبة، وأراد الاستاذ أن ينجز منهج جامعة دار الهدي الإسلامية فى معهده فبذل الأستاذ جميع أوقاته النفيسة وأمواله الثمينة في تربيه الأولاد والأستاذ. ويوم جئنا إلى كلّيّة سبيل الهداية الإسلامية قرأ الأستاذ علينا حديث «إنما الأعمال بالنيات»، وكان أبي الكريم غفر الله له وتغمده بالجنة والرضوان يزور الأستاذ في كل مجيئه إلى الكلية ويقول أبي عن تخلّفي في دراستي فيقول الأستاذ: سيكون ولدك نشيطا.
وكان أكثر أدويته للمرضى قراءة القرآن الكريم، وكلما كنت محزونا أسرع إلى الأستاذ فيسأل الأستاذ لي: في أي صف تتعلم؟ وما وظيفة أبيك؟ وغير ذلك حتى ظننته أبا لي. كان الشيخ رحمه الله يمشي رويدا هوينا جل نظره إلى الأرض، ذاكرا لله وشاكرا لأنعمه ومفكرا في آيات الله حتى جاء الملهوفون إلى بيته يعطيهم الأستاذ الأطعمة الرائعة الطيبة. وفي آخر وقته ظهرت هناك إشارات وعلامات لموته وذلك لما اشتد عليه المرض سأل ابنه محمد كنجين الهدوي المعروف بباوا، المعالجة من المستشفى فقال الأستاذ: لا حاجة لي إلى المستشفى بل أبقي في البيت، وكذلك كان من عادة الأستاذ أن يجيئ إلى مسجد الكلية للجمعة وأن يدعو بعده لأمه الكريمة، ذات يوم، قال الأستاذ مشيرا إلى قبر أمه بفارافور: «أكون بعد موتي عند جوار أمي»، وكذلك أمر الأستاذ بنكاح ابنه الصغير محمد صالح الهدوي أثناء مرضه.
فبالجملة جمعت فيه الخصال المحمودة للمؤمنين من التواضع والكرم وحسن الخلق، لم يعاشر بأحد إلا وقد حل محل الإجلال والكرم في صدورهم ونال منصب التعظيم في أفئدتهم، وكان هناك جم غفير وقت وفاته لنظرهم الأخير إلى وجه معشوقهم وثمرة فؤادهم، وعلمت وفاة الأستاذ حينما كنت في جامعة دار الهدى الإسلامية، فلم أتيقن بذلك فطلبت لصديقي محمد شبير في الجوالة فقال لي: إن الأستاذ قد مات، فكنت مدهوشا ومتحيرا وهائلا فسال مني الدموع أكثر من دموع سالت مني حين موت أبي. فكان الأستاذ أبا لطلاب هذه الكلية، فزاره كثير من العلماء مثل علي كوتي مسليار والسيد محمد الجفري متكويا، وكثير من سادات أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من فانكاد وصلوا عليه الجنازة. فالآن قد ولي مكانته ابنه الكريم محمد كنجين الهدوي، اللهم أيده بكرامتك وارفع درجته يا رب العالمين، اللهم أفرغ الصبر والسلامة على أبناءه، اللهم عظم درجة الأستاذ عندك واحشرنا معه في دار جنات النعيم.