بقلم: شمس الدين الصديقي الفيضي
إن بعض الشخصيات بمآثرهم وملامحهم اشتقنا كثيرا أن تمتد حياتهم ويرتد ظلالهم لينتجوا جيلا جيدا يتوافق مع المبادئ الناصعة والمعاني الناصحة حتى تباهى الأمة بمصانعهم الناجحة، وإنتاجاتهم الرابحة، وهي تميز الأصلي من النقلي والصالح من الزائف، وتنقذ من دياجر الفساد والانحراف إلى بيادر الحصاد والاغتراف من سنابل ما أنتجت أيادي هؤلاء العظماء الجهابذة،
ولكن….
«سنة الله التى قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا»، وفي بعض الأحيان لا ننقاد لواقع المنية مع أنها شقيقتنا، نحن نخيلها أضغاث الأحلام ولا نقتنع بفراق الأعلام.
ومما قرع أسماعنا وملأ أجفاننا نعي شيخنا الكبير والعالم النحريرالشيخ المرحوم محيي الدين عبد القيوم الأتفاتي، الذي كان مشكاة ومنارة تأوي إليها الآلاف ليرتووا من معين علمه العذب ورقيق نظره الذي يذكرهم الرب، كان من السادة الصوفية الذين يطبقون ما يقولون، ولا يكتفون بالأقوال والإقبال على الراحة، بل يأخذون بأيدي تلاميذهم ويسيرون بهم إلى المقصد الأعلى.
ثم إن ولايتنا كيرالا هي متألقة من بين سائر الولايات الهندية بشتى النعم والآلآء، أجلها وأفخرها أنها حظيت بأن حضنت وأنجبت عديدا من العلماء العباقرة والأمراء الجهابذة الذين قاموا بمحاولات متواصلة وعنايات متزايدة لنهضة ساكنيها سياسيا واجتماعيا، فمن جملتهم شيخنا الفقيد رحمة الله عليه، حيث ترأس لكثير من المبادرات الثقافية والمؤسسات التعليمية كما كان المجداف الروحي في زمانه، سار لإصلاحه وإملائه بأجواء هادئة وأخلاق سامية عبر مجالسه الروحية ومجاملاته النيرة،أضاءت وأشرقت كالشموع ليضيئ للأمة الطريق السني والصراط السوي.
ولادته ونشأته ونسبه
ولد نجيب الأبوين كريم الطرفين الصالحين حفيد الجدين في 18سبتمبر سنة 1936 الميلادية في قرية اجبرا قربكوتاكل، وهو ينتمي إلى أسرة « بالكت» في أجبرا،وهو الشيخ عبد القيوم ابن كومو مسليار ابن الشيخ محي الدين كوتي مسليار البالكتي،العالم الناطق باللغات المختلفة بالإضافة إلى أنه طبيب لبيب وشاعر ماهر يعالج المعضلات ويناشد الأبيات، فنشأ تحتهم وتربي تحتهم حتى أن تصبى صبية الصالحين وتأدب بأدب الفالحين.
حياته التعليمية و التربوية
وبعد أن نال المغفور له العلوم الابتدائية من حجر المدرسة، أقبل على التزود بخير الزاد، وقد اعتكف الشيخ على جهده الفارغ في اقتباس نور الله من العلماء الربانين الذين أثنى الله عليهم بأنهم هم الذين يخشونه في السر والعلانية ولا يخافون في الله لومة لائم، منهم عمه الكريم كونجالن كوتي مسليار ومحمد مسليار المعروف بوحشي مسليارلزهده وخموله وعزلته عن الناس،وكان ممن تلمذعليه الشيخ عبد الباري مسليار الوَالَكُلَمي رئيس جمعية العلماء لعموم كيرلا السابق، والذى أسفر عن مصاحبته وملازمته تأثره بالطريقة القادرية وأخذ أورادها منه قدس الله سره، إذ كان شيخا كبيرا ومرشدا له، لذا احتل المرحوم مكانة سامقة سابقة على معاصريه، حتى طار صيته الآفاق، وزان شيمته الإنفاق.
خدماته الدينية وولوغه إلى التصوف:
وبعد أن أتم ما حد له من الدراسة و الدراية، عين أستاذا في محلة «ولّم» قرب آلوا، بملازمة الصوفي المشهور ذي المهابة والتبجيل الشيخ أبي بكر مسليار الآلواي، وكان يتردد عليه كل يوم ليقتبس منه نورا إلهيا ينور الطريق ويبيد الشكوك، وأيضا له أواصر راسخة بالعلماء الربانيين السالكين إلى الله تبارك وتقدس، من بينهم الشيخ عبد الرزاق مستان والشيخ بابو مسليار الجفني الذى حصل منه على إجازة الصلاة النارية المباركة، وكان المغفور له كثيرا ما يذكره ويعد مآثره وما نال من مآرب مصاحبته، وبالتالي كان لا ينسى أن يدعو أبناءه للمشاركة في برنامج يعقد تحت رعايته ولاء بأبيهم رحمه الله.
وكذا تلمذ من محمد مسليار الحلبي مدرس الحرم المكي، وأخذ منه علوما كثيرة، وذلك عندما حج بيت الله الحرام أنعم الله عليه بلقاء العارف بالله الشيخ عبد القادر عيسى الحلبي مرشده في الطريقة الشاذلية في مسجد القباء، وأخذ منه أورادها ما زال في المدينة المنورة. بالإضافة إلى أن شيخنا وملاذنا ولّى بجدة منصب خلافته من الشيخ الهمام سعد الدين المراد نائب الشيخ عبد القادر عيسى بعد انتقاله إلى جوار ربه العلي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وهذه النعمى صارت نقطة تحول في حياته النيرة وأضاف إليها أنه ركز انتباهاته على نشاطاته الروحية والدعوية في البلاد الخليجية وهو في عنفوان شبابه، وقد مرّ أن له علاقة وطيدة بالشيخ أبي بكر الالوائي، وشيخنا كان يشتاق إلى حج بيت الله العتيق، فيوما اتفق له أن يستأذن شيخه لتلك الرحلة فأبى إلا الوقوف معه في جواره والرحيل بعد أن أتاه اليقين، بناء على هذا التوجيه طوى بغيته واقتنع بخدمته وسدانته حتى توفاه الله ورفع به إلى جنابه، وكان الشيخ آنذاك بحضرته كما يذاكره هو نفسه إذا هو يذكر عن هذا الصوفي.
بعد ما حل في أرض الخليج إنه حصل على وظيفة ملحوظة بتعيينه إماما في مسجد العين تحت إشراف أوقاف الإمارات المتحدة، بذل قصارى جهوده لتوعية وإصلاح المئات الوافدين إليه لينالوا من لطيف لمسه ودعائه إربهم وقلوبهم، تراهم تمتلأ بالركون والسكون، ووجوههم تتلألأ بهجة وحبورا، وفي المدة التي استغرقت زهاء ثلاثة عقود في الإمارات تمكن على بناء أواصر ودية أسرة بين الشخصيات البارزين والزعماء والأولياء، من بينهم سعادة الشيخ علي الهاشمي مستشار رئيس الإمارات والشيخ محمد العبيدي والشيخ هاشم الرفاعي من دولة كويت العربية وما إلى ذلك.
وبالرغم من هذه المساعد والمرافق، نحّى عن نفسه زهرة العيش ورغدته ولم ينهمك على حطام الدنيا الفانية، وتأسى بالمصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم في قاله وحاله حتى في تنفسه، ولم ير الدنيا وطنا يخلد على متنه ولم يستغلّ أحدا بمكانته وقدره الرفيع، ولم يتخذ الدينار ولا الدراهم معايير السلامة وكيمياء السعادة، لعله اعتقد أنّ الدينار من ذي نار والدرهم يكون منتهاه في هم، لذا قد أولع في عطاء كل ما يملكه من النقود والعملات إلى المحتاجين، بغض الطرف عن انتمائاتهم وولائاتهم معتمدا على قوله صلى الله عليه وسلم : «اتقوا النار ولو بشق تمرة»، وكان بحر عطاء لا ساحل له ولا يطمئن إلاّ إذا تلطم بالعطاء والسخاء.
ولم تنحصر خدماته الجليلة في القطاع الروحية فحسب، بل في الميادين الاجتماعية والتربوية المادية حين كان محورا للأنشطة المكثفة، وقد اتخذ لها بالعين في الإمارات مركز السنيين مقرا ومأوى حتى تحققت وتجسدت من خلال جهوده المضنية مؤسسات علمية وثقافية تنهل بالمعارف الدينية والمادية حتى زالت ولا تزال سمة ملحوظة وبصمة مطبوعة في خريطة التربية السامية في الإمارات العربية المتحدة تباهي بها أهل كيرالا، وبالإضافة إليها هناك كثير من المجالس والمجامع يذكر فيها اسم الله كثيرا وهي تفتح آفاق الخاصة والعامة، لقد أثمرت الجهود وآتت أكلها.
ثم إنه تقاعد عن منصبه الذى أدى إلى عديد من المزايا والمنافع التى عز أن تنال في غير من ضحى حياته للدين السماوي والتوفيق الإلهي ، ولما تم تقاعده شد الرحال إلى مسقط رأسه وأكب على تصقيل وتصفية جيل جديد وحشد كبير يلبون متطلبات العصر ومقومات الكسر. وقد ذاب كالشموع لإحياء كرائم الأخلاق ولتشييد صروح علمية تنطق بشعار الإسلام وتبعث الشعور والوعي في نفوس أهل البلاد، مثمنا كل القوانين والبنود لئلا يرى فيها عوجا ولا أمتا.
وكان لايزال يشتاق إلى تشييد مبان وصروح تربوية في مسقط رأسه حينما رجع من البلاد العربية، ووفى بها في قرية مروتم قرب كادامبزا في كوتاكل باسم وادي الرحمة، والتي أصبحت منارة تشع بالعلم والنور، بعد أن كانت هذه الأرض تلة خصراء تأوي إليها الكلاب والثعالب وكتلة ممن يحيون الليالي بالعار والشنار، ولما وطئها الشيخ رحمه الله بقدمه الطيبة ولمست ترابها يده لينة، تحولت إلى حديقة ذات بهجة ثرية بالخيرات والغلات تحتضن مؤسسات تجمع بين الصالح والنافع لتطوير المجتمع الإسلامي، من بينها كلية للطلاب الوفاة والوفيات وكلية الآداب والفنون ومدرسة ثانوية حكومية عامة علاوة على ما يجرى تحت رعايتها من أعمال خيرية وأنشطة اجتماعية، وجدير بالذكر أنّ مجلس الصلاة والذكر الذى يقام في مسجد الحرم صباح كل جمعة أسبوعيا لا يزال يكتظ بالحضور، وهم يأتون زرافات ووحدانا من أرجاء البلاد ويرتوون من رحيقه ويفتحون به مغاليق قلوبهم متضرعين إلى الله جل وعلا. ولاغرو إذا قيل إن هذه الصلاة هي التي أورثت هذه الفلاة شهرة وسمعة لدى الآخرين، وحول قلوبهم إليها في زمن ساد فيه البغي والعدوان،ولم تنته خدماته رحمه الله على هذا الحد، بل استطاع أن يبني مقرا روحيا ومبنى مرموقا في أوج الفخامة والنباهة في قريته التي صارت من بعد موطنه ومدفنه، وفتح عليه الفتاح من مننه الوافرة حتى ساهمت في توعية الجالية المسلمة وإنشاء ثلة بيضاء تحمي الأمة من شر مستطير يكاد يهدم السلامة ويقوض الصلابة. وهي أعجوبة تحيىبمرأى منا تحدثنا بهمة شيخنا المرحوم حيث تم بناءهفي عضون سنتين،وأراد الله أن يكون في فناءه مرقده الشريف الذي لايزال يرام ويزار.
قوائم الإنجازات التى حظي بها أستاذنا الفقيد لا أكاد أحصيها وأنا عاجز عن سردهابحذافيرها. وبالجملة أن المعاهد والمباني التابعة «لسمستا» في معظمها نرى باعه الطويل ويده المديدة مثل جامعة درا الهدى الإسلامية وكلية البنات التابعة لها وأرض مطبعها ضمن آلاتها إضافة إلى المبنى الرئيسي لمجلس جمعية المعلمين المركزي في جيلاري وما إلى ذلك. كيف لا وقد كان رجلا يوثر على نفسه ويحمل آمال الأمة على عاتقه ولا يضعها حتى يتم تجسيدها وترتاح بها السواد الأعظم. وكان مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : «إن الله إذا أحب رجلا استعمله، قالوا: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت».
شخصيته الممتازة وخليقته المحمودة
وكان عالما ربانيا أخلص لله عبادته وترك حلاوة الدنيا لحلاوة الآخرة، رأى مخافة الله رأس الحكمة والفضيلة، عاش صابرا وشاكرا لأنعمه، وكان كلامه ونبراته يأثر في القلوب كما تؤثر السيوف، وعت إليه الآذان ولفت له الأبصار والتفت حوله القلوب،كيف؟ وقد كان مأذونا في التعبير كما في حكم ابن عطاء الله السكندري رحمه الله «من أذن في التعبير حسنت في مسامع الخلق عبارته وجلّيت إليهم إشارته».أما موالاته لجمعية العلماء بعموم كيرالا ورابطة مسلمي الهند فكانت وثيقة متينة، وما زال ينصحنا بأنهما إطاران نسير على متنهما وأن علينا الاعتصام بحبلهما بلا انفصام ولاانقصام.كان ممن تمسك بالشريعة قلبا وقالبا، متبعا سنن نبيه شبرا بشبر وذراعا بذراع وباعا بباع، أحيى السنة ليل نهار من دون استثناء ولا ازدراء. وبالدين -حقا ودون جدال- أحيى اسمه ولا يبقى بيت مدر ولاوبر دخل فيه الشيخ إلا أحيى سنة من سننه صلى الله عليه وسلم، وإذا رأى منكرا يغيره في نفس الوقت بغض البصر عن الفاعل.
ومن تلك السنة التى يواظب على إسدائها بالنصيحة تقديم اليمنى على اليسرى فيما يحمد والبدائة بالبسملة والآداب عند الطعام، يكررها مرارا لتكون فينا قرارا وكنا شهود عين لنصحته، وكان يعظ الطلاب في كليتنا وادي الرحمة دبر الصلوات، فكان معظمها التنبيه على الالتزام بالبسملة، والشكر على إنعام الله تعالى علينا، والتضلع في اقتباس نور الله سبحانه من أفواه الأساتذة وتبجيلهم. لو صلى معنا العصر كان يقرأ بعدها بعضا من أحاديث الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، يقوم بها واحد من الأساتذة وبعد الأداء يدلي ويملي الشيخ قدس سره بخلاصة ما حدث. ولا أنسى ما وقع من بعضنا-وانامنهم إعراض عن تلقي الحديث فنبهنا عليه وسوانا. كذا كان سلوكه مع الحرمات. وإذا بالغ في أمر يعاتب فيه مرتكبه فلاينسى أن يعتذر منه ويرضيه.
وملاطفته بالحيوانات كانت في مكانة لا نتوهمها ولا نكاد نسيغها، يجمع الأطعمة ويكسر حسب المحتاجين منها، ولا يجيز لأحد أن يطردها حتى الحشرات وقعت على جسده وإن كانت عاضة قائلا لهم:»دعوه يتمتع برزقه الذى قدره الله له». وكانت القطات من الطوافات له تلتمس جواره وتلتصق رحابه، وكانت عنايته بهن أزيد عندما يصبحن حبليات يبتن أحيانا في حجرته فوق قمطر هناك. وإذا رآها حياها ورحب بها بصباح الخير ومساء الخير على حسب الأوقات. يا لها من أعجوبة يدخل المسرة في كل ما فيه روح ولو كان غير ناطق «تحسبونه هينا وهو عند الله عظيم».
كان بشرا لا كالبشر، يصل من قطعه ويدعو لمن عادى له ويجود على من آوى إليه ويمد يد الفضل على من جاوره، ويقرب من زاره ويردف من بايعه وينصح لمن استنصحه، فنحن مدينون له بكل المعاني.
أما كراماته رضي الله عنه فمنها مأثورة ومستورة، ولا أطلع عليها رجاء أننا نقتنع بما سطر من حياته الحافلة بالملامح والقسمات. وهل من الآدب أن نقيس شخصياتهم بالكرامات؟! ولكن الكرامة التى ليس فوقها كرامة هي الصلاة على وقتها في الجماعة كما كان يفعله، ويحيطنا علما بأن كرامة المؤمن هي الصلاة في الجماعة إذا حان الوقت. ولا قيمة عنده إذا حانت الصلاة لشيئ سوى أدائها.
وفي كل حرف وطرف كان كتابا مفتوحا لكل من يطالع، رجلا سار مع القيم السامية والشعائر الشامخة تتفق مع مبادئ الإسلام وشريعته السامقة. حياة ذاخرة وستسجل بالحروف الذهبية مشكاة للاحقين ومنارة للاجئين. وأخيرا، كان الشيخ رضي الله عنه من المخبتين الذين بشرهم الله بخيري الدنيا والآخرة فهم «الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون»(الحج -35)، نعم رحمك الله يا شيخنا، دعوتنا على البصيرة وهديتنا إلى الفضيلة فجزاك الله عنا خير الجزاء.
توفي الشيخ في 11 ربيع الآخر سنة 1440 الموافق لـ19 ديسمبر 2018 قبيل الظهيرة يوم الأربعاء، في نفس اليوم الذي توفي فيه الشيخ عبد القادر الجيلاني قدس الله سره العزيز، متخلفا آثارا قيمة ضاءت إلى الحشر وله من العمر اثنان وثمانون سنة عن ابنين وثلاث بنات وجم غفير من الأحفاد والأحباب. أدخلنا الله معه بحبوحة جناته، آمين.
موت التقي حياة لا انقطاع لها
قد مات قوم وهم في الناس أحياء