بقلم: أظهر رضا
هذا من طبيعة الحياة وغريزة الكون، أن الإنسان يتقلب بين آلام وآمال، وأفراح وأتراح، ويضطرب بين ضرر ونفع، ويأس ورجاء وشدة ورخاء، فكما أن الأزهار لا تخلو من الأشواك، فكذلك الإنسان لا يخلو من الأحزان، فمهما ازداد قدر الإنسان وشرفه، فالهموم سوف تأتيه والغموم ستلتقي به.
إن الحياة رهينة المشقات والمتاعب، فكل من يعيش تحت أديم السماء أو يحيى في هذه المعمورة، فسوف يعاني النوائب ويقاسي المصائب، التي تمر بها الزمان. وكل إنسان يخطئ وتزل قدمه وإن كان عالما لبيبا أو حكيما أريبا، ولكن لا يليق به أن ييأس أو يقنط من الفلاح والنجاح بل عليه مواصلة الاجتهاد والمحاولة لكي يفوز بهدفه وينجح بأمله فالفجر لايدرج إلا من مهد الظلام فإن الشاعر يقول :
لا تيأسن إذا كبوتم مرة
إن النجاح حليف كل مثابر
ولاتيأسن إن عثرتم على الثرى
ألا إنما البرذون يعدو بكبوة
يكون لكل شخص أمان وآمال، ولكل فرد أحلام وأهداف، فينبغي له أن يجتهد لتحصيلها ويسعى لتحقيقها، فإنه لايحصل شيئ منها إلا بالجد، ولاتنال منزلة ولا مرتبة إلا بالكد الوافر، فكما أن أصابع اليد لا تستوي فكذلك القلوب تختلف، فمن كان له قلب عظيم وفؤاد جريئ، تكون له أهداف جليلة وأحلام كبيرة، فبقدر الجد والكد يبلغ المرام ويفوز بالمقصد، كما قال الشاعر:
بقدر الكد تكتسب المعالي
ومن طلب العلى سهر الليالي
يغوص البحر من طلب اللآلي
ويحظى بالسيادة والنوال
وكما قال آخر:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
ولو أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يجتهدوا حق الإجتهاد، ولم يتوكلوا على الله، ولم يعزموا على أمورهم بالحزم، لما بلغت إلينا أشعة الإسلام، ولم تر أعلامه خفاقة في هذا العالم، ولكنهم بذلوا قصارى جهودهم في تبليغ الدعوة الإسلامية، وإشعاع النور المحمدية ونشر الرسالة الإلهية، فمنهم من قضى نحبه خلال تلك الجهود، ومنهم من ضحى نفسه لأجل الدين الحنيف، وإعلاء كلمة الله، ورفع أعلام الإسلام في كل أرجاء البسيطة.
فحق للمسلمين أن يجتهدوا للتقدم والتطور والترقي والنمو والإزدهار في كل المجالات التعليمية والتربوية والإقتصادية، فإن حبيبنا وقرة أعيننا حبيب الله محمد صلى الله عليه وسلم تحمل مصائب كثيرة وتجشم كؤسات مشقة عديدة لأجل أمته، لدرجة أن لووقعت على الجبال لتحولت إلى الرمال من شدتها، ولو وقعت على الأيام لصرن الليالي من هولها. فإن من جد وكد وسعى واجتهد، فلا يخيب آماله، بل سوف تحصل له ثمرة اجتهاده، ويحظى بنيل مرامه وأمنيته، فإن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين والمجتهدين في سبيل الخير والصلاح، وقد وعدهم بذلك حيث قال «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا»، وقال «إن الله لا يضيع أجر المحسنين».
العزيمة هي حل كل مصيبة ومشكلة، وهي الترياق الوحيد الصالح لجميع الأمراض المعضلة. فإن الإنسان عندما يصمم العزم متوكلا على الله على تحصيل شيئ مهما كبر وعظم، فإنه ينازل النوائب التي تحول بينه وبين غايته، كالفارس البطل الشجاع يهز قناته، ويلقي الرعب والروع في قلوب الأعداء، فيقتلهم واحدا تلو آخر، فيحس النوازل التي تنزل عليه كالقطرات تنزل من السماء، فتهون أمامه الخطوب العظيمة، وتصغر أمام عينيه كوارث الدهروأهوال الزمان، فلا يجلس ولا يستريح إلا بعد تحقيق حلمه وتحصيل هدفه، كما قال البارودي:
ومن تكن العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيه محبب
وقال الشاعر أبوالقاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
فلا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
وإذا قلبنا صفحات التاريخ النيرة وحدقنا فيها، لوجدنا كثيرا من الأشراف والرؤساء والعلماء والأدباء والشعراء، الذين فازوا بمناصب عالية، وتبوّئوا بالدرجة العليا ومراتب عظيمة، وتربعوا في عروش الحكم والإمارة، والتعليم والتربية والدعوة، أهل العاهات والآفات، وفرائس الدهر و الحدثان، فما وهنوا لما أصابوا وما استكانوا. فهذا عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه أحد أعلام التابعين، كان أسود أعور أشل أفطس، ولكنه رغم ذلك كله جدّ في طلب العلم حتى عد من كبار المحدثين والفقهاء، وهذا أحنف بن قيس رضي الله عنه كان أعوريقال- ذهبت عينه في جهاد بسمرقند- ولكن رغم هذه الآفة والبلية، عاش حياة مليئة بالحلم حتى ضرب به المثل في الحلم، وهذا أبو الأسود الدؤلي كان أعرج مفلوجا ولكنه أول من وضع العربية، وهذا أبو العلاء المعري كان قد أصيب في صباه بالجدري فكف بصره، ولكن تاريخ الأدب العربي لا يتكمل بدون ذكر اسمه.
والمثل الأمثل هو سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه نشأ يتيما وتحمل مصائب لاتعد ولاتحصى، ففي غزوة أحد، شُج وجهه المبارك، وكسرت رباعيته المباركة، وفي الطائف آذاه كفار «ثقيف»، ورموه بالحجارة حتى أدموه، وكم من أهوال قد ركبها في ابتداء دعوته، ولكن رغم كل هذه المصيبات كان صابرا محتسبا، فكانت حياته كلها متدفقة بالخير والبركات، ومكللة بالفتوح والإنتصارات، فلولاه لما خلقت السموات والأرض، فهو الإنسان الكامل وهو المثل الأعلى والقائد الأعظم والقدوة المثلى، لكل من يعيش تحت السقف السماوي ويمشي على وجه الأرض، فهولاء العظام الذين ذكرتهم آنفا، قدّموا للإنسانية كلها والعالم جميعا خدمات وأفعالا، وصلوا بها من السمك إلى السماك، ومن التخوم إلى النجوم، فلا يزال التاريخ يردد ذكرياتهم، وتدوي الأرجاء والآفاق بصوتهم وصيتهم.
فالحياة التي لاتكون في طيها معنى، ولا ينال بها أحد نفعا ولاجدوى، فهي كالثمرة التي لا مخ فيها ولا حلاوة تؤخذ فتطرح، فعلى كل واحد منا أن نحيا حياة تكون أسوة لغيرنا، ومصباحا يستضيئون به في أيامهم الحالكة وأوقاتهم الصعبة، وأن نعيش عيشا يكون مثالا للناس وقدوة للأنام، و إلا فلا فرق بين عيش الإنسان وعيش البهائم كما قال الشاعر:
نهارك بطال وليلك نائم
وعيشك يا إنسان عيش البهائم