البخل داء عضال وسم ناقع

بقلم: عبد الواجد بن محمد الفيضي

البخل ليس بخلق فقط، بل هو السقم الّذي يوسوس في قلوب الإنسان، ويعجز جسودهم عن الطاعة، ويشوّه خلفية حياتهم، ويدمّر مناصبهم الاجتماعية، وينتج به الوحشية والبربرية، ويوصل إلى نهاية الضغطة وقمة الضنكة، ويصيّرهم صُمًّا وبكمًا وعميًا، والبخل سجيّة من السجايا المذمومة في الإنسان، لأنّه يكتحل به ويظنّه زينةً  ويزعمه خيرا له، فمما لا داعيَ إلى شائبة الشك أن عواقب هذه السجية محمولة على عاتقه فقط لا تتجاوز منه إلى غيره، سواء في هذه الحياة الدنيوية والأخروية، لأنه طريق من طرق الفتّان وطبع من طباع الشيطان، ومن يكن هيمان بالمال يحوّل من المرافقة والمصادقة إلى المخاصمة والمشاجرة، فيضيق صدره عن التوسط والتوسع، فالسخاء يطهّر الأنجاس والأدناس المتكدسة في القلوب، ويزيل الأنفة والغطرفة المتراكمة في الضمائر.

سلوك الأصحاب وطريق الأنبياء مع البخل

ومن الواضح أن البخل من أسوء الخلق وأقبحه، ولذا لمه ولعنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني سلمة وسألهم: من سيدكم؟ فقالوا «هو جدّ بن قيس»، وقال صلى الله عليه وسلم: «فيه شيء من البخل، لم يكن لسيد أن يكون فيه شيء منه، فسيدكم من الآن هو بشر بن البرّاء»، فالواضح من هذه الواقعة خطر البخل وهوله، وذلك نفهم من موقفه صلى الله عليه وسلم بعزل سيد فشى بخله وشحّه بين الناس.

فكذلك كانت شخصية صحابته الكرام، إنهم تركوا سبيل البخل وخاضوا درب السخاء والجود، فالحادثة التي حدثت في مكة: يقول أبو الحياة الأسدي إنه سمع عند الكعبة أحدا يقول «اللّهم إني أعوذ بك من بخل نفسي»  فيكرّره مرارا ويجرّده بدعائه، وليس له حاجة سواه، فلا يولع بأي شيء آخر، فعجب منه وقدم إليه وهو يسأل: لماذا تعوذ بالله من البخل فقط، أليس لك أي شيء آخر تطلب به، فأجابه بأنه إذا خلصت من البخل والشح فأمكن للخلاص من سائر السيّئات وأطهّر قلبي من الخبيثات، فأنعم النظر إليه، فإذا هوعبد الرحمن بن عوف واقف أمامه، فدهش منه،

ولله درّ من قال وأحسن في المقال، هو أحد خليفتنا علي بن أبي طالب:

«دع الحرص على الدنيا

وفي العيش فلا تطمع

ولا تجمع من المال

فلا تدري لمن تجمع»

بل هو خير لهم

تعريف البخل هو ضدّ الكرم والكراهة لإنفاق المال ولوكان لمن أحقّ به، فهو طبع حقّره الله تعالى، فتحقير ما حقّره الله علامة المؤمن الخالص، فتورثه أسباب متعددة مرقّمة، فينقسم إلى أوجه متنوّعة متلوّنة، فالأول ما يمرّ في الخطر عند سماع لفظ «البخل»، هو الإمساك في المال، فهو شائع ومتعارف في آفاق الأرض خاصةً في المعاصر، لأنّ السكّان المعمورة يجعلونه جزءً لا ينفصل منهم وزادًا لا يمكن السير بدونه، فمرّت الأقلام وقامت الأفواه بتوبيخه وتسخيره، فالنوع الآخر من البخل هو الضن من الأفعال المحمودة في الإسلام والمحرّضة بالخبراء، فمن الحزن البالغ أن يترك الإنسان ما حثّه وحرّضه سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلم بالإمساك في الباقيات الصالحات، ومن المعروف جدّا أنّ من  أشنع البخل ما يبخل بالسلام على من عرفه ومن لم يعرف، وهو صريح من ألفاظ ذي الكرم صلى الله عليه وسلم، لأنه هو تحية الإسلام والمسلمين، والذي جاء بها القرآن الكريم «إذا حيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها أو رُدّوها».

فالبخل مكدّس  بقوله سبحانه وتعالى «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة، ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير»، وتطويق ما بخلوا به ليس من الذهب أو الفضّة ولكنّه من الثعابين والأفاعي المسمومة، فصيحتهم ضمن إحجافهم «أنا مالك الّذى كنزت، أنا ثروتك التي أمسكت».

فالصريح بقوله سبحانه وتعالى أنّه مالك كلّ أموال وأنفس، فالإنسان حفّاظ لما أودعه الله  عنده من الودائع، فعليه أن يرجعه إليه وفق إرشاده، فكيف يقتر به؟ فمن يمسكه خائنا ومتجاوزا فيما حدّده الله سوف يرى أثره في حياته الباقية الأخروية.

طوبى لمن قام بالسخاء وترك البخلاء    

فالبخل والبخلاء يزدادون على مرّ العصور وكرّ الدهور، ولازم علينا أن ننبّه هذه الأمة من عماقة الجهالة ودُجى الضلالة ودجنة سوء الخيالة في تزيين البخل وتعظيم البخلاء، ومن العبث البحثُ عن السماحة من البخيل كما قاله إمام شافعي رحمه الله :

«ولا ترجو السماحة من بخيل

وما في النار للظمآن ماء»

وما أجمل الكلام وأكمل البيان وأشمل الاهتمام، إنّ من يبخل في أموره لا يفيد لمن يحتاجه ويفتقر إليه، فرجاء السماحة منه مثل فحص الماء من النيران، فقوله سبحانه وتعالى «ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» فطوبى لمن يقوم بالجود و السخاء والكرم، وقوله صلى الله عليه وسلّم «لا يجتمع الشحّ  والإيمان في قلب عبد أبدا»، فالواضح من ضرب أبطان البخل في قلبه لم يكن  مؤمنا، ومن يكن مؤمنا خالصا لا يستطيع للبخل أن يسكن في فؤاده، فقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه «ليس  الشحّ أن يمنع الرجل ماله، إنّما الشحّ أن تطمع عين الرجل فيما ليس له»، فقولهم من لم يأخذ شيئا نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئا أمر الله بإعطائه فقد وقاه الله شحّ نفسه، اللهم احفظنا من شحّ أنفسنا وقنا من البخل في أموالنا وأعمالنا واجعلنا في صراط  الذين جعلهم في نعمتك بالجود  والكرم وحفظهم بصيانتك عن الكزز واللحز، آمين يا ربّ العالمين.