بقلم: محمد صباح كروتيني
لقد حظيت الأمة الإسلامية بسلسلة الرسالة الربانية والطقوس الدينية من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا على أيادي العباقرة من العلماء والأصفياء الذين يجددون التعاليم الإسلامية مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام: «العلماء ورثة الأنبياء»، ففي كل جيل شاهدنا أعلاما بزوا أقرانهم علما وسابقوهم فضلا، أولئك هم صفوة الله في هذه الأمة، نعم، وهم يحملون على متونهم أعباء الدعوة والدين، ولهم قلم صارم في دين الله، وهم الذين يوعون الناس ويبينون لهم حقائق دينهم، ومنهم من قضى نحبه وفارق الدنيا الدنية متبقيا إثرهم مساهمات غالية من المصنفات القيمة والمواقف الإيمانية الجليلة، مثل الدكتور سعيد رمضان البوطي وعبد الله بن بيه ومصطفى صادق الرافعي ومتولي الشعرواي ومحمد علي الصابوني وغيرهم، جزاهم الله عنا خير ما جزى به الأمة المحمدية.
وممن برز في القرن الماضي العالم البارز العبقري المفسر الأديب العقدي عبد الرحمن حبنكة الميداني الدمشقي نسبا الحبنكي حيا الشافعي مذهبا،وله نفوذ كبير وتأثير ممتاز في المجالات المختلفة، ومصنفات عديدة في الفنون المتنوعة لا ينسى ذكرها عبر القرون، ولم يغلب عليه فن من التفسير والأدب والعقيدة والفقه، بل غلب كل في شخصيته وسيرته، كما يقول الحكماء: أبو نواس فقيه غلب عليه الشعر والشافعي شاعر غلب عليه الفقه، بل غلب المترجم حبنكة في كل الفنون الإسلامية والعصرية.
مولده ونشأته
ولد فضيلة الشيخ العلامة المفكر عبد الرحمن بن حسن بن مرزوق بن عرابي بن غنيم حبنكة الميداني سنة 1345(1927م) في حي الميدان أحد أعرق أحياء دمشق، نشأ فقيدنا الشيخ عبد الرحمن حبنكة في بيت جده مرزوق، وقضى هناك أيام طفولته إلى أن جمع الله بينه وبين أبيه بعد أن كان لاجئا في الأردن بعد توقف الثورة السورية، وكان الجد مرزوق الحاج ينفق بما يعود عليه من رعاء الأغنام واستثمار أصوافها وأوبارها وألبانها وما ينتج عنها.
طبعا، كان لآباء حبنكة أيضا دور كبير كما في تبنية الولد وتربيته وتطوره، وقد أثرت البيئة الخارجية والداخلية في تشكيل شخصية الطفل الصغير عالما بارزا عبقريا، نعم فقد نشأ الشيخ رحمه الله حسب حياة والده الكريم الشيخ حسن حبنكة الميداني، وكان عالما مفكرا مربيا ومساهما في تأسيس رابطة العلماء بدمشق وأمينها العام، وله تلاميذ كبار كابنه الشيخ عبد الرحمن حبنكة والشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والدكتور محمد الخن وغيرهم من الأعلام النبلاء، وكان ذكيا وحاضر الذهن ثابتا في مواقفه ومحاوره، لا يسمع إلى أندبة الجهال والرؤساء، عندما عرض عليه منصب شيخ الإسلام والقضاء في عصر الوحدة بين مصر وسوريا رفض ذلك وتورع في قبولية ذلك المنصب.
وأمه السيدة نظيمة بنت إبراهيم السودان، كانت ممن تحب العلم والعلماء وتهدي إلى أهل العلم الهدايا والصدقات حتى لقبت من قبل بعضهم «ست الشام وأم طلبة العلم»، بدأت تعليمها الابتدائية من قبل زوجها، ولم تخجل لخدمة الطلاب الذين يلجأون إلى زوجها، بل يتقدم إليهم الطعام والشراب، ويخيط بيديها الجبب في ليالي رمضان لتهدي بها إلى تلاميذ زوجه في أيام العيد، أم حنون لأهل العلم وخادمة لطلبة العلم.
ترعرع الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني رحمه الله في كنف والده الكريم العالم يحيطه بعنايته ورعايته، ويمهده ليكون خليفة له في أهله ومعهده، تلقى الشيخ العلوم الابتدائية من قبل والده، ثم التحق بالمدرسة الشرعية النموذجية التي أسسها أبوه وسماها «معهد التوجيه الإسلامي»، مدرسة داخلية مجانية، نظامها راسخ بالتراث والأصيل، يتدرج فيها الطلاب من مبادئ العلوم الدينية والمادية إلى أعالي المستويات.
ربى الشيخ كل طلابه بتربية الأب وتدريب متفنن، ومرنهم على إعداد الخطب والدروس والمحاضرات، حتى أثرت فيهم هذه التمرينات والمناهج التعليمية على وجه خاص، حتى حاز الشيخ خلال دراسته مكانة مرموقة بقوة ذكائه وحفظه.
ومن الجدير بالذكر أنه بدأ التعليم والتسرية من بداية شبابه، وعمره خمس وعشرون سنة في معهد والده، وبعد تخرجه من المعهد سنة 1367 (1947م) توجه إلى مجال التدريس في الفنون المختلفة، منها علوم الفقه والأصول والمنطق والبلاغة إلى سنة 1370، وفي السنة نفسها التحق بكلية الشريعة في الأزهر الشريف، وحاز الشهادة العالية ثم الشهادة العالمية مع إجازة في التدريس (ماجستير في التربية وعلم النفس)، وفي عام 1960م أسندت إليه إدراة التعليم الشرعي في وزارة الأوقاف وعمره لم يتجاوز الثانية والثلاثين، وفي السنة 1387(1967م) عين محاضرا في الجامعة الإسلامية بالرياض لمدة سنتين، وبعده في جامعة أم القرى، استمر الشيخ على التدريس والتعليم حتى أعياه العمر، وكان محاضرا في هذه الجامعة حتى بلغ السبعين من عمره، فأعفي من خدماته الرسمية، وتفرغ لكتابة تفسيره »معارج التفكر ودقائق التدبر»، تفسير تدبري للقرآن الكريم وفق ترتيب النزول، بداية من سورة العلق وامتد تفسيره إلى سورة البقرة، حتى توفاه الله بعد الابتلاء بسرطان القولون، جزاه الله عن أمته خير ما يجزي به عبده الصالح.
وكان للشيخ حبنكة مصنفات عديدة في الفنون المختلفة، تشهد على غزارة علمه وعمقه وشموله، وقد جمع في كتبه بين القديم والحديث وبين التخصص الشرعي الدقيق والعلوم الدنوية العصرية.
من مصنفاته المطبوعة:
أولا – سلس لة في طريق الإسلام
1) العقيدة الإسلامية وأسسها
2) الأخلاق الإسلامية وأسسها
3) الحضارة الإسلامية وأسسها ووسائلها
4) الأمة الربانية الواحدة
5) فقه الدعوة إلى الله وفقه النصح والإرشاد
ثانيا – دراسات قرآنية:
1) قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل
2) معارج التفكر ودقائق التدبر (تفسير بديع للقرآن الكريم)
3) أمثال القرآن وصور من أدبه الرفيع
4) نوح وقومه في القرآن
5) تدبر سورة الفرقان
6) صفات عباد الرحمن في القرآن
ثالثا – سلسلة أعداء الإسلام:
1) مكايد يهودية عبر التاريخ
2) صراع مع الملاحدة حتى العظم
3) أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها (التبشير، الاستشراق، الاستعمار)
4) الكيد الأحمر (دراسة واعية للشيوعية)
5) غزو في الصميم
6) كواشف زيوف في المذاهب الفكرية المعاصرة
7) ظاهرة النفاق وخبائث المنافقين في التاريخ
رابعا – سلسلة من أدب الدعوة الإسلامية:
1) مبادئ في الأدب والدعوة
2) البلاغة العربية
3) ديوان ترنيمات إسلامية (شعر)
4) ديوان آمنت بالله (شعر)
5) ديوان أقباس
خامسا – كتب متنوعة:
1) ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال والمناظرة
2) بصائر للمسلم المعاصر
3) الوالد الداعي المربي الشيخ حسن حبنكة الميداني (قصة عالم مجاهد حكيم شجاع)
4) التحريف المعاصر في الدين (رد على كتاب د، محمد شحرور : الكتاب والقرآن قراءة معاصرة)
5) منهج التربية النبوية للطفل مع نماذج تطبيقية من حياة السلف الصالح
ولزوجة الشيخ عائدة رحمها الله تعالى كتاب باسم «عبد الرحمن حبنكة الميداني: العالم المفكر المفسر زوجي كما عرفته»، صدر من دار القلم بدمشق. وانتقل إلى جوار ربه يوم الأربعاء في 25 من الجمادى الآخرة سنة 1425 الموافق لأغسطس 11سنة 2004م، وتشيعت الجنازة بموكب عظيم من الناس، وكانت جنازة مشهودة بالعلماء والكبراء والعامة وجميع العالم، وصلى عليه ابنه آخرا في جامع الأمير منجك في حي الميدان بعد صلاة شيخ قراء الشام الفضيلة محمد كريم جراح ورثى عليه ولده الدكتور وائل ووري في مثواه الأخير من دار الدنيا بمقبرة الجورة في حي الميدان، تقبل الله خدماته وجمع بيننا وبينه في جنة الفردوس، آمين.