«فاستقم كما أمرت ومن تاب معك»

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد. فقد رحل منا الشهر المعظم شهر رمضان، الذي كان شهر الرحمة والغفران، والذي أعتق فيه رقاب من النيران، وأدخل فيه كثير إلى الجنان، شهرا بسائر الخير والبركات، والذي امتدت فضائله إلى حد لا يحصى، صمنا نهاره وقمنا لياليه، ومن خلالها قمنا بعمليات وتقدمات كثيرة مشوبة بالتقوى والإخلاص، وكان شهر هذه الأمة الذي أنزل فيه القرآن، شهرا كانت فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، الليلة التي تنزل فيها الملائكة بعدد الحصى خلف روح الله جبرييل عليه السلام، والتي هي خير كلها و  كلها وبركة كلها ورحمة كلها، والتي تمتد إلى مطلع الفجر.

هذا هو الشهر المكرم رمضان الذي ارتحل منا، سلام عليك ووداع بقلب حزين ملهوف… سرعان ما قدم إلينا وأسرع منه رحل منا، ولا يدري أحد هل يبقى إلى القابل فيوفق للصيام والقيام، أم يموت ويبقى في القبور عادمي الزملاء والأقرباء، والتي ليس فيها نور سوى حسنات قدمها في الحياة، ثم إن الدار الآخرة لهي الحيوان.

نعم قبلناه مسرورين مستبشرين وودعناه ملهوفين محزونين، وهنا يقف العاقل المتأمل وقفة اعتبار وتفكر، ما الذي استفاده من رمضان؟ وماهي علامات الاستفادة؟ وهل كان الشهر راضيا عنه أم رحل وهو ساخط عليه؟ فهنا يبعث شعوره وينهض، ويجعله مدرسة إيمانية ومحطة تربوية ودورة ابتدائية، فيبدأ منها حياة جديدة ممتلئة بالتقوى والإخلاص، حياة لا يعلم فيها أبواب المعصية والطغيان بل محض اتباع النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ونيل الرضوان، حياة بإحياء الليالي وصيام النهار، حياة في مثل أيام رمضان ولياليه، فيقطف من ثماره اليانعة ويتظلل تحت ظلاله الوارقة.

فليكن رمضاننا نقطة انطلاق ومنبع الخيرات، وما بعده امتداد ونتيجة للتنافس في الخيرات، فلا تكونوا من عباد رمضان، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، بل كونوا ممن اغتنم فيه وجعله مدرسة تربوية، فإن رب رمضان هو رب باقي الشهور، والرب الرحمن العفو الغفار الوهاب في رمضان هو على ذلك في غيره من الشهور، فمن كان يقوم الليل في رمضان فقيام الليل مشروع في غيره، ومن كان يصوم النهار فيه بالقلب والجوارح فالصيام مشروع في غيره، كالست من شوال وأيام الإثنين والخميس وأيام البيض والسود والعاشوراء والتاسوعاء والعشر الأول من ذي الحجة وغيرها، ومن كان يتزكى بما شرع الله عليه من زكاة الفطر فالزكاة مشروع في غيره من زكاة المال والتجارة والأنعام، ومن كان يتصدق فيه فالصدقة مشروعة في غيره، حتى أن كل شيئ عملناه في رمضان هو مما شرعه الله في غيره من الشهور إلا ما اختص رمضان من صلاة التراويح ووجوب الصيام.

ف»سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين»، فالتقوى هو الخلاص، وهو الفارق بين صالح وغيره، والفاصل بين داخل الجنة وخارجها، وهو الميزان الأبقى والأرقى، ولنيله كتب الصيام، وهو امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه.

وروي عن يحيى بن معاذ رحمه الله في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: «عمل كالسراب وقلب من التقوى خراب وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم نطمع في الكواعب والأتراب، هيهات أنت سكران بغير شراب، ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلك لو بادرت أجلك، ما أقواك لو خالفت هواك»، فخير الأعمال من عمل عملا فأتقنه بالخضوع والخشوع التام والمداومة عليه في باقي الأيام، وفي حديث مسلم أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أي العمل أحب إلى الله؟ فقال أدومه وإن قل».

وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تداوم على ثمان ركعات من الضحى وتقول «لو نشر لي أبواي ما تركتها»، وكان بلال رضي الله عنه يحافظ على ركعتي الوضوء، وكان سعيد بن المسيب رضي الله عنهما ما فاتته تكبيرة الإحرام خمسين سنة، فعلينا بهمم كالقمم للمبادرة بالأعمال الصالحة، فالهمم نوعان همم معلقة بعرش الرحمن وأخرى معلقة بالفرش والقرش والكرش والحش، فليكن الأول هو هدفنا والعمل له شيمتنا العظمى ومجدنا الأكبر.

وكان السلف الصالح رضي الله عنهم يدعو الله لقبول رمضان ستة أشهر ولبلوغه ستة أشهر، فإن التوفيق للاستمرار على الخيرات والمداومة عليها بعد ما عملها في رمضان هو من علامات قبوله، تقبل الله منا جميع أعمالنا بقبول حسن وجزانا خير الجزاء، آمين، يا رب العالمين.