هكذا نشأت الفاشية في الهند وعاد مودي إلى السلطة

بقام: معين الدين الهوي

بعد خمس سنوات عجاف  سادت الفوضى والفساد في سائر أنحاء بلاد الهند، وصار فيها الأمن والسلام سرابا يحسبه الظمآن ماء، بعد سنوات حطمت فيها سائر أقيسة الوطن السابقة والتي رسمت مشهدا جديدا ورئيس وزرائها ناريندرا مودي يجلس على كرسيه من غير رحمة ولا رأفة، مخطئا للعد ومضيعا للحساب مع إمرار الدولة على أحر من الجمر، ولا يلت من أعماله خلاف الأقليات شيئا، وحزب بهاراتيا جاناتا الحزب الحاكم جعل الحكومة طوع بنانه وبقي القانون نقطة فوق الماء ومداداً في الأوراق، والتي شهدت حملة انتخابية ضارية تأمل فيها كثيرون من أن مودي سيتحول لبطة عرجاء، وأنه قاب قوسين أو أدنى من العزل النهائي، بعد تلك الأيام المظلمة الغاشمة، انتظرنا خمسا سمانا نأكل ونشرب ونتناول ما نتمنى ويتغنى في فناء ديارها طيور المحبة والرحمة، وتطلع فيها شمس منيرة تمتد أشعتها من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومن أفق إلى أفق، لكن بعد طول الانتظار أبت الآمال إلا أن تسحق، آمال بلا آثار وآثار تثير وتهيج الآمال.

فقد عاد ناريندرا مودي وحزبه مرة ثانية إلى السلطة بفوز ساحق حتى على أدائه عام 2014م، ليحصل بذلك على فترة جديدة في رئاسة الحكومة الهندية تمتد إلى خمس سنوات، فاز الحزب الحاكم بحصوله على عدد غير مسبوق من المقاعد بلغ 303 من 542 مقعدا في مجلس النواب (لوك سابها) متفوقا على 282 مقعدا حصل عليها في انتخابات عام 2014م، كما أن فوزه يجعله ثالث رئيس الوزراء في تاريخ الهند يحتفظ بالسلطة بعد فترة ولاية كاملة، وأول زعيم لحزب بهاراتيا جانتا يتولى السلطة لولاية ثانية.

حقا أن الانتخاب هو الهدف السامي للشعوب المظطهدة، الملجأ لتحقيق المساواة وضمان الحرية وتكريس التداول السلمي على الحكم والفاصل بين السلطات المختلفة، فلا أشكو الانتخاب ولا فعالياته، وإنما أشكو بثي وحزني حول نتيجته المتحيرة الساحقة لآمال متراكمة رصينة انتصار مودي وحزبه بجمهورية تامة بعد فعلته التي فعل.

وهذه النتيجة المبكية تؤشر بكل بنانها إلى أن الوطن الهند العلمانية الديموقراطية صارت تحت قبضة الفاشية، وأظفارها قد نشبت بالهند وعمت جميع دروبها وربوعها، وقد كشفت اللثام وأزاحت النقاب عن وجهها الصافي، وظهرت سهلا بلا خوف ولا نظر، ولسان المحكمة تفتأ يتشلل لا ينطق بشيء، كما رأيناه في المعركة الأخيرة لأجل الدستور، يقول أهلها بما لا يفعلون ويفترون على مخالفيهم بأكاذيب بالغة، ويتعززون بعمليات العسكر ويخالفون الأقليات تحديدا الشعب الإسلامي في منابرهم وجالياتهم، لا يذكرون ولا يعرفون دستور الهند وسلوكها ولا يعلمون حقها وباطلها، يهددون الأقليات تهديد الشدة والعنف والكره، فيجعلون الفاشية سيطرتها قوية مضغطة على مراكز الإعلام، ويديرونها بشكل جيد للغاية، يسترون الحقيقة في ظل البليارات التي تنصبّ من الشركات الدولية الكبرى كما أنهم قد ملكوا غرفة البترول للقطاع الخاص واحتفظ بهم تعلقات عريقة مع ملئهم بطونهم وكيسهم بأموال رشوية، ويمتلكون الانتخابات العامة بهذه الوسائل، حتى تمنع الحقائق من مناظر الشعب والجمهور، وقد كانت الانتخابات البرلمانية الماضية خير دليل لهذه الطريقة الماكرة، حيث أدت حزب بهاراتيا جانتا للسيطرة على الدستور والإدارة والمحكمة بتغيير جذري.

صحيح أن حكومة الهند أعلنت إدانتها لاحترام التعددية الثقافية مع سائر جوانبها من الحرية التامة على التعبير والتفكير وغيرها كما يرشده دستور الهند حسب معناها الأصلي ومفهومها الاصطلاحي، إلا أن المسلمين والأقليات الأخرى ينتظرون كلمة الاحترام في نفس الوقت من رئيسهم ناريندرا مودي، حيث إن مودي بعد ما تبوأ على كرسي الهند أخذ يحاول محاولة جبارية مستبدة لتأسيس وطن يعمل كوطن الهنادكة دون الآخرين، فأصبحت التعددية الثقافية الهندية فقدت روحها ولم تزل في التدهور والانحطاط حتى قيل إنه جبار مستبد كهتلر بل هو أضل منه.

تيارات الفاشية في الهند

الفاشية في الهند ما كانت وليدة لحظة ولا يوم، بل تمتد جذورها عريقة فوق الأرض، بدأت قليلة ونشأت قصيرة ثم أخذت تنتشر في جميع ربوع الهند على يد بعض من الأحزاب السياسية حتى وصلت إلى عرش حكومة الهند ثم عمت أكثر أنحاء الوطن حتى وصلت إليه مرة ثانية بأغلبية كبرى، والآن الشعب الهندي صمد صمود الجبال الراسخة أمام التيارات الفاشية الفاسدة والنزعات التطرفية المهلكة، مثل القانون المدني الموحد وغيرها من السياسات الخطرة.

ويقول شريدار دالم الذي يعد مؤلف أحد الكتب النادرة التي سمحت منظمة المتطوعين الوطنيين(RSS) بإصدارها عنها باللغة الإنجليزية تحت عنوان «أخوة الزعفران»، تعتقد المنظمة أن العرق الهندوسي وتراثه كان موجودا حتى في الأقليات الدينية الأخرى التي تصل نسبتها إلى 20 في المئة من عدد السكان، لأن الجميع وفقها كانوا في البداية هندوسا، ثم غيروا ديانتهم إما باختيارهم أو بإكراههم، لكن هذا لا يعني أنهم غيروا ثقافتهم.

هذا القول الباطل والرأي المعكوس هو السبب الرئيس لانتشار الفاشية في بلاد الهند التي كانت ميدان المحبة والسلام وموطن الأمن والوداد ورمز الوحدة في التنوع والتي تاريخ رؤساءها العباقرة الذين بذلوا نفوسهم ونفيسهم لحماية الوطن وتبنية دستور أقوى الذي يسد جميع أبواب لخرق الصفوف وطرد الحقوق وانتشار الفاشية خير شاهد لتحقيق ما أراد مؤسسوها من تشكيل دولة نسجت لحمتها وسداها في مبدأ الوحدة في التنوع أمثال مهاتما غاندي وجوهرلال نهرو ومولانا محمد علي جوهر، كانوا يعاملون يدا بيد وكتفا بكتف بوحدتهم الوطنية رغم أنهم ينتمون إلى ثقافات وأديان مختلفة، حاربوا الاحتلال البريطاني والدكتوتارية وسائر أوضاع الفاشية بجميع جوانبها محاربة سلمية فكرية التي أدت الدولة إلى أن تكون أكبر دولة ديموقراطية علمانية تقوي الضعفاء والمظلومين، وتبث وعي الأمن والسلام بين الأوطان والأفراد.

هكذا مضت الأيام والحكومات، ثم قلب الدهر ظهر المجن، وبدل نعيمه بؤسا وعد جيده منحوسا، فبدأت الفاشية تنتشر في أرجاء الهند وأنحائها، والتعصب الديني أخذ يبدي مخالبه وبراثينه لاضطهاد المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، هنالك أطلق غوتسى Godse الرصاص على مهاتما غاندي أبي الوطن على حين غفلة من الفئات الدولية، وهو الذي فدا روحه في بناء دولة فوق أنقاض من الاحتلال، وشهدت الهند لهدم المسجد البابري في مدينة أيوديا التي كانت يذكر فيها اسم الله كثيراً قبل قرون وأجيال بأيدي القوميين الهندوسيين سنة 1992م، وهنالك بدت سوأة الهند أمام العالم، والأمر الذي يدعو للعجب والدهشة أن عصبة من أعضاء البرلمان الهندي قامت بإدلاء دلوها مع دلاء الآخرين الفاشيين وإسكاب الثنايا الغزيرة على مثل هذا الرجل المتطرف الديني زعيم داعش الهنادكة سانغ فروار sangh parivar.

الفاشية ميراث الظلم والفتن والتقطيع

كلما استقصينا عن الفاشية زادنا علما بأنها تتولد من العداوة الشديدة والمخالفة التامة على بعض الأديان وأهاليها، وأنها تورث ظلما كبيرا وفتنا شتى وتفريقا بين المواطنين، فقد يجري هنا دعايات سرية وجماعة متشددة تستهدف قمع الحقوق والقيم الإنسانية، وظلت المراكز العلمية منابر القتل والعنف والإكراه، وشوهدت السياسية فيها رمزاً للمشاجرات والمصارعات، وكيف لا وحكومة الهند تبدو لعبة في يد آر أس أس، يفعل بها كيف يشاء مع موكب من المنظمات الإرهابية مثل بجرنغدل وأبهنو بهارت.

ومما يفاقم خطورة الأوضاع في هذه الأيام دينياً وثقافياً، أن المدارس التي يرأسها سانغ فروار بدأت تكره طلبة العلم وتجبرهم على اعتناق عبادة الأقدام Feet worship أمام المعلمين حسب تقاليدها الهندوكية، رغم أن هؤلاء الطلبة ينتمون إلى أديان مختلفة وثقافات متميزة، وقد أصدرت التقارير أن مدرسة سي ان. ان CNN في ولاية كيرالا شهدت لهذه العملية البشعة منذ سنوات عديدة، حيث قامت لجنة الدراسة فيها بتكليف الأمر بالسجود أمام المعلمين على حين أن هذه العبادة تعتبر ذنباً لا يغتفر أبداً في كثير من الديانات السماوية القديسة، ولكن الأمر الذي يثير الجدل أنهم لا يفعلونه إلا مكرهين بالوحدانية، فارتكبها الطلبة على وجه إجباري غير راضين مرتضيين.

ولو سردنا جميع خطواتهم إلى الفاشية وما أورثت من الظلم والقتل والأزمات والنكبات لما أمكنا أن نعرفه بالضبط، خطا خطوة خطرة لتحريم لحم البقر قائلين بأنها إله يعبد حسب شرائع الهنادكة، وها هو ذا بين أيدينا ضحية هذا القانون، محمد أخلاق خان، شيخ مزمن فقد حياته ولقي حتفه من جراء ضربة الجماهير الجامحة التي اكتظت بها الشعب الهندي، وهذا أكبر خان من ولاية راجاستان الذي تعرض لقتل عنيف بضرب العصا والسوط حتى قيل إن الجماهير هم العدل والإنصاف والقانون والقضاء. والسبب الرئيسي لمقتل هؤلاء الفتيان ليس إلا التعصب الديني والوجهة التطرفية من قبل الأحزاب السياسية والجبهات الدينية ضد المسلمين الأقليين، وذلك أن أكبر خان لم يكن جزاراً للأبقار ولا مهرباً للأنعام إلا أنهم أدركوه بالشارع آخذا زمام البقر فاتهموه ووصموه أنه جزار مستغل للأبقار لا بد أن يقتل، هكذا قضى عليه ما يقضى على مثله من المسلمين الأبرياء، فالحق أنه كان قد اشتراها من قرية تسمى كولخانا Kolgana في ولاية هاريانا مع أنه مدين ليس معه قنطرة من الذهب والفضة، فالغرابة أن عوقب هذا الفتى بمثل ما يعاقب غيره من المتطرفين الأغوياء، ولم تكن جريمة قتل الجماهير منحصرة في شمال الهند فحسب، بل إنما هي عدوى مهلكة تأكل العامة والخاصة جميعاً حتى سمعت لها النداء من ولاية كيرلا جنوب الهند، وذلك أن رجلاً يسمى محمد أسلم وعمره ثلاثون ضرب ضرباً شديداً بأيادي الجماهير، حيث شنوا عليه الحملات انطلاقاً من الأوهام الواهية أنه كان مهربا للصغار ومؤذيا لهم.

وما نسينا ذكرى الأخ الحافظ جنيد وأسرته وكفيل خان وغيرهم ممن كانوا فريسة ظلمهم وقتلهم، حتى قبل يومين رأينا ما يجري في الولاية الأكثر سكانا في الهند أوتربراديش التي يرأسها يوغي ما خطط حزب بهارتيا جنتا للمستقبل من الدكتاتورية الشنيعة الخطيرة لدستور الهند، وذلك أن رجلا يسمى ببرجوي كانوجي قد حكم إلى السجن والاعتقال للتعليق المضحك على فيديو الذي نزله في تيتر متهما بأنه يهضم حرمة غيره وأنه يخالف دستور الهند، ولكن المحكمة العليا ذكرهم بأن الهند لها دستور تستقيم به، فقضيته لا وجه فيه للسجن والاعتقال.

منظمة المتطوعين الوطنيين

ثم إن هذه المكايد كلها تبدو نتائج بحث وقف عليها المؤامرات من قبل آر.اس .اس التي نسجت لحمها وسداها في التطرف الديني والتعصب القومي، راشتيريا سويم سيوكا سنك أي منظمة المتطوعين الوطنيين(RSS) أقوى منظمة في الهند، ويعود تأسيسها إلى عام 1925م، وأما أحد أبرز أهدافها فهو إقامة دولة هندية تسيطر عليها الغالبية الهندوسية، وهي في الواقع تشكل «حكومة ظل» منذ أن فاز ذراعها السياسي وهو حزب الشعب الهندي بالانتخابات العامة في 2014م،

ففي هذه الآونة المتحيرة التي لفظت العلمانية والديمقراطية أنفاسها الأخيرة والتي لا يزال يعد مؤسسوها منكرين على الدولة، علينا وعلى المجتمع أن يخالف الفاشية مخالفة فكرية سلمية ونحاربهم محاربة تامة، كما فعلنا في ولاية كيرالا في الانتخابات الماضية، وعلينا أن نخرج متشجعين معتصمين متحابين لإعادة مجدنا التليد وحماية دستورها القيم، وأن لا يحطمنا مودي وجنوده.