بقلم: صبغة الله الهدوي
الحنين إلى البيت، رغم الأشهر التي مضت علي وعلى روحي في مصر الحبيبة، أرض الكنانة، أم الدنيا ومنبع المنيا، لم يزل البيت يتحرك في خلدي، وفي ذاكرتي المغبرة، تلك الترع والآبار، تلك الحقول والمروج، تلك الأدغال والآكام، تلك الصرخات والضحكات، لقد أعدت وعيي المفقود، وتركت روحي تسري إلى قريتي وإلى بيتي وإخواني وأصدقائي، لم يزل الحنين يؤرقني ويكويني، وأنا أحترق في تلك الشعل المتقدة، وأكاد أنتحر من هموم وآلام أوجعتني وضربتني في الفينة والأخرى،لقد كنت فتى جليدا صبورا لا تزعجه ذكرى البيت والطفولة لكن قدوم رمضان قلب خاطري وخواطري، أحيى في ما كان مخفيا في أحضان صدري، بين رئتي ونحري، كأنه يحاسبني ويعاقبني، لا أستطيع أن أطوي ريح الفطائرالتي تعجن وتوضع في الأتون، في أنفي، روائح توحي إلي وحي الحنين والشوق، تلهفت وتعبت في دفن الذكريات، إنها جميلة، لكن فيها قوة لتضربني ضربة مبرحة، وأرى من بعد، أمي الحنون، التي توقظني وتصر علي أن آكل السحور، التي تعاتبني وتغضبني، التي تنصحني وترشدني، التي تعظني وتؤمني، أبي الأبي، صاحب القلب الفتي، رغم العضلات المتجعدة، رغم السجائر المتقدة، رغم التقاسيم المكسرة في وجهه الشامخ، يكتم في داخله قلب الحب الخالد، قلب الوداد الصافي، أختي الوحيدة التي أصبحت الآن أما لبنتها الجميلة، وأكاد أبعث من خبايا الزمان خواطري المكتومة، أقاسي آلاما، آلام الغربة، آلام الكربة، آلام الصحبة، لكن الغربة جميلة، في أحضانها قصص البطولة والمغاورات، في سجلها حكايات المغتربين الذين نجحوا في اختبارات الزمن، رغم ما كلفهم من الثمن، إنه الحياة، حياة الكادحين الناجحين، أنا أعيش بين أغاني إليسا وآيات القرآن، بين أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، بين واتس وفيس، بين ضحكات عارية وهموم نارية، بين قلوب جافية وأرواح صافية، بين أصوات تخرج من مدرجات العلوم الأزهرية، بين أشعار وقصائد أحفظها وأستحضرها وأنا مستلقي في سريري الفضفاض، بين زباد وكبدة وفراخ، بين حلويات وعصائر وسطى وكبرى، بين أقداح القهوة وأطباق الحلويات، بين صيحات وصخبات ترفع من الحارات والشوارع، بين صمت وسكون، بين آهات وويلات، وأنتشي وأنا أنظر إلى مئاذن الأزهر الشريف الملتصقة،وأستعلي وأستكبر كأني أزهري، لكن الحنين، هو وحده يكتسح أحلامي ويضرم نار آلامي، ويزيدني حرقة، حشرجات في الضمير، وسكرات حزن في جسم نحيف، فإن للغربة سكرات، فإن لها عبارات قاسية، وحسابات محدودة، فإن ذاكرة الحنين لكبيرة الحجم، تحفظ كل ما مرت بها، فإن الحنين لا تشفيه الأغاني ولا يطفيه ماء الأماني، إنه يبقى رغم تيارات السنين، رغم الرياح الهوجاء، والنوائب الشمطاء، والإعصارات النكراء، إنه الحنين يبقى في ذاكرة الذاكرين، ملونة في الحياة لوحة التفائل والأمل، كأنه رسام ماهر يقدر على مطالعة ضمائر السر، لقد ألم بي الحنين، لكنه حنين رمضاني، نكهته نكهة التين والزيتون، لا يزول شذاه من مناخري، ولا يمحي أثره من مسار قلبي، كأني أعدو على خطى الطفل الذي التقى بأمه بعد أن فرقه الزمان، في قاع قلبي آهات وأنات تبعت من الحزن المصقول، لا للتصنع فيه مجال، ولا للرياء فيه مقال، ففي مصر، كل يجري تحت الهدوء المنافق، حارات تحيرك، وأحوية تحيط بك، وشوارع ترعشك، وبيوت مهترئة، وشقق تكاد تنشق جدرانها لعراقة الزمن، عيون متسولة، وراحات متوسلة، أم تنام مع طفلها في جنب الشارع المزدحم، لا تأبه بنظرات المارين الكاذبة، ولا تصدق في جنيهات تطرح في كشكولها القديم، وأهرام شامخات تطل إلى التاريخ البعيد، وتنتظر جوابا من الفج العميق، في جنبها نياق تنتظر الزبائن، مساجد تكتظ بالمصلين المسرعين، تقاسيمهم عبارات الروايات المأساوية، فيهم من تخرج في كلية الهندسة والطب والعلوم الإسلامية، فيهم من يتقاضى راتبا شهريا ضخما، وفيهم من يفر من زحمة الحياة الصاخبة الصارخة، حياة أشبه بالرعد والبرق، لا توجد فيها سوى سحب لا تجود بالغيث ولا تلده…. في مصر كلها عجيبة.
لقد نسجت خواطري وذكرياتي من الزمن الغابر، وأنا في قيد الحنين مقيد، مكبل بالطفولة التي تمر بي آنا وآن، قلبي ملتهب بلهيب الشوق واللهفات الزاحفة، ووجهي بشاشته الحزن المكتوم، والهم والغموم، لا أستطيع ستر الأمواج التي تتلاطم في سواحل قلبي، كيف لي، وقد أصبح الدمع الشجي أكبر دليل على حالتي التعسة، على روحي البئيسة، وأنا لست وحيدا في هذه الميادين المحتربة، معي حمائم تغرد وترثي لي، معي عيش وخبز وموز وجوز ولوز، كلها حضرت في حفلة التأبين التي أقيمت لي، وأنا مبتدأ بلا خبر، وأنا ليل بلا قمر ولا سحر، وأنا يوم حار بلا مطر، وأنا صباح خال من بسمات الزهر، وأنا مساء عار من الشفق الأحمر،وأنا جبل قفرٌ حجري، وأنا بحر ثائرٌ قعري، تعبت وقد ناء بي الزمن بأثقاله، أسير في أوهام الحلم، كسير من تضاريس الفكر، حسير من انكسارات الدهر، مجنون القرن الواحد والعشرين، أم بهلوان بغداد البساتين، أنا مجذوب، لقد قتلني الحنين وأصابني سهمه المسدد، معي أصدقاء حرموا من رؤية بلدانهم بل أحرموا في كعبة العلوم ولا يتحللون إلا والشهادات الموثقة بين يديهم، أنساهم الزمن بلدهم المحبوب، وما بقي لهم سوى قلب منكوب، وحلم مقلوب، إنها قصة الأزاهرة…عبدة العلوم والحكم.
الغربة التي أنا على عهد بها لا يبديها قلم الإبداع، إلا إن انسكبت العينان من شدة الإدماع، الغربة، راحة لكنها مؤقتة، خافتة، وباهتة، لا أرى في أفق الخيال شمسا تعيد في روح الحياة ونفحة الكرامة، لقد زالت من الأفق سحب وعدتني بالغيث والصيب، وما بقي لديها سوى رذاذ يرش على الأعشاب، أيامي هنا، وعود مشوبة بالأماني الزائلة، والأشواق المائلة، سجين بين أنياب الآمال التي تضرب في ساحة فؤادي المجروح، لقد أصبح الزمن بيني وبين بلادي المحبوب حجابا لا أستطيع هدمه، حجاب من الحديد المزود بالكهرباء، لقد خلقت الأيام في عالمي ألوانا من العراقيل، بعضها صعبة متعبة وبعضها رائعة جميلة، كأن الأشهر قطعت جذوري العميقة، وقطفت أحلامي قبل أن يبدو صلاحها، وتعكرت مرآتي، تشظت زجاجتها الصافية وانكسرت، وما بقيت فيها سوى أشباح الظلام البهيم، روحي مبعثرة، تكاد تلتهم كل ما وجد في طريقها لتجمع شتاتها.
رمضان، ذلك الشهر الكريم، الذي يعيد للكون عفته وعلاءه، الذي يلهم لأهل الدنيا معاني الكرامة والشموخ، فيه آيات بينات، شهر التضحية والتفاني، لكنه بالنسبة إلي وحي الحنين، ومقام الأنين، في نفحته الطيبة تجليات تجعل الإنسان ملكا أو يجعله أفضل وأعلى منه، في حضنه قصص رائعة تصور للبشر أن الحياة معناها القيم والأخلاق، وأن الدنيا رغم سقوطها وهوانها لمزرعة خصبة تنبت فيك معاني الخير والإحسان، وأن الراحة إنما هي راحة القلب.
حين أجلس في رواق الأزهر الشريف، تحت المئاذن التي بعثت للدنيا أذان النهضة والبعث الروحي الخالد، لا سيما تحت القبتين التوأمتين التي لا أدري أيهما الصوت وأيهما الصدى، أشعر بفخامة التاريخ الذي مر من تحتها هادئا ووادعا، أروقة تفوح منها روائح العلم والعرفان، شيوخ تحلوا بزي الأزهر الشامخ، تنفجر من أفواهم معلومات جيدة وجديدة، علماء منعزلون من هالة الاحترامات والتبجيلات، علماء يعتكفون في محراب التعليم، لا يضنيهم تعب الزمان ولا تشقيهم قلة الأركان في المجالس، ولا يملهم عدم جودة مكبرات الصوت، وهم الذين شغلوا الدنيا الإسلامية بتحقيقاتهم الغضة، بجهودهم الفضة، بعباراتهم التي سجلت للأمة وحي الأمل، فيهم أرى شيخ الحقيقة عبد الحليم محمود، وفيهم أرى فارس الكلمات عبد الحميد كشك، وفيهم حارس التراث الإسلامي أبو محمود شاكر، وفيهم واعظ الأمة الشيخ محمد المتولي الشعرواي، وفيهم حامل لواء العزة خضر حسين، وفيهم أسمع رنات الزمن التي لم تزل تقرع الآذان بشدة، لشد ما توقتني تلك المشاعر إلى الماضي البعيد، آه يا زماني آه، وكلمات المغنية إليسا تحبس أنفاسي وتطفح كآسي وتهيج وسواسي وتسكر رأسي وتكوي بأسي، آه يا زماني آه.