بقلم: الهادي شعيب الهدوي
«الميزان الكبرى» لأبي المواهب الشعراني من أبرز مدونات الفقه المقارن بلا نزاع، ويعد هذا الكتاب من أمثل الكتب نظما وأنفعها تقريبا بين المذاهب الأربعة وأصحابها ومقلديها إلى يوم القيامة، وقد لعب هذا الكتاب دورا هاما في تهديم أركان العصبية وتنشيط الوفاق الاجتماعي في أقطار الأرض حتى قرر كتابا رسميا للتعليم في بعض الأماكن،
ويمتاز هذا الكتاب من خلال إنجابات الإمام الشعراني النيرة وتبرعاته النفيسة بشكل باد وأسلوب جذاب حيث إنه يعتبر خير شاهد لجودته ومهارته في مجال الفقه والعقيدة والتصوف وغيره.
تعريف الكتاب ودواعي تصنيفه
«الميزان الكبرى» للشعراني هي ميزان نفيسة عالية المقدار في مجال الفقه المقارن من حيث إنه يحاول فيها المصنف للجمع والمقارنة بين أقوال المجتهدين ومقلديهم والمناقشة في أدلتهم المتغايرة مع توجيه أقوالهم ممتزجا بالتوجيهات الفقهية والصوفية، وقد امتاز هذا الكتاب بمناهجه المرموقه وأساليبه الجذابة في تحليل المسائل وترجيحها وإبراز نظرية الميزان والتقريب بين المذاهب الأربعة.
وشد الإمام الشعراني مئزره لتصنيفه في الجو الذي استبدت فيه مخالب العصبية ومخاطرها، ولم يقم بتنويره إلا بعد ما عرضه أكابر أهل عصره من مشائخ الإسلام حيث يقول: «وصنفتها بإشارة أكابر أهل العصر من مشائخ الإسلام بعد أن عرضتها عليهم قبل إثباتها، وذكرت لهم أني لا أحب أن أثبتها إلا بعد أن ينظروا فيها فإن قبلوها أبقيتها وإن لم يرتضوها محوتها فإني بحمد الله أحب الوفاق وأكره الخلاف».
وكان من أعظم البواعث له على تأليف هذا الميزان فتح باب العمل بما تضمنه قوله تعلى : ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيب﴾ وثانيا المطابقة المقلدين في تقليدهم بين قولهم باللسان «إن سائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم» وبين اعتقادهم ذلك بجنانهم وثالثا إخراج من قال بهداية أئمة المسلمين جميعا بدون إذعان قلوبهم بذلك الذي هو من صفات النفاق الأصغر عند الشعراني.
ثم مست الحاجة إلى توضيح هذه الميزان لتيسير الطلبة ذوقها وفهمها قام بإيضاحها بعبارة أوسع في جميع أبواب الفقه حيث يقول: «ثم إني استخرت الله تعلى وأجبت إلى سؤالهم في إيضاح الميزان بهذا المؤلف الذي لا اعتقد أن أحدا سبقني إليه من أئمة الإسلام وسلكت فيه نهاية ما أعلم مسيس الحاجة إليه من البسط والإيضاح لمعانيها…… في سائر أبواب الفقه على مرتبتي الشريعة من تخفيف وتشديد، حتى لم يبق عندهم في الشريعة تناقض».
وقد اعتمد الإمام الشعراني لتأليف الميزان على المدونات العلمية المشهورة في جميع أنحاء العلوم الإسلامية مثل: الحديث والتفسير والفقه والعقيدة والأصول واللغة وما إليها، وتنقسم مصادره إلى ثلاثة أنواع، القسم الأول: المتون المشتهرة التي حفظها وعرضها على العلماء، والثاني: شروح متعددة تلقاها كبار العلماء مثل زكريا الأنصاري وشهاب الدين الرملى وشهاب الدين الحسامي وغيرهم، والثالث: ما طالعه بنفسه مع مراجعية العلماء الكبار.
فمن المتون التي حفظها: كتاب المنهاج للنووي وكتاب جمع الجوامع في أصول الفقه للسبكي وكتاب الروض لابن مقري وكتاب تلخيص المفتاح للقزويني وكتاب ألفية بن مالك في النحو وكتاب التوضيح لابن هشام وكتاب ألفية العراقي في علم الحديث وغيرها، ومن شروح التي قرأها قراءة بحث وتحقيق في الفقه كنز الراغبين للشيخ جلال الدين المحلي مع تصحيح قاضي عجلون وشرح الروض لزكريا الأنصاري وكتاب القوت للأذرعي وشرح المهذب للنووي، وفي التفسير تفسير البغوي وكشاف لزمخشري وتفسير البيضاوي وتفسير الواحدي والدر المنثور للسيوطي، وفي الحديث شرح مسلم للنووي وإكمال المعلم بفوائد مسلم لقاضي عياض وعارضة الأحوذي على شرح الترمذي لأبي بكر العربي المالكي، وفي النحو شروح ألفية بن مالك لابن أم قاسم وابن عقيل والمكودي والأشموني وغيرها من الشروحات.
ومن القسم الأخير ما لا يحصى عدده من كتب التفاسير والأحاديث والفقه والعقيدة والتصوف واللغة وغيرها وطالع أيضا فتاوى كبار العلماء مثل فتاوى الشيخ زكريا الأنصاري وفتاوى النووي وفتاوى ابن فركان وغير ذلك، وأما الكتب التي طالعها في التصوف فكثيرة حيث يقول نفسه: « طالعت من كتب التصوف ما لا أحصى له عددا كالقوت لأبي طالب المكي ورسالة للقشيري وإحياء للغزالي وعوارف المعارف للسهروردي وكتاب الفتوحات المكية وغيرها».
ومما يؤكد إحاطته بهذه المجالات العلمية ما تحدى في ميزانه «ومن شك في مطالعتي لها من الأقران فليأت بأي كتاب شاء من هذه الكتب ويقرأه عليّ، وأنا أحله له بغير مطالعة فإن الله تعلى على كل شيء قدير».
نظرية الميزان
لبيان أقوال المجتهدين ومقلديهم إلى يوم القيامة مكانة عظمى عند الشعراني حسب نظرية الميزان ، ولا شك في أنها نظرية رائقة في بيان اختلاف العلماء لم يسبق إليها إلا عدد قليل من العلماء، وبيان هذه النظرية متوقف على بيان مراتب الشريعة وأحوال المكلفين، وإن الشريعة قد جائت على مرتبتي التشديد والتخفيف، وكل واحد من المكلفين إما قويّ وإمّا ضعيف من حيث إيمانه أو جسمه في كل عصر وزمان، فالقوي لا بد له من أن يعمل بالتشديد والأخد بعزائم الشريعة حينما يعمل الضعيف بالتخفيف ورخص الشريعة، فلا يكون القوي مأمورا بالنزول إلى الرخصة كما لا يكون الضعيف مكلفا بالصعود إلى العزيمة عملا بالآية الكريمة وبالحديث النبوي، ويعد الشعراني نزول القوي إلى مرتبة الرخصة من التلاعب بالدين.
ثم الأمر المهم هنا أن المرتبتين المذكورتين على الترتيب الوجوبي لا على التخيير حتى لا يجوز لمن يقدر على استعمال الماء حسا أو شرعا النزول إلى التيمم بالتراب، وهكذا في سائر الواجبات، وكذلك لا تكلف نفس إلا ما يأتيها وتقدر أن تعملها، ويؤكد الشعراني بعد بيانه هذا إن الشريعة مطهرة سليمة من التناقض أصلا فإذا وجد قولان أو حديثان متنازعين يحملان على إحدى مرتبتي الشريعة .
ومن دعاويه المهمة أنه يجب على مقلد أن لا يعمل بالرخصة التي قررت في مذهبه إلا إن كان من أهلها بل يجب عليه العمل العزيمة التي قررت في غير مذهبه، ثم لا بد لفهم نظرية الميزان من أن تبين الرخصة والعزيمة والمصطلحات الأخرى المتعلقة بالفقه الإسلامي، وستأتي تفاصيله إن شاء الله.
ومن العلماء من أشار إلى هذه النظرية، ومنهم الشيخ محي الدين في الفتوحات المكية وبدر الدين الزركشي في آخر كتابه «القواعد» حيث يقول: «إن الأخذ بالرخص والعزائم في محل كل منهما مطلوب، فإذا قصد المكلف بفعل الرخصة قبول فضل الله عليه كان أفضل كما أشار إليه حديث- إن الله يحب أن تأتى رخصه كما يحب أن تأتى عزائمه.
ومن العلماء الذين كانوا يفتون بالمذاهب الأربعة حسب أحوال الناس ومراتبهم الشيخ عبد العزيز الديريني والشيخ شهاب الدين البرلسي الشهير بابن الأقطع وشيخ الإسلام عز الدين بن جماعة المقدسي والشيخ العلامة علي النبتيني الضرير وغيرهم من فحول العلماء.
وهناك فوائد جليلة عديدة في فهم هذه الميزان لأنها تخلص المسائل والأدلة من التناقض والتنازع بحملها على إحدى مرتبتي الشريعة، وهي أيضا أقرب الطرق إلى التقريب بين المذاهب الأربعة الذي له أهمية عظمى بين أصحاب التقليد والتمذهب، ومن الفوائد التي تورثها هذه الميزان ما يلي: الأول: تصحيح الاعتقاد في أن سائر الأئمة المسلمين مع الأئمة الأربعة على هدى من ربهم ظاهرا وباطنا، والثاني: التعامل بالأئمة مع أدب كامل واحترام تام، والثالث: طرو السكينة الطمأنينة في قلوب من عرفها عندما يواجه الاختلافات، والرابع: إزالة التحير الذي يقع في تحليل المسائل المختلفة، والخامس: وضوح نظرية تيسير الدين التي نطقت بها الكتاب والسنة، والسادس: يمكن استخدامها في حل القضايا المعاصرة والمسائل المستجدات، والسابع: تبعيد العصبية عن قلوب قراء الكتب المذهبية وغيرها من فوائد عديدة.
ومن الجدير بالذكر هنا شمولية مقدمة الميزان بالقضايا المتعلّقة بالاجتهاد والتقليد والمذاهب وكيفية تفرّعها من عين الشريعة واتصال أقوال العلماء بعضها على البعض ومراتب المقلدين ومخاطر المتعصبين في المذهب.
وقد بين فيها مواقفه الرئيسية بعبارات سهلة وأسلوب رائق مع أمثلة جاذبة للنفوس والأذهان، وليست هذه قصيرة مثل سائر المقدمات بل طويلة جامعة لموضوعات شتى، ويطول حجمها إلى أربع مئات صفحة، وقد أورد فيها فصول خاصة لبحث آثار الأئمة الأربعة وما روي عنهم في ذم الرأي والتبري عنه.
ومن الأمر المهم أنه بين فيه اتصال أقوال الأئمة بعين الشريعة المطهرة بتصوير الشجرة والجبل والميزان باستخدام منهج ممتاز حيث يقول: «وقدمت على ذلك عدة فصول نافعة هي كالشرح لما أشكل من ألفاظها عليهم، أو كالدهليز الذي يتوصل منه إلى صدر الدار، وبعضها مشتمل على ذكر أمثلة محسوسة تقرب إلى العقل كيفية تفريع جميع المذاهب من عين الشريعة الكبرى، وكيفية اتصال أقوال آخر أدوار المقلدين بأول أدوارهم…».
الردود والاعتراضات
ومن المعاصرين من شددوا الإنكار على ما في الميزان من نظرية ميزاني الشريعة والأسرار الكشفية وما إليها، ولكن الاتهامات والاعتراضات بالنسبة للشعراني ليست بأمر جديد لأنه قد واجه التحديات والأزمات من معاصريه عبر حياته الطويلة، والاعتراضات التي رفعت من عصر الحديث ما تلى:
يقول الحبيب قاسم قاهر من ملتقى أهل الحديث : «هو كتاب فقهي يجمع بين أقوال العلماء ….غير أنه لا يتبع الأدلة ولا ينصف المسائل في كثير من الأحيان… ولا يقوم بالترجيح، فإذا حار في مسئلة قال : وذلك يرجع إلى ميزاني الشريعة».
ويقوم أبو سليمان بإظهار رأيه عنها حيث يقول: « هذا كتاب ضلالة….وهذه بدعة لم يسبق إليها أحد، فكل مذهب يرى أنه على الصواب…والشعراني هو موغل في التصوف والضلال وكتبه طافحة بالردع والانحرافات».
وقد تنكرت عليه أم خير حيث يقول: «الكتاب به أخطاء فقهية قبيحة، وإن كان متميزا في فكرته لكنها فكرة مبتدعة لم يسبق إليها أحد»، ومن المعاصرين أيضا من نظروا إليها بعين العدل والإنصاف وأظهروا آرآءائهم بدون نكير مثل أحمد قيس حيث يقول: « كتاب لا بأس به وإن كان عليه لي ملاحظات عدة لكنه خطوة جديدة في التجدد» ، ومثل معاذ عبد الله حيث يقول: « هذا الكتاب مقتبس من كتاب «الإفصاح عن معاني الصحاح» للوزير بن هبيرة، ومثل حمزة الكتاني حيث يقول: « وشبيه بهذا الكتاب من حيث الفكرة لا المضمون « كتاب سنن المهتدين في مقامات الدين لآخر علماء غرناطة أبي عبد الله محمد بن يوسف المواق»، ولا ينسى جم غفير من المعاصرين أشادوا بذكرها ومدحوها إذعانا لفكرتها الممتازة.