بقلم: سي. أتش. فائز الهدوي مدنور
لقد تطوّرت في هذا العالم فلسفات عديدة اعتنق الإسلام بعضها وترك غيرها، ومن أهمّها الكلام وما يتعلق به كدقيق الكلام وجليله ، فههنا ينحصر البحث على دقيق الكلام فقط مع بيان نقط مهمّة من جليل الكلام أيضاً، فالباحث ههنا يركّز علي مقالة «محمد باسل الطائي» في دقيق الكلام ونظرياته في علم الطبيعة، ولا يخلو هذا البحث عن المناقشات حول تطوّر علم الكلام وتجديداته والأبحاث المتجددة في العصر الراهن، وهذه القراءة ضمنية مع أنها لا تخلو عن النقد اليسير.
كان دقيق الكلام وجليله من أهمّ ما يبحث عنه في علم الكلام، ولكن في العصر الراهن استخفّت هذه الأهمّية وغلبت عليها نظريات علم الطبيعة، وهذه النظريات أيضاً ترجع إلى المرصد الرئيسيّ من دقيق الكلام في الإسلام، ومن أبرز من قام بهذه العمليّات المتكلّمون بخلاف الفلاسفة فإنّهم قد عكّسوا المصدر الرئيسي من الخالق إلى المخلوق.
أصالة «الكلام»
الكلام في اللغة بمعني المكالمة أو تواصل الألفاظ، والكلام في الإسلام بمعني المناقشة، وعند الفلاسفة هو بمعنى مجموع النظريات والقوانين والمشكلات الذي تستخدم لبيان العلاقة بين الباري والعالم على منوال المصادر الإسلاميّة.
والكلام ينقسم إلى قسمين: الأوّل جليل الكلام (هذا ينوط بالمسائل المتعلّقة بالصفات الإلاهية وبعث الأموات وغيرها) والثاني: دقيق الكلام (وهو يتعلق بعلم الطبيعة والمسائل المرتبطة بحدوث العالم وقدمه ومعنى السببيّة، وهذا لا يخلو عن البحث حول الزمان والمكان والحركة والقوّة وما يتعلّق بها من المادّيات)، ويحسن استعمال «لان باربور»(Lan Barbour) حيث يستخدم كلمتي كلام الطبيعي(Natural theology) وكلام الطبيعة (Theology of nature)لعبارته عن جليل الكلام ودقيقه علي الترتيب، ويؤكد الدكتور هذا الموضوع لأنّه من أسرع ما يفوت من أفواه الفلاسفة المسلمين وأنّ هذا ليعتضد بالنظريات المعاصرة للعلم الحالي، وصاحب هذا الكلام هو المسمّى بالمتكلم، وكان «وليم كريك» (William craig) من المعاصرين اللذين قاموا بتطوير هذا الكلام بمنهجه الجديد.
الأسباب لتطوّر الكلام
تنقسم أسبابه إلي قسمين:-
- السبب الداخلي:- البحث بين المتكلّمين في معصية المسلم هل هو كافر أو فاسق.
- السبب الخارجي:- لما تواجه العالم الإسلامي لعديد من الثقافات والمماليك حتى في عهد المماليك الإسلامية تعرّضوا لمواجهة مشكلات مختلفة تنوط بعقائدهم، وهذه المواجهة هي «المكالمة بين الثقافات» (Dialogues) لا المجادلة بين الثقافات كما عبّر بها «سامول هندغتن» (Samuel Hundington)، ولكن العصر الحديث صرّحها بعبارة سامول.
المدارس الأساسية في علم الكلام
وقد شهد العالم الإسلامي لفرق عديدة، ومن أهمّها المعتزلة اللتى أسسها واصل بن عطاء، ومن أهمّها عمرو بن عبيد وأبو الهذيل الألّاف وإبراهيم الناظم والجاحظ، وبعضهم حفظوا كتبهم وأوراقهم إلى أن وصلت إلينا كالإمام أبو الحسين الخيّاط وأبي القاسم البلخي المعروف بالكعبي وأبى عليّ الجبّائي وابنه أبي هاشم.
وثانيها الأشعريّة اللتى أسسها أبو الحسن الأشعري بعد مائتي سنة من تأسيس المعتزلة، ومن أهمّها أبو بكر الباقلّاني وأبو المعالي الجويني، وكان الإمام الغزالي أبرز ممّن استخدم الكلام وقام بتجديده وساهم فيه بتصنيفاته العديدة إلى أن توفّي سنة 1111م، وبعد القرنين، قام عضد الدين الإيجي بتحديد علم الكلام لما أنه هو المعروف بآخر المتكلمين الكلاسيكيين حتي أنه تفحص في دقيق الكلام عن الموضوعات الأساسية المنوطة بعلم الطبيعة من الوقت والمادة والقوة والحرارة واللون والريح وغيرها.
الفرق بين الفلسفة والكلام
إنّ المتكلمين والفلاسفة هم على طرفين مختلفين وليس الكلام هو الفلسفة ولا عكس لما يرد من التعارض في موارد استنباط الدلائل، وهذه الفلسفة تشتمل على فلسفة اليونان أيضاً، وأما مصدر المتكلمين هو القرآن فقط لأنهم يستنبطون الأحكام من القرآن بالأهم ثم يبنون البواقي من الأحكام على منواله،فالقرآن أساس أهل الكلام والعقل إنما يحصل به إدراك الماديات، فالمتكلمون يخيّلون هذا العالم بمدد القرآن على قدر عقولهم ولكن الفلاسفة يعظمون العقل على القرآن وتجعل البواقي على منواله حتّى إنهم يدركون وجود الإلاه بوجود هذا العالم.
ولكن «باسل» يشدّد النقد على بعض الفلاسفة المسلمين كالكندي، والفارابي وابن سينا في مغامرتهم لمزج الفلسفة اليونانيّة بالإسلاميّة حتي أنّ الإمام الغزالي قام بتأليف «تهافت الفلاسفة» وقام عليه ابن رشد بتأليف كتابه المسمّى «تهافت التهافت» حتى أنّ ابن رشد أردف قائلاً بأنّ المزج بالفلسفة اليونانية محتمل بتأويل المصادر القرآنيّة مرّة تلو مرّة، ويقول «باسل» بأنّ وجود مدرسة جديدة تحت الإمام ابن تيميّة لا يدلّ على خفّة مدرسة العقلاء ولا الفلاسفة الحديثة، وبعض من العلماء المتكلمين أيضاً تقلّدوا بنظريات الفلاسفة في إثبات وجود الله مع أنهم بالحقيقة قد مالوا إلى الإعتزال.
النظريات المهمّة في دقيق الكلام
- المتكلّمون يقولون العالم ليس بقديم بل هو حادث مخلوق في وقت معيّن، ولم يبق شيء قبل وجوده من الزمان والمكان، وبعضهم اعتقدوا بأنه مخلوق من مادّة مخصوصة، وفي الحقيقة أنّه مخلوق من العدم، وكلّ ما يتركّب منه العالم فهو أيضاً حادث.
- المتكلّمون صرّحوا بأنّ العالم وما فيه مركّب من موادّ كثيرة محصورة مسمّات بالجواهر وهي الأجزاء التي لا تتجزّأ، وهذه الأجزاء لا توجد إلّا بوجود صفة مخصوصة هي «العرضيّة»، وهذه الصفة لا تقبل التغير، وهذه التركيبات أيضاً تطّرد في الحركة والزمان والمكان وكل ما يتعلّق بالعالم المادّي، والجوهرالذي يقوله الإسلام ليس بجوهرالذي أشاره اليونان، وفي الإسلام هو مركّب من مادّتين ومحصور بخلاف اليونان، عندهم أنّه فرد لا مركّب وغير محصور فى مادّة مخصوصة.
- الخلق المتتابع للعالم المتغيّر: كما سبق بأنه تعالي هو المدبّر والخالق لهذا العالم وأنّه يبعث هذا العالم في كل حين مرّة تلو مرّة، وهذا البعث هو بعث الأعراض لا الجواهر، ولكن لماّ استحيل استقلالها تسرّب ذلك إلى الخلق جميعاً (الجوهر لا يترجم في الإنجليزيّة إلى Substance مع أنّه لا يعني به الجوهر في الإسلام).
- العالم غير محدّد بالقطعيّة: الشخص الذي يدبّر هذا العالم هو الله لا غيره، وله القصد التام بتدبير هذا العالم، فيدلّ هذا التدبير على عجز سائر الأمور في القطعيّة، فكلّ ما هو موجود في الطبيعة قابل للاحتمال لا القطع، ولذلك قامت لمتكلّمون بإثبات العالم على عدم القطع فيه، وهذه النظرية أنكرت نظريّة السببية الفطرية التى تقول أنّ الطبعيّة لا تقبل أيّة إرادة.
- استقامة الزمان والمكان: وكان من عقائد المتكلمين أنهم عبّروا بأنّ المكان ليس له أيّ معنى بذاته، ولا يشعره إلّا بوجود بدن فيه، وكذلك الوقت والزمان بأنّه لا يحسّهما إلا بوجود حركة فيهما مع أنّ هذه الحركة أيضاً تحتاج إلى بدن آخر، فيدلّ هذا الاجتماع على عدم تفرّد واحد منهما عن الآخر، وهذه النظريّة هي التي قامت بها نظرية النسبيّة (theory of reality)وما قبلها هي من نظريّة ميكانكا الكمّ (Quantum mechanics).
النظريات المهمّة في العلم المعاصر
النظريتان المهمتان في العلم الحالي هما نظريّة النسبيّة ونظريّة مكانيكا الكم المتعلّقان بالزمان والاحتماليّة، ويقول «باسل» بأنّ هذه النظريات لتحتاج إلى تجديدها حسب نظريّة دقيق الكلام ولكنّ المسلمين لم ينتهضوا لذلك حتى أنهم يأتون بأحكام وقوانين عدّة لا توجد لها أيّة نتيجة، ويضمّ أيضاً بقوله بأنّ للعالم أحكام طبعيّ وهذه الأحكام تجري على قانون مخصوصة.
فبالجملة، يأتي الدكتور بالأجوبة الصحيحة لهذه المشكلات ويقول إنّ هذه النظريات الطبعية لتؤتي بها إلى تطبيق جديد من تجديد هاتين النظريتين، ويعبّر أيضاً بأنّ علم الطبيعة إنّما يتعلّق بالمادّيات لا الإلاهيّات، وإنكار الإلاه حسب القوانين الحسابيّة سهل ليس بمعضل، ولكن هذه الأمور تتعلّق بالإلاهيّات التي تتعلّق بكل ّ ذات.
فالعالم، حسب دقيق الكلام يأتي بالنظريات المنوطة بالعلم الحالي حتى لا يتأتى للعلم المعاصر إنكار أيّة عقيدة إسلاميّة، ومع ذلك أنّ دقيق الكلام ليؤتي بشكل جديد ونمت صحيح للبحث عن المشكلات في العصر الراهن، وهذا يسهل للإنسانيّة العلم بالله، وعلاقة العالم والخلق بالربّ تعالى.
دقيق الكلام وجليله من الأبحاث المهمّة في علم الكلام، ومحمد باسل يحاول بدقيق الكلام فقط لما فيه من الغوامض المتعلّقة بالربّ والعالم والطبيعة، وهذا الكلام يتعلّق أيضاً بالعلم المعاصر لما هو آلة مهمّة في نفي النظريات الطبيعيّة، ولكنّه إنّما يسهل إذا أعطي لدقيق الكلام شكل جديد ينوط بالعلم الحاليّ.