عبر التاريخ تبلورت مجموعة من القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية والانسانية، التي شكلت معلما بارزا في حياة الصفوة وعامة الناس، والتي تدعو إلى التسامح والمحبة والعدالة والرحمة والرأفة والإصلاح وإغاثة الملهوف واحترام المسنين واحترام المرأة والعناية بالأولاد، ورفض الظلم، والصبر، والكرم، والصدق، والقناعة، والكثير من القيم الانسانية التي شكلت وجدان الأمة العربية. ولا عجب ان نري لهذه القيم الاخلاقية الجانب المتسع في التراث الأدبي العربي، خاصة بعد الأهمية التي أولاها الإسلام لها، وجعل منها ما يستطيع به الإنسان أن يتعالى على حدود جهالته، وجعله يسعي ليكون فرد في بناء مجتمع متكامل أخلاقياً. وفي هذه المقالات نحاول قدر المستطاع أن نلم في ايجاز ببعض هذه القيم الأخلاقية.
العلم: إِدراك الشيء بحقيقته، عكسه الجهل. وكلمة العلم: مشتقة من الفعل عَلِمَ (أدركَ)، قال علماء اللغة أن العلْمُ هو الدلالة والإشارة والعلامة، والعلم يأتي بمعنى الشعور ويأتي بمعنى الأثر الذي يستدل به، فهو الحقيقة والنور. كما قال عنه الفيروز آبادي بأنه هو حق المعرفة، فالمعرفة تختلف عن العلم كونها تهتم بموضوع ما بشكل عام، وأمّا العلم فيهتم بالموضوع بجوهره ومضمونه والإحاطة به من كل الجوانب. والعلم هو رديف المعرفة، وهو مرادف لليقين الذي هو عكس الشك.
وفي التراث الأدبي العربي دون الكثير مما يدور حول العلم مما يجمل بأبناء هذا العصر دراسته واستقراءه ففيه من الفوائد ما يعود على القارئ بالنفع سواء من حيث الاعتبار، أو من حيث معرفة فكر أجدادنا وتحرك المعلومات في محيطهم.
وفي هذا المقال لن نحاول أن نستقصي كل ما يتعلق بالعلم استقصاء العالم الباحث ولكننا سنستقصي أقوال وأشعار العرب في تراثهم الأدبي عن العلم
بداية القول: “يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، والله بما تعملون خبير” (المجادلة: 11)
،: “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولوا الألباب” (الزمر: 9)
،: “وقل ربي زدني علما” (طه: 114)
،: “وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً” (الإسراء: 85)
وقول الرسول صلي الله عليه وسلم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” (رواه ابن ماجه / 224 )
،: “العلماء ورثة الأنبياء” (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان ضمن حديث طويل، ورواه الألباني، في صحيح الجامع، عن أبي الدرداء، الرقم: 6297)
،: “يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء” (جامع بيان العلم لابن عبد البر 1/36، الدر المنثور للسيوطي 3/72)
،: “من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً على الجنة” (رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء مرفوعا، وجاء في شرح الزرقاني على كتاب موطأ الإمام مالك كتاب العلم 59 ص 683)
،: “إذا مات ابن آدم انقطع عنه عمله إلاَّ من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” (رواه مسلم عن أبي هريرة).
وقال عمر بن الخطاب: تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والحلم.
ورأس العلم وشرفه تعلم القران ولهذا روي عن الشافعي قوله: من تعلم القران عظمت قيمته، ومن تعلم الفقه نبل مقداره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن تعلم اللغة رق طبعه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
وقالت العرب: العلم يرفع الوضيع، مثلما أن الجهل يضع الرفيع.
وقالت: لا حسب كالتواضع، ولا شرف كالعلم
وقالت: العلم شرف من لا قدر له، والأدب مال لا خوف عليه.
وقالت: عِلم الإنسان ولده المخلد
وقالت: العلم والأدب كنزان لا ينفذان
وقالت: خير العلم ما حُوضر به
وقالت: رأسمالك علمك، وعدوك جهلك
وقالت: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، والعلم في الكبر كالعلامة على المدر (المدر: الطين)
وقالت: إن مثل العالم في البد كمثل عين عذبة في البلد
وقالت: كل شيء يرخص إذا كثر إلاَّ العلم، فإنه إذا كثر غلا
وقال مصعب بن الزبير لابنه: تعلم العلم، فإن يكن لك مال كان لك جمالاً، وإن لم يكن لك مال كان لك مالاً.
وقال عبدالملك بن مروان لبنيه: يا بني، تعلموا العلم فإن كنتم سادة فُقتم، وإن كنتم وسطاً سدتم، وإن كنتم سوقه عشتم.
وقال الجاحظ: العلم بحر واسع لا يرى شاطئه، ولا يبلغ مداه، والمرء يعرف منه بقدر جهده، وما حباه الله من قدرة على الفهم والإدراك.
وقال السيوطي: العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجدَّ فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب.
وقال الأصمعي: أول العلم الصمت، والثاني الاستماع، والثالث الحفظ، والرابع العمل، والخامس النشر.
وﺳُﺌِﻞ ﺃﺑﻮ ﺣﻨﻴﻔﺔ: ﺑﻢَ ﺣﺼﻠﺖ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ؟ ﻓﻘﺎﻝ: ما ﺑﺨﻠﺖ ﺑﺎﻹﻓﺎﺩة، ﻭﻻ ﺍﺳْﺘَﻨﻜﻔﺖُ ﻋﻦ ﺍﻻﺳﺘﻔﺎﺩﺓ
وقال بديع الزمان الهمذاني: طلبت العلم فوجدته صعب المراد، لا يصاد بالأزلام، ولا يورث عن الخوال والعمام، فاستعنت عليه بطول السهر، وإعمال الفكر، وافتراش المدر (الطين) حتى لانت لي قناته.
وقال الشاعر:
العلم يرفع بيتاً لا عماد له والجهل يهدم بيت العز والشرف
وقال الشاعر:
تعلم العلم فتي صغيراً تصير ما بين الورى كبيرا
وقال المعري:
العلم كالقفل، إن ألفيته عسراً فخله، ثم عاوده لينفتحا.
وقال الشاعر:
العلم يجلُو العمى عن قلب صاحبِه كما يُجلِّي سواد الظُّلمة القمر
وليسَ ذو العلمِ بالتَّقوى كجاهِلها ولا البَصيرُ كأعمى ما له بصر!
العلم فيه حياةٌ للقلُوبِ كمَا تحيا البلادُ إذَا ما مَسَّها المطَرُ
وقال الأبيوردي:
وخير سلاح المرء علم يصونه إذا ضاقت الأسباب بعد الهزائم
وقال الشاعر:
حياكم اللهُ أَحيوا العلم والأَدبا إن تنشروا العلم ينشر فيكم العرَبا
وقال الزمخشري:
سهري لتنقيح العلومِ ألذُّ لي مِن وصلِ غانِيةٍ وطيبِ عناقِ
وتَمايُلي طرَباً لحلِّ عويصةٍ أشهَى وأحلى من مُدامِة ساقِي
وصريرُ أقلامِي على أورَاقِهَا أحلى من الدُّكاءِ والعشَّاقِ
وألذَّ من نقرِ الفتاةِ لدُفِّهَا نقرِي لأُلقِي الرملَ عن أورَاقِي
وقال ابن فارس:
إذا كنتَ تُؤذى بحرِّ المصيفِ ويُبسِ الخريفِ وبَردِ الشِّتا
ويُلهِيك حُسنُ زمانِ الرَّبيعِ فأخذُك للعلمِ قُل لي مَتى؟
وقال عمر بن الوردي:
كن عالماً في الناس لو متعلماً أو سامعاً فالعلم ثوب فخار
من كل فن خذ ولا تجهل به فالحر مطلع على الأسرار
وقال الشاعر:
يعد رفيع القوم من كان عالماً وإن لم يكن في قومه بحسيب
وإن حل أرضاً عاش فيها بعلمه وما عالم في بلدة بغريب
وقال دعبل الخزاعي:
العلم ينهض بالخسيس إلى العلى والجهل يقعد بالفتي المنسوب
وإذا الفتى نال العلوم بفهمه وأعينَ بالتشذيب والتهذيب
جرت الأمور له فبرز سابقاً في كل محضرٍ مشهدٍ ومغيب
وقال الشاعر:
لا تدخر غير العلو م فإنها نعم الذخائر
فالمرء لو ربح البقا ء مع الجهالة كان خاسر
وقال عبد الملك بن إدريس الجزيري:
واعلم بأن العلم ارفع رتبة وأجل مكتسب وأسني مفخر
وبضمر الأقلام يبلغ أهلها ما ليس يبلغ بالجياد الضمرِ
والعلم ليس بنافع أربابه ما لم يغد عملاً وحسن تبصر
وقال الشاعر:
العلم يحي قلوب الميتين كما تحيا البلاد إذا ما مسها المطر
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه كما يجلي سواد الظلمة القمر
وقال ابن سينا:
هذب النفس بالعلوم لترقى وذر الكل فهي للكل بيت
إنما النفس كالزجاجة والعلم سراج وحكمة الله زيت
فإذا أشرقت فإنك حي وإذا أظلمت فإنك ميت
وقال ابن الوردي:
اطلب العلم ولا تكسل فما أبعد الخير على أهل الكسل
واهجر النوم وحصله فمن يعرف المطلوب يحقر ما بذل
لا تقل قد ذهبت أربابه كل من سار على الدرب وصل
في ازدياد العلم إرغام العدا وجمال العلم إصلاح العمل
وقال أحمد شوقي:
بالعلم ساد الناس فس عصرهم واخترقوا اليبع الطباق الشداد
أيطلب المجد ويبغي العلا قوم لسوق العلم فيهم كساد
ما أصعب الفعل لمن رامه وأسهل القول على من أراد
وقال:
ترك النفوس بلا علم ولا أدب ترك المريض بلا طب ولا آس
وقال مصطفي صادق الرافعي:
إن المعارف للمعاني سُلم وأولو المعارف يجهدون لينعموا
والعلم زينه أهله بين الورى سيان فيه أخو الغني والمعدم
فالشمس تطلع في نهار مشرق والبدر لا يخفيه ليل مُظلم
وأخو العلا يسعى فيدرك ما ابتغي وسواه في أيامه يتظلم
والخاملون إذا غدون تلومهم حسبوك في أسماعهم تترنم
في الناس أحياء كأموات الوغى وخز الأسنة فيهم لا يؤلم.
وقال معروف الرصافي:
فكل بلاد جادها العلم أمرعت رباها وصارت تنبت العز والعشبا
وقال:
أيها الناس إن ذا العصر عصر الـ ـعلم والجد في العلى والجهاد
إن للعلم في الممالك سيراً مثل سير الضياء في الأبعاد
ما استفاد الفتى وإن ملك الأر ض بأعلى من علمه المستفاد
وختاماً:
– دخل بعض أصحاب البيروني وهو يجود بنفسه، فقال له: كيف قلت لي يوما: حساب الجدات في الإرث؟، فقال: أفي هذه الحال؟، قال: يا هذا، أودع الدنيا وأنا عالم بها، خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها؟ فذكرها له، وخرج. فسمع الصراخ عليه، وهو في الطريق.
– قال شقيق البلخي: كنت أحضر مع أبي يوسف القاضي مجلس أبي حنيفة، وبعد الفراغ من التحصيل افترقت عنه مدة ليست بالقصيرة، ولما قدمت بغداد رأيت أبا يوسف جالساً في مجلس الفتوى والقضاء، والناس مجتمعون حوله، فلما أبصرني عرفني، وقال لي: أيها الشيخ! ما الذي حملك على تغيير زيك؟ (حيث كنت لابساً السواد).فقلت له: ما كنت تتوقع من طلب العلم قد نلته – الرياسة والمال والجاه ـ ومقصودي من طلب العلم ـ المعرفة ـ لم أنله، فلبست السواد، وإذا أردت أن تعرف الرجل فانظر إلى ما وعده الله ووعده الناس، بأيهما يكون قلبه أوثق.