“لقد كنت دائمًا مسكونًا بالحرب، التي عشتها صغيرًا في الجزائر، وفقدت فيها بعضًا من أهلي ومعارفي، ولكن ليس الاهتمام بالحرب في بشاعتها أو ماذا دار فيها، بل أهتم بحيوات النّاس العاديين في الحرب، كيف يعيشون وكيف يفكّرون، حيوات الضّحايا المفترضين للحرب، الذين نجوا منها. بالمقابل، أشعر بحزن دفين كوننا تأخّرنا في الكتابة وفي الوصول إلى هذه المنطقة، المكتظّة بتاريخ متفجّر لا يختلف عن تاريخنا. فبالتّقدّم في الكتابة، كنت أتوقّف، كعداء يسترجع أنفاسه، أحيانًا وأنا تحت مفاجأة التّشابهات الكبيرة في التّاريخ السوسيو– ثقافي بين البوسنة والهرسك والجزائر”.
سعيد خطيبي روائي جزائري من مواليد 1984، درس في الجزائر وفرنسا. حصل على ليسانس في الأدب الفرنسي من الجامعة الجزائرية، وماجستير في الدراسات الثقافية من جامعة السوربون، يعمل في الصحافة منذ 2006 ويقيم في سلوفينيا، سبق له أن أصدر: “مدار الغياب” (ترجمة لقصص جزائرية باللغة الفرنسية، 2009)، “كتاب الخطايا” (رواية، 2013)، “جنائن الشرق الملتهبة” (كتاب رحلات في دول البلقان، 2015)، “أربعون عاما في انتظار إيزابيل” (رواية، 2016)، و”حطب سراييفو” (رواية، 2018). عمل في جريدة الجزائر نيوز حيث ساهم لمدة سنتين في تحرير الملحق الثقافي “الأثر” ثم انتقل إلى جريدة الخبر،يكتب باللغتين العربية والفرنسية، وعام 2012 حصل على جائزة الصحافة العربية، اشتهر خصوصا بتغطية مناطق النزاعات في أفريقيا وأوروبا الشرقية.
من الجزائر التي عُرفت بأنها «بلد المليون شهيد» إلى البلقان التي يبدو أنها تشابهت معها في عددٍ من المآسي والحكايات والمصائر، يأخذنا الروائي الشاب سعيد خطيبي في رحلة قاسية بين الواقعية والخيال المجنّح، ويعود زمن الشروع بكتابتها إلى عام 2013، حينما عثر الكاتب على أسماء بعض الجزائريين الذين قضوا نحْبَهم في حرب البوسنة والهرسك في متحف خاص بسراييفو، لكن الرواية لا تتمحور حول حرب البوسنة والهرسك، أو الحرب الأهلية الجزائرية، وإنما تتخذ منهما خلفية للأحداث والشخصيات الكثيرة التي يحتشد بها هذا النص السردي المُحكم في بنيته المعمارية.
إنها، باختصار ، رواية الناجين من الحروب والصراعات العرقية والدينية في يوغسلافيا سابقاً و«سنوات الجمر» التي نشبت في التسعينات من القرن الماضي إبّان هيمنة المدّ الديني المتطرّف في الجزائر.
لمعات حول أشخاص القصة
يمهّد سعيد خطيبي للشخصيتين الرئيستين في روايته قبل أن يشرع في الفصل الأول منها، فيعرِّفنا على سليم، الصحافي الذي يعمل في صحيفة «الحرّ»، ويُكلّف من قبل رئيس التحرير بالذهاب إلى قرية سيدي لبقع، لتغطية حادث إرهابي راح ضحيته 30 شخصاً ذُبحوا من الوريد إلى الوريد، كما نتعرّف على مليكة، مدرّسة اللغة الإنجليزية التي بلغت عقدها الثالث، وأحبّت «سليماً» من دون أن تطلب منه الزواج، وقد تلقّت تهديداً من «نواطير الأرواح»، لكنها لم تعتبر هذا التهديد أي اهتمام.
أما التمهيد لإيفانا فينطلق من علاقتها بغوران، الشاب الذي هجرها، وسافر إلى فرانكفورت، قبل أن تُعرّفنا بأفراد أسرتها المكوّنة من والدها أنتون، وأمها سلافينكا، وشقيقتها آنا التي فشل الأطباء في علاج مرضها العقلي، إضافة إلى شقيقها ساشا الذي هاجر هو الآخر إلى ليوبليانا بحثاً عن حياة آمنة كريمة. تحمل إيفانا في حقيبتها مخطوطة مسرحيتها التي تباطأت في إكمالها رغم أنها كانت تستعين ببوريس، الكاتب والصحافي المعروف الذي يساعدها في ترجمة المسرحية إلى الإنجليزية مقابل أن تمنحه متعة عابرة.
الأحداث تدور حول الهويات المتشظية
تتكشّف لنا أحداث الأسرتين معاً لنعرف بأنّ الرواية تدور حول الهُويات المتشظيّة لمعظم شخصيات الرواية التي تمتدّ من سليم إلى أبويه، ومن إيفانا إلى أسرتها التي نجت من الحرب البوسنية، لكنها لم تسلم من تداعياتها الخطيرة، يسافر سليم إلى ليوبليانا بعد فقدان أمه بسبب مرض سرطان المعدة، وإصابة والده بالزهايمر، بينما تحزم إيفانا حقيبتها وترحل إلى ليوبليانا بعد موت أبيها الذي لم تذرف أمها دمعة واحدة على وفاته،كانت إيفانا تحلم بأن تكون ممثلة أو كاتبة مسرحية، ولطالما تبجحت مازحة بأنّ «سراييفو أنجبت أمير كوستوريتسا في السينما وإيفانا يوليتش في المسرح، لكنها في واقع الحال لم تجد وظيفة أرقى من نادلة في مقهى أو منظفة في فندق،كان الناس ينعتون والدها باللقيط، الأمر الذي سبّب له أرقاً مزمناً، وكان يعاقبها بين آونة وأخرى، ولا يجد حرجاً في قذفها ببذيء الكلام، لكنه لم يعترض على التحاقها بأكاديمية الفنون، فهي مسكونة بالمسرح، ومنقطعة إليه، وتكتب كلما وجدت متسعاً من الوقت بمساعدة بوريس الذي يبتزها مادياً وجسدياً.
فقبل أن يصل سليم إلى ليوبليانا، كانت إيفانا تعمل نادلة في مقهى «تريغلاو» العائد لعمّه «سي أحمد»، لكنّ هذا الأخير كان يبتزها جنسياً مقابل استمرارها في العمل، ويبدو أنّ علاقته بزوجته «نادا» قد تدهورت منذ مدة، على الرغم من أنها أنجبت له ولدين هما سفيان وخالد، لكنه كان يخونها مع نساء أخريات؛ آخرهن إيفانا، التي تشاجرت معه حينما طالبت بمستحقات حبيبها السابق غوران، الذي كان يعمل في المقهى ذاته قبل أن يطرده «سي أحمد»، أو «الأعرج اللئيم»، كما كان يوصف من قبل الناس المناوئين لتصرفاته الاجتماعية والعاطفية.
ومثلما تركت إيفانا حبيبها غوران، ثم عثرت عليه في العاصمة السلوفانية، يترك سليم حبيبته مليكة في الجزائر على أمل العودة لها بعد ثلاثة أشهر، وهي انتهاء مدة الفيزا التي حصل عليها بسبب الدعوة التي وجهها عمه إليه،وحينما يعود سيجد أنها تصالحت مع صديقها السابق حميد الذي عقد عليها القران، وطار بها إلى باريس. أما إيفانا التي أرادت الانتقام من «سي أحمد»، فقد ضربته بكأس أسفل عينه، وأخبرت «نادا» بأنّ زوجها يخونها معها، ومع كشف هذه الخيانة تنفتح حياة «سي أحمد» مثل «صندوق بندورا»، حيث يستشيط غضباً، ويأتي على وجه السرعة إلى الفندق الذي تسكن فيه إيفانا، وأخذ يضربها بعنف رغم وجود حبيبها غوران، الذي لم يتحمّل وحشية «سي أحمد» فطعنه بسكيّن كبير، وتركه يموت أمامها، ثم هرب من الغرفة، وتوارى عن الأنظار، مثلما فرّ من سراييفو وتركها وحيدة تواجه مصاعب الحياة القاسية.
يتم استجوابها من قبل الشرطة، وتُمضي ليلة كاملة في الحبس، لتخرج في اليوم الثاني حرة طليقة، لأنّ الشرطة قبضت على الجاني غوران موريتش، قرب محطة القطارات، وهو يحاول الهرب من ليوبليانا. تدفن «نادا» جثة زوجها «سي أحمد»، وفق الطريقة الإسلامية في مقبرة «جالي»، وتخبر سليم أن «سي أحمد» هو والده الحقيقي، وليس عمّه كما هو معروف، وأنّ الطفلين سفيان وخالد هما شقيقاه، وأن أباه سي أحمد كان مقرّباً من مسؤولين بوسنيين في سنوات الحرب، وقد أُصيب برصاصة قنّاص في كاحل قدمه اليمنى.
تعود إيفانا إلى سراييفو وهي محمّلة بخسائر كثيرة، لكنها لم تحزن على شيء أكثر من حزنها على سليم الذي لم يفهم نظراتها إليه، ولم يأخذها بحضنه، ولعل حركة واحدة وبسيطة منه كانت ستغيّر قدَرَها بالكامل. تؤكد إيفانا لسليم بأنها لم تقتل سي أحمد، وإنما كانت تدافع عن نفسها، كما أن القاتل قد اعترف بجريمته وأودع في السجن .يعود سليم إلى الجزائر وتُحوّل له «نادا» ثمن الشقة التي أوصى بها والده إليه، فيشرع بتأسيس صحيفة «رادار» التي يُعيّن فيها صديقه فتحي مديراً للنشر،أما إيفانا فقد تخلصت من مخطوطة مسرحيتها القديمة، وحملت معها مخطوطة مسرحيتها الجديدة التي اقتبستها من فيلم «هيروشيما حبّي»، التي وافق عليها ديشان، حيث أخذ سليم دور البطل فيها بعد أن زوّدها بطرد كامل عن سيرته الذاتية التي تتضمن دراسته، وعمله في الصحافة، وقصة فتاة أحبته وهجرته، كما يروي مشاعره عن امرأة لم يذكر اسمها، لكن أوصافها تشبه إيفانا كثيراً.
صياغة الرواية البديعة وبنيته المعمارية
صاغ سعيد خطيبي عالمين متقاطعين في روايته “حطب سراييفو”، مقدما مصائر معذبة بحربين عبثيتين، لكنه في الوقت ذاته عقد مقارنات ذكية بين مصائر الجمعية في دولتين ربطتهما علاقة صداقة وجمعتهما أيديولوجية في مرحلة تاريخية، قبل أن ينزلا إلى الجحيم، لا شيء يجعل البشر متشابهين سوى الألم، ففي الجزائر كما في البوسنة والهرسك، انتهى القرن العشرون داميا، تفرق الناس بسبب الدين والعرق ووحدهم الألم،تشابهت أقدار سليم وإيفانا عندما هرب كل منهما من حرب طاحنة في بلده، ومن الكراهية، وذهبا ينشدان حياة أخرى في سلوفينيا. ترصد الرواية من خلالهما بشاعة الاقتتال بين إخوة الوطن الذين يصبحون إخوة في الألم فقط، وفي المنفى تتبعهما رائحة الحرب وتتبدى عليهما ملامحها.
ينتقل السرد بانسيابية، ومن خلال الفصول المتقطعة بين «الجزائر العاصمة» و«البوسنة» وبين أحلام ذلك الشاب وآمال وطموحات تلك الفتاة، ومن خلال ذلك يرصد بشكلٍ دقيق وذكي مظاهر التغيرات التي أحدثها توالي الحروب والموت والدمار الذي لحق بالبلدين سواء في «سراييفو» أو «الجزائر» حتى ليبدو ما يحكيه «سليم» العربي شديد الشبه والتقارب بما تحكيه «إيفانا»
تعكس الرواية مع حكاية أبطالها صورة بانورامية عامة لحياة الناس في تلك الفترة الصعبة من تسعينيات القرن الماضي، حيث ننتقل مع سليم في حكاياته العربية وإيفانا في حكاياتها البوسنية التي تمنح الرواية اتساعًا في الرؤية، وإمكانية لتصوير العالم بطريقة مختلفة من خلال جيران إيفانا ومعارفها وقصص حبها المبتورة من جهة، وحكاية سليم مع مليكة وقصة حبهما الغريبة. أجاد خطيبي في تمثل حالة أبطال روايته والتعبير عنهما بشكلٍ واقعي، وذلك من خلال تقنية تعدد الأصوات، حيث ترك لكلٍ بطلٍ منهما أن يعبّر عن نفسه بشكلٍ كامل، وانطلق من خلال تيار الوعي لنقل مشاعر أبطاله وعالمهم، وإشراك القارئ في تلك التفاصيل الدقيقة لكلا العالمين بالتوازي، حتى يلتقيا في المنتصف. وتكون المفاجأة من نصيب السارد والقارئ على السواء،يبدو وعي الكاتب سعيد خطيبي وحرصه على نقل تلك الأفكار الإنسانية العامة حاضرًا طوال الرواية، إذ يحرص على توضيح فكرة أن ما يجمع الناس حتى لو كان قاسيًا أو مؤلمًا هو أكبر بكثير مما يفرقهم، وربما كانت مفاجأة للكثيرين حديث خطيبي عن مشاركة جزائريين في حرب البلقان، وهو ما يؤكده بهذه الرواية وبدراساته الموسعة التي جرت بين البلدين لتبين هذه الحقيقة. وختاما حطب سراييفو، مميزة بفكرتها، وطريقة سردها، وأحداثها، ولغتها جميلة وسائغة.