القلق البشري بين الفلسة والعلوم الإنسانية

الصديق الدهبي

يطرح القلق الإنساني في كل الأزمنة أسئلة شائكة ومحيرة، تكون في حاجة إلى أدوات لتفكيكها، وكانت الفلسفة وقبلها الدين والأسطورة، ولربما غيرهما، هي الإمكانات المتاحة لدراسة كل التناقضات التي يعبر عنها الوجود البشري في مستوياته المعرفية والنفسية والروحية…، وبالتدريج حدث تضخم في طبيعة هذه المشكلات، ومعه كان لزاما إحداث أشكال جديدة من المقاومة، رغبة في تجاوز كل أشكال القلق التي تطفو على السطح باستمرار . والعلوم الإنسانية هي بلا شك جزء من آليات الممانعة التي تم إبتكارها في الزمن الحديث للمساهمة في تفكيك المشكلات البشرية، تحقيقا للموازنة المعرفية، بين الإنسان والطبيعة، حيث تطور معرفة الإنسان بالكون والظواهر، ينبغي أن يصاحبه أيضا معرفة أكثر وضوحا بالإنسان كذات حرة وواعية، لها بنية مركبة “إجتماعية، دينية، نفسية، تاريخية…”.

  صاحَب هذا الإقرار ،تأسيس العلوم الإنسانية “علم، النفس، علم الإجتماع، علوم التربية، علم التاريخ، الأنتروبولوجيا…”، والتي إعتمدت في بداياتها على دعامات فلسفية في المنهج والرؤية التوجيهية، دون أن يعني هذا تبعية هذه العلوم المطلقة لها، بقدرماتغدوالمسألةشكلمنأشكالالمراوحةالتيبموجبهاتكونالفلسفةمدعوةهيأيضا،للإنصاتإلىماتقولهالعلومالمهتمةبدراسةالظواهرالانسانية. إذ يتقاسمان معا همَّا مشتركا، يتجسد في رهان الفلسفة على تحصيل معرفة أوسع بالذات، من خلال الإنفتاح على إسهامات العلوم المجاورة، بالنظر إلى كون الفرد أيضا ” هو جملة علاقاته الاجتماعية”[1]. فكيف يمكن خلق هذه الرؤية المتصالحة، التي تتجاور فيها العلوم الإنسانية والفلسفة من أجل ترميم تصدعات القلق البشري؟.

  1. العلوم الانسانية كدعامة وسندللفلسفة.

تعتبر العلوم الإنسانية منطلقا تبتدئ منه الفلسفة في بناء تأملاتها حول الفرد أحيانا، إذ لا يمكن عزل الوجود الفردي عن بنيته ومحدداته الجماعية، من حيث أن الجزء لا محل له إلا في إطار الكل أو المنظومة التي تحتضنه، وإن لم يحقق قدرة على الاندماج صار ملغيا وبدون معنى، كحال المفاهيم والأطر النظرية، التي لا تأخذ معناها الدقيق ك”جزئية” إلا في إطار “الكل”، والفلسفة تسعى من وجهات نظر متعددة إلى فهم إمكانات التأثير التي يمارسها الأفراد على العلاقات الجماعية، في الحالة التي يقبل فيها التماهي والإنخراط والقبول بحتميات التبعية للجماعة عن وعي أو دون وعي، أو في الحالة التي يرفض فيها القبول بإملاءات البنية الجماعيةعنوعيأودونوعي ، وكلما تطورت أوجه العلاقتين بين الفرد والجماعة، إلا وفُسح المجال أمام فهم تغيرات البنية التاريخية للوجود الإنساني في صورها الكلية ” فالشجار القائم بين شعور الجماعة وعقلية الأفراد كوًن التاريخ الانساني برمته”[2]، هذا النوع من الترابط لا تدركه الفلسفة إلا في حضور النظم والأطر المعرفية للعلوم الإنسانية.

ومعناه، أن البنى الجوهرية المشكلة لمسار الوعي التاريخي للبشر، مرتبط بشكل من الأشكال بمدى قدرة العلوم المهتمة بفهم وتفسير وجوده المشترك، كالعلوم الاجتماعية، التي تتجاوز في أغلب دراساتها ـــــ خاصة حين بلوغ مرحلة النتائج ـــــ كل الهواجس السطحية، وتبيح لنفسها الخوض في تجارب تأملية لإستقراء محصلاتها العلمية بشكل تأملي، فالدارس للظواهر السوسيولوجية، يسافر بما توصل إليه نحو آفاق التبرير أو الدعوة أو الإسقاط، وأحيانا للرفض والتنديد والدعوة إلى إعادة النظر في كيفية التعاطي السابق مع موضوع دراسته، لكي يمنحه معنى جديد، أو أن يساهم في منح الناس معنى جديد لوجودهم، إذ ” أن علوم الاجتماع تشارك في بناء المعنى”[3]، والذي يعطيها هذه الصفة، قدرتها على تجاوز عينات الظاهرة، نحو أفق الرؤى التجريدية، التي تأخذ منحى القراءات التأملية للوقائع والظواهر والأحداث ” فداخل المجتمع هناك بنى مجردة يمكن للتحليل السوسيولوجي أن يساعد على فهمها”[4].

يلزم عن هذه الرؤية ضرورة معرفية، تقتضي التعامل مع علم الإجتماع، وعلوم الإنسان عموما، تعاملا جديا، مع إعتبارها مدخلا أساسيا لفهم قلق المجتمعات الإنسانية المعاصرة، والتي كانت “قبل لحظة خضوع الانسان لأول مرة لإمكانية معرفة وضعية”[5]، أي قبل نشأة العلوم الانسانية، حكرا على مجال التداول الفلسفي، إذ الفلسفة وحدها من كانت معنية بالبحث في حيثيات وأسباب القلق، وبفهم واستدراك ما لا يتبدى لسواها من العلوم الأخرى، بما في ذلك العلوم التجريبية والرياضية ” فالأسئلة التي يمكن الإجابة عنها تنتقل من العلوم ، أما المسائل التي لا يمكن في ظل الحالة الراهنة للمعارف تقديم حل لها بكيفية قطعية، فهي وحدها التي تبقى وتكون فضلة، تسمى الفلسفة”[6]، ووصف راسل أيضا لها ب” العوالم الاستكشافية”، من دلالاته أنها من تستطيع سبر أغوار الوجود الإنساني في أبعاده المستترة كخبايا في الجذور الميتافيزيقية للمفاهيم والقضايا المرتبطة به، والذهاب بها إلى أبعد مستوياتها، أي نحو الهواجس الخفية التي تتعالى حتى على الوعي نفسه وتتجاوزه، وهي مهمة تتقاسمها أحيانا مع العلوم الانسانية، إذ في اعتبار ليفي شتراوس أيضا “الوعي هو العدو الأول لعلوم الإنسان”[7]، لأنها تشترط حسا إبداعيا بدورها، إذا ما أرادت تحقيق هدفها، متمثلا في الإنصات والإصغاء الجيد لهموم وقلق الوجود البشري، [8]“فالانسان يعيش توترا وجوديا، لا يستطيع الإفلات منه، فمن جهة عليه أن يتماهى مع آخرين يشبهونه من أجل خلق تكوينات جماعية…، ومن جهة أخرى هو مأخوذ، في قلب حدوثه وعرضيته بالوقائع المنجزة التي توجد بشكل مستقل عنه”[9]. وهو قلق يتطور باستمرار ويحمل معه إشارات حقيقية تدفعنا إلى النظر إليه كأزمة وجودية بالمعنيين، الروحي والمادي، تتجاوز التغير والتحول، إلى مستوى التهديد الحقيقي بإمكانية الفناء، دون أن يكون الأمر مجرد تعبير عن فكرة ” نهاية التاريخ” بالمعنى الإجرائي والزمني للعبارة، ” وإذا قرر الجنس البشري على أي حال السماح لنفسه بالعيش، فعليه القيام بتغييرات جذرية في طرق تفكيره وشعوره وسلوكه”[10].

 القلق الوجودي للأفراد وطبيعة الأسئلة التي يطرحها من هذا النوع، للتعبير عن نمط رؤيته للمقولات المربكة كالحرية والوعي والسعادة والحياة والموت…، لا يمكن فصلها قطعيا في تفكيكية الاجتماع الانساني، أو في بنيويته، لأنه مؤثر من مؤثراته، وعنصر من عناصره الأساسية، التي تعبر عن قلق الذات تجاه ذاتها والناس والعالم، ومن هنا تكمن جدة بعض البحوث الفلسفية كالتي صاغها هوسرل ” تاركا دفاعا شغوفا ومؤثرا عن الذاتية يدعونا إلى إعادة وضع الانسان وذاتيته في مركز التأمل السوسيولوجي”[11]، لأنها الوضعية السليمة التي تسمح بقراءة أعمق للذات البشرية، وهي واحدة من أهم صلات الوصل التي تربط الفلسفة بالعلوم الانسانية في مجمل الفروع العلمية المنبثقة منها والمشكلة لها ” فالفلسفة تتصل بالعلوم الانسانية في سعيها لاستيعاب الروح التجريبية للجوهر الانساني… فسيكولوجيا وجد الانسان موقعه، حيث ينفتح الكائن الحي، بامتداد وظائفه، وخطاطاته العصبية والحركية وضوابطه الفيزيولوجية…وسوسيولوجيا  وجد موقعه حيث يبني الفرد العامل المنتج المستهلك تمثيلا عن المجتمع الذي يمارس فيه هذا النشاط…وفي تحليل الآداب والأساطير فيجد موقعه في تحليل الآثار الكلامية التي يمكن أن يخلفها الفرد أو المجتمع”[12].

هذا الارتباط القائم بين العلوم التجريبية والإنسانية، غالبا ما يتم مقاربته من زاوية نظر أحادية، فيها يتم اعتبار الثانية متأصلة من الأولى وقائمة ومؤسسة على مبادئ منهجها التجريبي، والأصل أن طبيعة المجتمعات المعاصرة، أضحت تمنح شكلا جديدا للوجود الانساني، حيث بات لزاما إعادة ترتيب الثنائيات التقليدية، بما يتناسب وطبيعة الأزمنة الراهنة، ففي الوقت ” الذي أيقنت فيه الفلسفة بأنها لا يمكن أن ترقى فوق الفكر العامي إلا باستنادها إلى المعارف الدقيقة والثابتة التي تمدها بها مختلف فروع المعرفة العلمية”[13]، فإن العلوم بدورها مطالبة بالإنصات إلى كل تفكير أو دراسة جدية في القضايا المرتبطة بالإنسان، وهذا التفاوت ينبغي بالضرورة إعادة النظر فيه، وهذه المرة بشكل أكثر جدية، مع إحساس بمسؤولية الجماعات العلمية، بمدى الصعوبات التي تواجه المجتمعات المعاصرة، لذلك ” يعزو بعض المؤلفين مسؤولية هذا الوضع إلى كون التقدم في العلوم الإجتماعية يسير في زمننا هذا بخطى أبطأ كثيرا، من خطى تقدم العلوم الفيزيائية”[14].

هذا الاهتمام الضعيف وجب النظر إليه بقلق أيضا، إذ بتمادي الأنظمة المعاصرة في معرفة الطبيعة ونسيانها، أو بالأحرى تناسيها الاهتمام بالإنسان نفسه، على الأقل في الحدود المعقولة لتفادي (عالم المعرفة والجهل)، أي معرفة الانسان بالعالم وتفصيلاته الدقيقة، وجهل الإنسان للإنسان، دون أن يكون في الأمر مطالبة بنزعة انسانية معاصرة، “فما يهدد المدنية الحاضرة من خطر كبير: الهوة العميقة التي تفصل بين تقدمنا العلمي السريع، وبين فشلنا في تفهم المشاكل الإنسانية، وبعبارة أخرى الهوة بين العلم والانسانيات”[15]. فلا أحد يمكنه حتى لو تمادى في نزوعاته النقدية، وإن بشكل مرضي حتى، أن يطالب بعالم بلا علم، أو بالأحرى الدعوة إلى عالم يتم فيه التبخيص والتقليل من أهميته، وضرورة تقليص وثيرة تطوره، لأنه خاصية العصر وجوهره، وإن لتهديداته يبقى مفخرة للإنسانية، وتأكيدا صادقا على حجم القدرات البشرية على التأهيل والابتكار. ولكن التصديق المطلق والساذج بما يقدمه وينتجه، وجعل الخطاب العلمي وحده الباعث على الاهتمام والتقدير، ومنحه الأولوية، وإقصاء العلوم المجاورة، كالتي تتخذ من الانسان موضوعا لها، هو تحدي حقيقي سيتفاقم بالتدريج نحو مآلات، على كل معني بها تحمل مسؤولياته، وهنا يأتي التأكيد على ” أننا في حاجة إلى أن نكمل العلوم ذات الطبيعة المادية بعلوم إنسانية”[16].

هذه العبارة تختزل بشكل من الأشكال مناحي لابد منها في طبيعة ارتباط العلوم والإنسانيات، إذ يؤكد الأهمية التي من المفروض أن تمنح للعلوم الإنسانية، باعتبارها مقدمة ومدخلا جوهريا، لفهم ومعرفة مشكلات ومآزق وتعقيدات وأزمات الإنسانية المعاصرة، ومدها الفلسفة والعلوم الطبيعية معا، بمقولات لتشخيص وضعيات الإنسان المعاصر، وخلق علاقات انسجام مع مستوياته الكلية ” فالغاية المنشودة من معرفة الانسان لذاته، ليست هي فصل الإنسان عن الطبيعة بقدر ماهي التعرية عن الطبيعة الحقيقية في الانسان، وتنقيتها مما علق بها من جراء التاريخ والثقافة والمجتمع”[17]. وهي غاية يُنتظر منه تأديتها بحس علمي ومعرفي، ومن منظور إنساني مشترك تساهم فيه الفلسفة، من خلال رؤاها التحليلية والنقدية والتأويلية…،  وتساهم فيها أيضا العلوم التجريبية بمدها التخصصات الأخرى بقراءاتها الدقيقة والممنهجة، ويكون فيها للعلوم الانسانية أيضا مكانتها وأهميتها في تحقيق فهم أعمق بالفكر والواقع معا ” فالفلسفة وبرأينا علم الاجتماع أيضا، يجب أن تبرز قيمة العالم المعاش واقعيا، وكذلك التجارب ،من خلال البحث فيها عن العقل والمعنى لا غير”[18]. ومنه تكون العلوم الإنسانية نمط من التفكير الجدي والمهم في فهم تعقيدات الوجود الإنساني، خاصة في مستوياته الواقعية. ومنه تصير الحاجة بين الفلسفة والعلوم الانسانية، مرتبطة ومتبادلة، فعلوم الانسان تمنح الفلسفة إمكانات أفضل للتفكير في بنية الوجود الإنساني، وهي تمنح علوم الإنسان رؤيتها المنهجية والتحليلية والنظرية والتأملية ” لأن الفلسفة تدخل على العلم شيئا لا يثير اهتمام العالم”[19] فهل معناه حملهما لآفاق مشتركة، تجعل الفصل بينهما خطأً منهجياًيتنافى ومبدأ خدمة مصالح وأهداف عمليات الفهم الأعمق لهواجس ومفارقات الوجود البشري؟.

  • العلومالانسانيةوالفلسفة وأشكالالتعاون والتكامل.

ساهمت حاجة العلوم الانسانية والفلسفة المتبادلة، في خلق جدل، من النوع الذي يمكن استثماره في إقامة مشاريع مشتركة، فيها تبادُلٌ للخبرات والأطر النظرية والمرجعيات المعرفية،فالقواسم المشتركة بين المبحثين قائمة دوما وبشكل مستمر، بل إن الغايات أحيانا هي نفسها، والإختلاف في الأطر المرجعية لا غير، فهما معا يهدفان إلى تطوير واقع وفكر المجتمعات الانسانية، وإدراك أبعادها الوجودية، وتحليل مستوياتها وربطها بقضايا تهم إنسانية الإنسان. فهل النقد الذي يأخذ البنى الاجتماعية موضوعا له، يدخل ضمن خانة ما يشار إليه بالمشترك بين الفلسفة وعلوم الإنسان؟.

تتطلب الإجابة عن سؤال من هذا النوع، البحث في خضم الأهداف والآفاق المشتركة، التي يكون فيها منطق البتر والصراع والتباعد ملغيا، بين الفلسفة وعلوم الإنسان، إعتبارا لضرورة حضورهما معا، وجنبا إلى جنب، في  تفكيك البنية الوجودية للإنسان، وهي أهداف وآفاق، سيكون من الصعب تحديدها بدقة، ولكن أقله نفتح نوافذ نطل من خلالها على إمكانيتين للتقاطع بين المبحثين:

  1. النقد كرهان مشترك بين الفلسفة والعلوم الإنسانية.

 يعتبر النقد من أهم صلات الوصل بين الفلسفة وعلوم الانسان، وجزء من عملياتهما المنهجية، وأحيانا هو الهدف المنشود والغاية المرجوة، حيث أن موضوع الفكر في النمطين  مطالب بالإستجابة النقدية لكل المكونات المشكلة للقضايا المرتبطة بالوجود الانساني “فالفكر مطالب بأن يجابه الموضوع الانساني بمرونة في المفاهيم والتصورات، وقابلية التطور التي تتحلى بها نظرياته، وتعديل دائم يطرأ على مناهجه، إنه مطالب بأن يكون فكرا جدليا، وفي حوار دائم مع الواقع”[20]، حيث يتم تغذية البعد النظري بواقعية الظواهر البشرية، ولا يدرسها إلا كجدل ينفتح عليهما معا. شريطة أن يستحضر هذا الجدل الأفق النقدي، حيث الفلسفة تغير رؤيتها تبعا للتحولات التي تطرأ على العلم، فيكون هو ذاته هاجسها النقدي، وهي أيضا تمده بالمقولات نفسها، توجيها وتصحيحا، أو قبولا واعتراضا ” فالفلسفة تستمد اليوم مصداقيتها من العلوم، كما يستمد العلم بدوره مشروعيته من الفكر الفلسفي النقدي”[21].هذه الخاصية النقدية، تتجاوز أحيانا سياق تشكل العلوم الانسانية، إلى مستويات أخرى، بها تمس أيضا منطلقات العلوم التجريبية، التي تجد نفسها في حاجة ماسة لهذه الرؤية التشكيكية الممنوحة من طرف النقد، فالأوتوماتيكية اللاواعية، التي يجد العلم نفسه غارقا فيها اليوم، إنما ترجع لإفتقاده طوال تاريخه لمدرسة نقدية، تعمل من خلال الحركة العلمية نفسها، وتقوم بالدور أو على الأقل بأحد الأدوار التي قام بها النقد بالنسبة للأدب منذ العصور القديمة.

الميكانيكية العلمية التي شكلت سمة المعارف الحديثة والمعاصرة، نجحت بالتدريج.  إلى أن أضحت أوتوماتيكية اجتماعية، فتحولت من مجرد نظرة إنسانية للظواهر والأشياء، إلى  نظرة الإنسان  للإنسان، ولأن العلم أثبت مكانته كخطاب بديل لكل الخطابات المتعالية، فقد نجح في “تفكيك سحر العالم”، بالمعنى الذي يقصده ماكس فيبر، وتجاوز هذا المعطى جوانب الفكر، وصار نمطا سلوكيا، خاصة لما أضحت المدارس التربوية الحديثة تعتمده وتنحاز له، لكنه نمط صارت له عيوبه، متمثلة أساسا في تغييب البعد الروحي للأفراد، وفي تغييب المعنى، واستبعاد السرديات المتعالية، ” وإذا لم يشبع مدرس العلومالفضول الذهني للطالب فإن هذا سوف يروي ضمأه بتناول المشروب الروحي أينما يقدم له”[22].

 جزء من هذا النقد الذي يحمل طابعا فلسفيا، ممزوجا بالروح الإنسانية والنزعة الإجتماعية تشكل في مشروع مستقل، أنشأته مدرسة فرانكفورت، وطورته في سياق سجالات أجيالها، إذ في ظل هذا الإبعاد المقصود للذوات البشرية، صار الانصياع لمقولات الحداثة يحيل إلى أزمة مركبة، ولم تعد النظرية الإجتماعية التقليدية، قادرة على تقديم رؤية حقيقية ورصينةومتصالحة، وكان لزاما تعويضها برؤية جديدة اكثر جرأة ” فالنظرية النقدية لا تصلح في موقف الطاعة الذي يجتاح الفكر أيضا… لأن التفكير نفسه شكل من أشكال المقاومة، فهو جهد يبذله الفرد لكي لا يبقى مخدوعا”[23].

وكل قيم القبول والإيجاب التي كرستها الوضعية التقليدية، سواء كانت مدفوعة بهم إيديولوجي، كان يود تحصين أوروبا من كل أشكال النقد وتمجيد الموجود برؤية إيجابية، أو كانت خلاصات علمية موضوعية، فإنها رفضت الوجه الآخر للجدل النقدي المؤسس على فلسفة السلب والنفي لأنها السلطة  “والمبدأ الذي يتحكم في تطور المفاهيم، والتناقض هو الصفة المميزة للعقل”[24]، هذا التناقض بالذات هو الذي يمد العلوم الانسانية بمقولات نقدية، تقاوم قدر إمكانها أشكال التمجيد للحضارات الإنسانية والغربية خصوصا، وبها أيضا يتمإحياء آليات تطوير الوجود الإنساني، الذي يخدمه النقد، أكثر مما تخدمه حالة الجمود والإرتكاس، فالمجتمع يحرك النقد، تماما كما يحرك النقد المجتمع ” فعندما تكون عوامل التغيير الإجتماعي الأساسية غائبة عن الأنظار ومنعدمة، ينحصر النقد على ذاته في قوقعة التجريد”[25] . لأنها تحتفظ بالنقد الأحادي المؤسس على إبراز وتقديم الأوجه الإيجابية للبنى المشكلة للوجود، إما حرصا على تطوير السلطة، أو خضوعا لها، وهذا القبول والرضوخ يكون ” قسريا لا بحكم الإرهاب وإنما بفعل سلطة المجتمع التكنولوجي وفعالياته الساحقة المغلقة” [26]. ويمثل هذا النزوح التدريجي الذي تحل فيه السلطة بالتدريج محل العقل من بين أكثر السمات التي حكمت على المشروع الغربي بالإنزياح عن مساراته، وحولته إلى عقل أداتي، يشتغل بمنطق تصفية كل الأصول الفكرية والتأملية، التي كانت تشكل بتعبير ماركيوز ( العناصر المعارضة والمتعالية في الثقافة الرفيعة )، والمجسدة دوما لأطر المقاومة، ليس رفضا للسلطة وإنما محاولة لمحاصرتها موضوعيا، حتى لا تتجاوز الحدود، التي تهددها قبل أن تهدد أي شيء آخر” فالسلطة أصبحت تحل محل العقل، والخضوع محل الحرية، والواجب محل الحق”[27].

  والحق أن إقصاء النزعة الفلسفية النقدية، أعطى المشروعية المطلقة لبروز أشكال مقاومة جديدة للسلطة، أخذت شكل ثورات عنيفة، في حين كان النقد والتأمل والتبرم من السلطة بمحاكمتها كفيل برد التوازن المفقود للمجتمعات الحديثة، فكانت محاولة مدرسة فرانكفورت من خلال تشييد ” علم اجتماع نقدي” مؤسس على منطلقات فلسفية جديدة، وعلى التراث الإنساني للحداثة، بمثابة شكل جديد من أشكال المقاومة، وإن بدا نقد مشروع الأنوار الغربية غايته، فإنه استند على مقولات كانط، ماركس، نيتشه، هايدغر…، حيث أخذت  هذه المشاريع في نظر مدرسة فرانكفورت  شكل مقاومة نقدية، ولم ترتكن للحداثة كموروث مكتمل، بل اعتبر بعض ممثليها كماركيوز ” أن الهجوم على التفكير النقدي المستقل، إنما هو جزء لا يتجزأ من السيطرة الشمولية”[28]، أي أنها مثلت مقاربة فلسفية جديدة استوعبت منطلقات العلوم الاجتماعية والانسانية، في إطار معرفي موحد، وبذلك يكون النقد أحد الرهانات المشتركة التي وحدت الفلسفة والعلوم الانسانية، على الأقل في بعض التوجهات الفكرية المعاصرة.

  • النزعة الإنسانية كأفق مشترك.

  يعتبر  النقد جزءً من التماس فقط، وليس وحده ما يمثل صلة الوصل بين الفلسفة وعلوم الانسان، بل يجمعهما أيضا أفقا مشتركا  يتمثل في النزعة الإنسانية، التي تسعى العلوم الإنسانية لإقامتها في شروط جديدة ومغايرة، كهم تحمله الفلسفة بدورها أيضا، والعلوم جميعها على وجه العموم ” لأننا في حاجة لدعوة إنسانية، تساهم في فهمه لذاته، لا التي تطمس حقيقة الإنسان  لشدة ما تعظم من شأنه واضعة إياه فوق كل الكائنات، والحال أنه على العلوم الانسانية اليوم أن تضم جهودها للعلوم الطبيعية”[29]، مع ضرورة استحضار الخطاب الفلسفي، الذي بديناميته يستطيع تطوير  آليات تفكيك التعالي المرتبط بالظاهرة الإنسانية ” فحقيقة معرفة الانسان تظل في الواقع مستعصية على كل معرفة…. ولا يكتمل إلا بالنظرة التزاوجية، بين العلم من حيث كونه موضوعا، والفلسفة من حيث كونها ذاتا فاعلة وحرة، أي ذات لها مستويات من الوجود، تستحق التأمل والتفكير”[30].

  ضرورة هذا التكامل بين الأنماط الفكرية، فلسفةً كانت أو علوماً، أصبحت حاجة الإنسانية لها تتزايد باستمرار، خاصة في ظل الأزمات التي تتخبط فيها البشرية في الزمن المعاصر، مع حالة التيهان وغياب الأطر الموجهة، رغم الامكانات التي بات يتوفر عليها، وهي أزمات حقيقية تتبدى في نسب الإحساس  بالقلق ” ويعزو بعض المؤلفين مسؤولية هذا الوضع إلى أن التقدم في العلوم الاجتماعية يسير في زمننا هذا بخطى أبطأ كثيرا من خطى تقدم العلوم الفيزيائية، كما أن بعض المؤلفين  يميلون إلى إبراز ضآلة الدعم الذي تحظى به المعارف الأخلاقية والفلسفية، إذا قورن بالدعم الموجه إلى معارف العالم المادي…. والصدع القائم بين العلم والفلسفة هو المسؤول عن عجز العلم عن أي يجعل من تقدمه بركة وخيرا للإنسان”[31] .ما يعني أن ضرورة إعادة تعديل الكفة شرط من الشروط الضرورية لتقليص صورة إبتعاد الذات عن ذاتها، وإلا ما الهدف الجوهري لكل الأنماط المعرفية، سوى خدمة الإنسان، وحل مشكلاته وتطوير نمط حياته وعيشه وتفكيره نحو الأفضل والأحسن، بما يضمن أيضا تطوير الأشياء الدائرة حوله.

  وهذه الغاية، هي المحرك والدافع لكل معرفة بشرية، وإن لم تكن حاضرة فإنه من اللازم إعادة النظر في إنسانية هذه العلوم قبل علميتها، وهو الدور الذي لعبته الفلسفة منذ النشأة، ومازالت تضطلع به إلى اليوم، رغم أنها تحتاج لتحقيقه مساهمة كل المعارف المجاورة، ومن أبرزها العلوم الانسانية، إما التي تشتغل بشكل مباشر في تشخيص طبيعة الوجود الإنساني كعلم الاجتماع، وعلم النفس،…، أو التي تساهم في فهم واقعه من خلال إطلالات تاريخية، كالأنتروبولوجيا، فهي وإن كانت منحيث المبدأ دراسة للمجتمعات التقليدية وسماتها وخصائصها، إلا  أنها كانت وما زالت رسالة إنسانية ” حيث يجب أن تساهم القاعدة الثقافية التي يبنيها حقائق علم الشعوب في الاقتراب من الهدف النهائي، الذي هو خلق عالم متفاهم وموحد، فلا يمكن أن نفرق بين المخترعين والمكتشفين الأوائل الذين أبدعوا أقدم الممتلكات الثقافية للإنسانية، حسب لون بشرتهم أو انتمائهم القومي أو الديني، الذين طواهم النسيان، ومع ذلك فقد ساهموا في سعادة البشرية أكثر من رجالات عصرنا الراهن”[32].

خلاصة

  بين الفلسفة والعلوم الإنسانية إذن قواسم مشتركة، تقوي ممكنات الإرتباط والتداخل والتكامل، الذي منه تتشكل في المحصلة مدخلات الجدل الثنائي بين المقولتين، ولأن المجتمعات الإنسانية المعاصرة في حاجة عملية لإستثمار كل الممكنات الفكرية والثقافية والعلمية والأدبية لفهم وتفسير بؤر التوتر، التي تغدي غربة الذات فرديا وجماعيا، فإن الإنفتاح على جميعها ضرورة ما بعدها ضرورة، وها هي العلوم الإنسانية تعترف بعجزها عن تقرير المصير، وتوفير البيئة العلمية والمنهجية والعدة النظرية في  دراسة هذا الكم من المشكلات الإنسانية، وتطلب القرابة من الأنساق المعرفية المجاورة، والفلسفة بلا شك أحد أهمها، لأنه من غير المقبول  التعويل على العلوم الإنسانية في تحقيق هذا التوازن الذي تفتقده الذوات المعاصرة باستمرار، في الوقت الذي تعاني هي نفسها من أزمات حقيقية، خاصة وأن الإعتراف بسوء تدبير الوضعيات البشرية، يشكل نبرة كل الفلسفات المعاصرة، التي ما فتئت تعبر عن قلقها من حاضر الإنسانية ومستقبلها، في الوقت الذي نعاين فيه تمَلُّك العقل البشري لأغلب تحديدات العالم، وأحيانا في تفاصيله الدقيقة، بفضله قدرته على  معرفة العوالم التي كانت إلى زمن مجهولة.

إن الأزمة إذن واضحة بينة، فالإنسان أصبح قادرا على إدراك أغلب الأشياء، إلا أنه في المقابل يعجز عن فهم ذاته فهما دقيقا، صارما  وواضحا، والحاجة ملحة للعلوم الإنسانية في إعادة ترميم صفوف المعرفة، وخلق التوازن…، و في سياق تحقيقها لهذه المهمة تحتاج أيضا لتجاوز أزماتها، والمتعلقة بالمنهج أساسا، فتستثمر المقولات المنهجية للفلسفة، من أجل إعانتها على توفير الشروط النظرية لخلق إطارها المعرفي. وحين يتوفر هذا الإنفتاح يحدث التعاون الذي فيه تمنح العلوم الإنسانية أيضا الأطر المعرفية التي طورتها لفهم وتفسير الظاهرة الإنسانية، وبهذا الجدل تتطور القواسم المشتركة، متمثلة في مشروعي: النقد وخدمة الوجود البشري، وما نملك إلا تثمين كل جدل يتضمن في جوفهخطاب الإنسانية ، حيث التوق إليها يفوق كل الأزمنة السابقة، إذ لا أزمة للإنسانية المعاصرة سوى الإنسانية ذاتها.


[1]ـ روجيه غارودي، البنيوية، فلسفة موت الإنسان، ترجمة وتحقيق جورج طرابيشي ،دار الطليعة، بيروت،الطبعة الأولى، 1979، ص 31.

[2]ـ أندرو ديكسون وايت، بين الدين والعلم: تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى، ترجمة اسماعيل مظهر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة 2012، ص 13.

[3]ـيانسبورك،أيمستقبللعلمالاجتماع؟فيسبيلالبحثعنالمعنىوفهمالعالمالاجتماعي،ترجمةد. حسنمنصورالحاج،مؤسسةمصرالجامعيةللدراساتوالنشروالتوزيع،بيروت،الطبعةالأولى 2009، ص 128.

[4]ـ نفس المرجع، ص 128.

[5]ـ ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، تعريب فريق الترجمة بمركز الإنماء القومي، إشراف ومراجعة مطاع صفدي، بيروت 1990، ص 288.

[6]ـ Bertrand RusseL.Probleme  de la philosophie.Traduction par  François Rivenc.Payot. Paris 1989. P 185.

[7].Claude Levi-Strauss, anthropologie ,edition. Plon, Paris, 1973. P 343.

[9]ـ يان سبورك، أي مستقبل لعلم الاجتماع؟، مرجع سبق ذكره، ص 120.

[10]ـ برتراند راسل، أثر العلم في المجتمع، ترجمة صباح صديق الملوجي، مراجعة حيدر حاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الاولى، تشرين الأول (نوفمبر) 2008، 110.

[11]ـ نفس المرجع، ص 125.

[12]ـ ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، مرجع سابق، ص 291ـ292 بتصرف.

[13]ـ محرزالحمدي،الفكروالحياةفيفلسفةالعلومالانسانية،دارالتنويرللنشروالتوزيع،لبنان.ص 12.

[14]ـ فيليبفرانك،فلسفةالعلم،الصلةبينالعلموالفلسفة،ترجمةد. عليعليناصف،المؤسسةالعربيةللدراساتوالنشر،بيروت،الطبعةالأولى 1983. ص 5.

[15]ـ المرجع نفسه، ص 8.

[16]ـ المرجع نفسه، ص 11.

[17]ـ محرز الحمدي، الفكر والحياة في فلسفة العلوم الانسانية، مرجع سابق، ص 21.

[18]ـ يان سبورك، أي مستقبل لعلم الاجتماع؟، مرجع سبق ذكره، ص 125.

[19]ـ فيليب فرانك، فلسفة العلم: الصلة بين العلم والفلسفة، مرجع سابق، ص 72.

[20]ـ  محرز الحمدي، الفكر والحياة في فلسفة العلوم الانسانية، مرجع سابق ص 14.

[21]ـ المرجع السابق، ص 12.

[22]ـ  فيليب فرانك، فلسفة العلم، مرجع سابق ص 14.

[23]ـ ماكس هوركهايمر، نقلا عن يان سبورك، أي مستقبل لعلم الإجتماع؟، مرجع سابق، ص 230.

[24]ـMarcuse, Ver la libération, Edition, de minuit, Paris, 1969, p35.

[25]ـ هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الآداب ، بيروت، الطبعة الثالثة 1988، ص 29. 

[26]ـ المرجع السابق، ص 238.

[27]ـ هربرت ماركيوز ، العقل والثورة، ترجمة،  فؤاد زكريا، الهيئة المصرية للتأليف، القاهرة،1970، ص 375.

[28]ـ نفس المرجع، ص389.

[29]ـ محرز الحمدي، الفكر والحياة في فلسفة العلوم الانسانية، مرجع سابق، ص21.

[30]ـ المرجع نفسه، ص 56.

[31]ـ فيليب فرانك، فلسفة العلم: الصلة بين العلم والفلسفة، مرجع سابق، ص 5 بتصرف.

[32]ـ يوليوس ليبس، أصل الأشياء، بدايات الثقافة الانسانية، ترجمة كامل اسماعيل ، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، الطبعة الثانية، 2006، ص 8.