كانت الحضارة الإسلامية فصلا رائعا زاهرا من الحضارة الإنسانية، وما كُتب في فضل الحضارة الإسلامية كثير جدا، وما كُتب في فضلها على النهضة الغربية كثير جدا كذلك، وهو أمر من الحقائق المعروفة التي يشهد بها كثير من الغربيين أنفسهم. يقول المستشرق البريطاني المشهور مونتغمري وات:
“ومع ذلك فإننا -معشر الأوروبيين- نأبى في عناد أن نُقِرَّ بفضل الإسلام الحضاري علينا، ونميل أحيانًا إلى التهوين من قدر وأهمية التأثير الإسلامي في تراثنا، بل ونتجاهل هذا التأثير أحيانًا تجاهلاً تامًّا، والواجب علينا من أجل إرساء دعائم علاقات أفضل مع العرب والمسلمين، أن نعترف اعترافًا كاملاً بهذا الفضل، أمَّا إنكاره أو إخفاء معالمه فلا يدل إلا على كبرياء زائف”.
بل بلغ ببعض الغربيين، حتى وهم ملحدون، أن يتمنوا لو كان الإسلام قد فتح أوروبا ودخل باريس، ولم يُهزم في معركة “بلاط الشهداء”، من هؤلاء المستشرق الفرنسي المشهور غوستاف لوبون والذي كان تفسيره لعدم محاولة العرب إعادة فتح باريس أنهم وجدوا جوها البارد لا يناسبهم، يقول:
“لنفرض جدلاً أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جَوَّ شمال فرنسا غيرَ باردٍ ولا ممطر كجوِّ إسبانيا، فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربا؟ كان يصيب أوروبا النصرانية المتبربرة مثلُ ما أصاب إسبانيا من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدثُ في أوروبا التي تكون قد هُذِّبت ما حَدَثَ فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتملي، ومظالم محاكم التفتيش وكل ما لم يَعْرِفْه المسلمون من الوقائع الخطيرة التي ضَرَّجَت أوروبا بالدماء عِدَّة قرون”.
عصر الإنسان
لكن الذي يلفت نظر المستشرقين عموما في حديثهم عن الحضارة الإسلامية هي إنجازاتهم المادية، في التنظيم والعمران والحدائق والفنون والزخارف والعلوم والاختراعات وانتشار المكتبات، ولذلك يكاد يسيطر على المؤلفات المكتوبة في الحضارات الإسلامية الحديث عن العصر العباسي والمملوكي والأندلسي والهندي والعثماني، حيث ازدهرت كل هذه المظاهر الحضارية.
بينما الصورة مختلفة عند المسلمين، فالمسلمون وعلماؤهم لهم اهتمام خاص بعهد الخلفاء الراشدين، والحركات الإسلامية التي تعمل لإعادة الخلافة والوحدة الإسلامية إنما تتوق لإعادة عصر الخلفاء الراشدين لا عصر الأمويين ولا العباسيين ولا المماليك ولا غيرهم، وهذا الحرص والاهتمام إنما ينبع من قول النبي (صلى الله عليه وسلم) “خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”، وقوله: “الخلافة بعدي ثلاثون سنة”، وقوله: “فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ”.
لقد حددت هذه الوصايا من النبي صلى الله عليه وسلم مفهوم الحضارة الإسلامية وانحيازاتها وروحها واتجاهها.. إن عصر الراشدين لم تكن فيه تلك المظاهر الحضارية المادية، لقد انتهى عصر الخلافة الراشدة، الذي هو العصر الذهبي في الذهن الإسلامي، ولم يكن للمسلمين قصور مشيدة ولا بيوت فاخرة ولا مباني ضخمة ولا مساجد مزخرفة ولا ثياب مزينة، لقد أتى هذا كله فيما بعد، في العصور التي لا تمثل قدوة للمسلمين والتي لا يتوق المسلمون الآن للعودة إليها كما يتوقون لعودتهم لعصر الخلافة الراشدة.
والسبب في هذا أن عصر الخلافة الراشدة كان هو عصر الإنسان! الفترة المثالية التي تحقق فيها للإنسان أقصى صور الأمن والعدل والعزة والكرامة، حيث لم يكن يستطيع الحاكم حتى إذا حكم ثلث الدنيا أن يستذله أو يقهره أو يخيفه أو يظلمه، بل حتى لو أبغض الخليفة رجلا فإن هذا لا يمنعه حقا من حقوقه، كما قال عمر لقاتل أخيه: لا أحبك حتى تحب الأرض الدم. فقال: هل هذا مانعي بعضا من حقي؟ قال: لا. فقال: فأحبب أو لا تحبب إنما تأسى على الحب النساء.
أمن الإنسان وأمن السلطة
بينما كانت عادة الدول أن تكون مهمة الأمن هي المهمة الأولى لدى الوالي، كانت دولة الخلافة الراشدة على غير هذا المثال، خطب عمر في موسم الحج حيث يجتمع الناس فقال:
“أيها الناس إني بعثت عمالي هؤلاء ولاة بالحق عليكم، ولم أستعملهم ليصيبوا من أبشاركم ولا من دمائكم ولا من أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم أمر دينكم وسنتكم، فمن فُعل به سوى ذلك فليرفعه إلي، ومن كانت له مظلمة عند أحد منهم فليقم أقيده منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد من نفسه”.
وتكرر منه هذا المعنى في موسم حج آخر، حيث قال:
“اعلموا أنه لا حلم إلى الله أحب ولا أعم نفعاً من حلم إمام ورفقه، وإنه ليس جهل أبغض إلى الله ولا أعم من جهل إمام وخرقه”… “ “وأيما عامل لي ظلم أحداً، وبلغتني مظلمته ولم أغيرها فأنا ظلمته”.
وكان الخليفة قريبا من الناس، يصلي بهم الصلوات ويخطب لهم الجمعة، ويستطيع سائر الناس أن يصل إليه ويحادثه، أو أن يقوم له معارضا أو مُذَكِّرا.. فلا يجد الخليفة بأسا أن يعود عن قوله إن رأى الحق خلاف ما كان عنده.
ولقد استطاع أبو لؤلؤة المجوسي أن يهدد عمر مع مهابته ويقول له: “لأصنعن لك رحى تتحدث بها العرب”، وتبين عمر في قولته هذه التهديد وقال “أوعدني العبد”، لقد استطاع العبد الفارسي أن يهدد عمرا قبل أن يقتله ويحيا في المدينة لا يمسه سوء، ثم استطاع هذا العبد أن يصلي في الصف الأول خلف عمر وأن يطعنه.
وخرج عثمان يوما للصلاة فأبصر رجلا يقبل إليه ففهم في حركته الخطر فقال انظروا: فإذا رجل معه خنجر أو سيف. فقال له عثمان رضي الله عنه: ما هذا؟ قال: أردت أن أقتلك. قال: سبحان الله!! ويحك، علام تقتلني؟ قال: ظلمني عاملك باليمن. قال: أفلا رفعت ظلامتك إليَّ فإن لم أنصفك أو أعديك على عاملي أردت ذلك مني؟ ثم قال لمن حوله: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، عدو أمكنك الله منه. فقال: عبد همَّ بذنب فكفه الله عني، ائتني بمن يكفل بك، لا تدخل المدينة ما وليتُ أمر المسلمين، فأتاه برجل من قومه فكفل به فخلى عنه. وبهذا عفا الخليفة عمن أراد قتله ظلما، ولم يعاقبه إلا بالمنع من دخول العاصمة.
وقد كفل عثمان لمن تمردوا عليهم حقهم في الاعتراض، وحاورهم وأبدى لهم حججه وأعذاره، وكان اختياره ألا يقاتلهم رغم أنهم صرحوا له بعزمهم أن يخلع نفسه أو يقتلونه، (وسنتعرض لتفصيل هذا الموقف في حلقة قادمة إن شاء الله)، ولكن المقصود الآن أن عصر الخلافة الراشدة كان عصرا تستطيع فيه المعارضة أن تواجه الخليفة قولا وصراخا وبالسلاح أحيانا ثم يكون لهم بعد هذا حقوق لا ينتقص منها.
كذلك فقد قُتِل علي رضي الله عنه على يد رجل من الخوارج، وهم فريق جهر بالمعارضة وجهر بالحرب، ومع هذا استطاع أن يدخل إلى الجامع ويصل إلى علي بن أبي طالب فيطعنه.
إن بعض العلمانيين والمجرمين ممن يزيفون وعي الناس ينتقص من عصر الخلافة لأن ثلاثة من خلفائه قُتِلوا، وينسى أن الذين قُتلوا لم يُقتلوا لظلم وقع منهم وإنما لاتساع هامش المساحة الممنوحة للجميع، ولأن سياستهم جميعا تقدم أمن الناس على أمن السلطة، وتحفظ حق الناس فوق حق السلطة.
وهكذا رسم الراشدون سياسة النظام الإسلامي في العلاقة بين الناس والسلطة، ومن أغرب الغريب أن يُعايَر النموذج الإسلامي بأن ثلاثة من خلفائه الأربعة قُتِلوا! وأن يصدر هذا ممن عاش في زمن تهلك فيه الأمم والجماعات والفصائل بدعوى حماية النظام والحفاظ على الأمن القومي ويُشنق فيه الناس بتهم تكدير السلم العام! أو لعل هذا هو الطبيعي، وهو نتائج تخريب العقول والنفوس وتضييع الكرامة، فإن الذي نشأ وتربى وتشرب الاستبداد والفرعونية لم يعرف معنى الحرية والعزة والكرامة، فهو أخوف على أمنه منه على حريته وكرامته!
الرفاهية والرخاء أم العزة والكرامة
انحياز الحضارة الإسلامية إلى الإنسان له وجه آخر أيضا، فهو تقديم لبناء الإنسان على بناء العمران والبنيان، فالحضارة الإسلامية تسعى لإقامة مجتمع تسوده الكرامة والعزة والعدل والإنصاف، ولو كان يسكن بيوت الحجر والشعر والطين، وتنبذ وتحارب مجتمعا تسوده ناطحات السحاب وتغمره وسائل الترفيه والترف بينما إنسانه مذلول أو مطحون أو مسحوق ماديا أو نفسيا!
وليس هذا شيئا هينا، بل هو افتراق خطير! فالذين تغرقهم الحسابات المادية يقبلون بقاء الظلم والطغيان والاستبداد ويدفعون ثمن هذا من كرامتهم وحريتهم، ولا يقبلون أن تشتعل ثورة تخرب البنيان والعمران طلبا لكرامة الإنسان وحريته.. وهنا يفاوضهم الطاغية ويساومهم، فإما أن يبيعوا كرامتهم ويقبلوا بالعبودية وإما أن يهدم البلد على رؤوسهم.. والواقع أن اختيار حركات التحرر عبر التاريخ كله هو أن تخرب البلد في سبيل الحرية والعزة ثم تكون لهم فرصة بنائها من جديد على قواعد جديدة! وقبل كل قصة تحرر توجد قصة شعب عاش المعاناة وذاق الجوع والخوف في سبيل التحرر!
إن مجتمعات المادة قد تنبهر لروائع قصور الحمراء وتاج محل وفنون المآذن والقباب المملوكية بينما الحكم الأخلاقي للحضارة الإسلامية على هذه العصور هو حكم سلبي، لأن الإنسان كان في هذه العصور أقل قدرا وشأنا من مكانه الذي يحق له في الإسلام. نعم، قد نستدل بكل هذه المآثر المادية على تقدم العلوم والفنون في الجانب العلمي من الحضارة الإسلامية، لكن يظل العصر الراشدي الذي خلا من كل هذا هو العصر الذي تتشوق له النفوس أكثر من عصور مماليك الشرق أو مغول الهند أو بني الأحمر الأندلسيين!
لقد بلغ عمر أن سعد بن أبي وقاص انتزع من أحد المجاهدين في القادسية سلب الجالينوس -القائد الفارسي- لأنه لم يستأذنه في اتباعه، فأرسل إلى سعد ينهاه عن هذا، ويوصيه ألا يتعامل مع رجاله بما قد يكسر نفوسهم ويعطل انطلاقتهم، وأمضى له غنيمته.
وفهم ابن خلدون من هذا أن الفارق بين جيل الصحابة وغيرهم، أن أولئك أخذوا أدب الدين من النبي الذي كان حريصا ألا يكسر نفوسهم، وأن من بعدهم إنما نزلوا عن هذه المراتب حين صار التعليم تأديبا فيه عقوبات وإجبار وكسر للنفوس، مما يورث التكاسل الذي هو سمة النفوس المضطهدة.
الخصومات والقضاء
ويظهر شأن الإنسان في عصر الخلافة الراشدة في مجال الخصومات والقضاء، وأول ما يطالعنا من الأخبار العجيبة أن الناس كانوا يتعاملون بالمروءات والصدق والأمانة فتقل بينهم الخصومات واللجوء إلى القضاء، وهي عادة المجتمعات السوية الراقية، حتى إن عمر بن الخطاب الذي ولي القضاء في عهد أبي بكر مكث سنة لا يأتيه رجلان. ويروي صديق سلمان بن ربيعة -أول قاض على الكوفة- أنه مكث يزوره أربعين يوما منذ تولى القضاء فيها لا يجد عنده أحدا من الخصوم.
واجتهد أحد الولاة من نفسه، وكان يتولى منطقة في أرض فارس، فأعلن في الناس أن هذه المنطقة يكثر فيها الفرس وهم يشربون الخمر وفيها من نسائهم من لا تتعفف، فمن كان أصاب حدا فليأت إلى الوالي ليقيم عليه الحد فيطهره، فلما بلغ ذلك عمر أرسل إليه: لا أحل لك أن تأمر الناس أن يهتكوا ستر الذي سترهم. وأوضح له أن القضاء لا يقضي إلا حين يظهر الذنب لا إذا كان مستترا. وقد جاء رجل من اليمن إلى المدينة وأخبر عمر أن ابنة أخيه وقعت في الفاحشة، فقال له عمر: “لو أفشيت عليها لعاقبتك، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه”، وفي رواية: “أنكحها نكاح العفيفة المسلمة”.
وهكذا كانت السلطة تحفظ الإنسان وعرضه وستره، ولا تعمل على التجسس عليه ولا هتك ستره، بل إن عمر رضي الله عنه سجن الذين يلغون في أعراض الناس كما فعل مع الحطيئة الشاعر الهجَّاء، إذ كان كثير الهجاء حتى أنه هجا أباه وأمه وزوجه ونفسه أيضا، حتى خرج ذات يوم فلم يجد من يهجوه، ثم نظر في بئر فرأى وجهه فأنشد يقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بشر .. فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها قبح الله خلقه .. فقبح من وجه وقبح حامله
ثم أطلقه عمر بعد أن دفع له أموالا مشترطا عليه ألا يهجو مسلما، فاشترى بهذا المال منه أعراض المسلمين.
لم يكن يضيع حق الإنسان في ظل الخلافة الراشدة، ومن ذلك أنه وُجِد قتيل بين حيين في خلافة عمر، ولم يُعرف القاتل، فألزم الحيان بالقسم خمسين يمينا على البراءة، ثم ألزم أقرب الحيين بدفع الدية.
وكان الخلفاء يخضعون أنفسهم للقضاء، ويحرصون على عدالته ونفاذ أحكامه في الكبير والصغير وفيهم هم كذلك، وللقضاة في هذا أخبار مشهورة، فمن ذلك أن عمر رضي الله عنه تخاصم مع أبي بن كعب في أمر، فحَكَّما زيد بن ثابت، فأتياه في منزله، فلما دخلا عليه، قال له عمر: جئناك لتقضي بيننا، وفي بيته يؤتى الحكم. فتنحى له زيد عن صدر فراشه، فقال: هاهنا يا أمير المؤمنين. فقال عمر: جرت يا زيدُ في أول قضائك، ولكن أجلسني مع خصمي. فجلسا بين يديه. فادعى أبي وأنكر عمر. فقال زيد لأبي: أعف أمير المؤمنين من اليمين، وما كنت لأسألها لأحد غيره. فحلف عمر. ثم حلف عمر لا يُدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء.
وساوم عمر بن الخطاب بفرس فركبه ليجربه فعطب، فقال لصاحبه خذ فرسك. فأبى الرجل، فاحتكما إلى شريح، فقال شريح: يا أمير المؤمنين خذ ما ابتعت أو رُد كما أخذت. فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا؟ فبعثه إلى الكوفة قاضيا. بمثل هذه السياسة كان حق الإنسان محفوظا ومكانته محروسة في عصر الخلافة الراشدة.
الخلاصة
لقد حكمت النصوص أن الفترة الذهبية للمسلمين هي فترة الخلافة الراشدة بحديث “خير الناس قرني” وحديث “فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين”.. ومع هذا فإن عصر الراشدين انتهى قبل أن يكون للمسلمين صروح علمية وقصور مشيدة وزخارف مترفة، إلا أنه كان العصر الذهبي في نشر العدل وحفظ الأمن وتوفير كرامة الإنسان.. ولهذا فإن الحضارة الإسلامية هي حضارة الإنسان قبل أن تكون حضارة البنيان، والمسلمون يتوقون للعودة لعصر الراشدين لا لعصر الأمويين والعباسيين والعثمانيين والأندلسيين، فأولئك رغم كل مفاخرهم الحضارية لم يبلغوا شأن عصر الخلافة في التقوى والعدل ونشر الأمن على الناس.. إن القراءة الإسلامية للتاريخ ترفع شأن الخلفاء الراشدين على من عداهم رغم أن ثلاثة منهم استشهدوا، وترفعهم فوق من ماتوا على فراشهم لأن هؤلاء آثروا أمن المحكومين.