نعيش نحن البشر على هذا الكوكب حياة غير هانئة لا ينعدم فيها احتمال مداهمة الألم لنا؛ إذ لا دوام للسلامة فيها مادامت الدنيا محفوفة بالأسقام وموصوفة بالبلاء، ففي أية لحظة يمكن أن يتعرض وضعنا الصحي لتدهور بالغ، خصوصا عند إصابتنا بالأمراض المزمنة، وبمجرد ما أن تستقوي علينا إلا وتتمكن من إقلاق راحتنا وتورثنا ضيقا على ضيق، بل وقد تحصد أرواحنا، فتجرع الآلام الناهشة للعافية بعد الإصابة بسيء الأسقام تجعل حياتنا بائسة يرثى لها؛ صبرنا يضعف، وسخطنا يكثر، وجزعنا يزيد عن حده، والاستسلام يبلغ فينا مبلغا عظيما، ويسهل بعد ذلك على الشيطان التغلب علينا بوساوسه، فيؤيسنا من روح الله ويوقعنا في القنوط.
وتختلف الأسقام التي نكابدها ويتباين تأثيرها علينا وإن لم تكن أعراضها ظاهرة للعيان، فكم من أشخاص نحسبهم أصحاء لكنهم على نقيض ذلك؛ فأجسادهم تتوجع بشدة إلا أنهم يخفون مصابهم الأليم بشكل جيد، وتساعدهم في ذلك الأدوية المسكنة التي تخفف من آلامهم، وتظهرهم بين الناس في وضع طبيعي كأنهم سالمون وبعافية تامة، ولا تكاد تكتشف ما بهم إلا نادرا ولو لازمتهم في سفر طويل أو أطلت المكوث معهم. وفي سياق معرض حديثي سأقدم مجموعة من رسائل النصح والتحفيز التي من خلالها يمكن تعديل التفكير غير السوي عند كثير من المبتلين في صحتهم، وتقويم هذا الاعوجاج الذهني الذي لحق بهم، لتستنهض هممهم التي خمدت جراء الظروف العصيبة التي يمرون بها، ولست هنا لمحاسبتهم على اختياراتهم وطريقة تفكيرهم؛ فتلك حريتهم الشخصية، لكن لي الحق في تقديم النصح وإرشادهم إلى ما فيه الخير لهم بالتي هي أحسن؛ وهذا مكفول لكل من كان قادرا على منح أي شيء يمكن أن ينتفع به غيره، خصوصا إن كانت له تجربة شخصية في ذلك الموضوع الذي يقدم فيه أفكاره التوجيهية.
إلى الذين تضج أجسادهم بالأوجاع، وإلى كل الأرواح التي تعجّ بالآلام، سؤوجه كلامي لكم لعله يلامس دواخلكم المتألمة ويجبر خاطركم، ويبث فيكم روح أمل جديدة ويشعل بأبدانكم الحيوية والنشاط، ويعطيكم الفرصة لرؤية آلامكم من منظور آخر؛ من خلال تقديم الخطوات المطلوبة وإبراز المعيقات الذهنية و الأخطاء التفكيرية الشائعة التي يجب تجنبها، لترفعوا من روحكم المعنوية، وتساهموا بأنفسكم في إزالة الضغط العصبي الكبير والتخفيف من العبء النفسي الذي يلاحقكم جراء مصابكم الأليم، بعد التمكن من تغيير المفاهيم الخاطئة التي ترسخت في أذهانكم وتصوراتكم السلبية التي يحملها تفكيركم، فتتجنبوا بذلك الضياع في غياهب الاكتئاب والهَويان في قيعان اليأس، وتتفادوا الوقوع فريسة للاضطرابات النفسية الخطيرة التي يصعب السيطرة عليها.
ليست شدة آلامكم هي التي تجعل شفاءكم عصيا بل انهزامكم أمامها، فيا أيها المبتلون في عافيتكم، من الثبات والكمال الصبر والرضا بالمقدور، فارضوا بما قسم الله لكم تكونوا من أعبد الناس، واصبروا صبر الكرماء طوعا لا صبر المتجزعين دفعا، فعاقبة الصبر إلى خير، وعلى قدر إيمانكم يكون الصبر والتحمل، وإدراككم لحقيقة الصبر بحد ذاته جزء أساسي من العلاج، وبسببه ستنظرون إلى أنفسكم أنكم محاربون وأبطال بإمكانكم الانتصار حتما على ما يؤلمكم. يا أيها المرضى المتأوهين بالأنين اجتنبوا النظر السلبي إلى مرضكم، وانظروا إلى معناه وفحواه الإيجابي وانبسطوا قائلين: الحمد لله، واسعوا جاهدين الابتعاد عن القلق واجتثاث جذور التوتر من نفوسكم، لكيلا ترافق الوساوس والهواجس مصابكم فتكبروه وتضخموا من حدته في أعينكم.
ولتدركوا أن الاستسلام لآلامكم لا يغير من حالكم إلى الأفضل بل يزيد من وضعكم سوءا، ويضاعف من الأضرار التي يخلفها إخفاقكم في التغلب على مصابكم الجلل، وفي أحيان كثيرة قد يفضي إلى موتكم معنويا رغم تدفق الحياة في أجسادكم، كما أن الهروب من واقع حالكم دائما له نتيجة سلبية واحدة وهي الفشل، ولن يذهب عنكم بذلك ما يوجعكم أبدا. وإن تأزمت أوضاعكم وأرغمتكم شدة آلامكم على الوقوع فريسة للإجهاد الشديد والإرهاق المزمن، فإياكم أن تدعوا اليأس يخيم على ظلال قلوبكم، كونوا كالقناديل الوهاجة تقبل كل الأشياء عدا أن تكون منطفئة، واجهوا ما تعانون منه باعتقاد واع مبني على قوة الإيمان بالنفس؛ فذلك عماد العلاج الناجع لنكستكم الصحية.
أنتم تعلمون أن أشد التمحيص سلب العافية أو اعتلالها، وصفوة البشر من الأنبياء والصديقين والصالحين الذين ابتلوا بلاء أشد ألما من مصابكم، لهذا عليكم أن توقنوا بأن ما أصابكم من بلاء في صحتكم عادة الله مع خيرة خلقه، وما ابتلاكم إلا ليهذبكم لا ليعذبكم، وما حرمكم من عافيتكم إلا ليعطيكم جزيل الثواب وعظيم الأجر، ولا ابتلاكم إلا ليعافيكم، ولا امتحنكم إلا ليصطفيكم، يبتلي بالنعم وينعم بالبلاء، فلا تضيعوا هذه الفرصة الثمينة مادام الأجل باقيا، ولتفزعوا إلى ربكم بحِملكم كله قبل أي شيء آخر، فشتان بين أن تفزعوا لله أولا، وأن تعودوا إليه آخرا بعد أن خذلكم كل من هرعتم إليهم قبل الله، وألقوا كنفكم بين يديه وعلقوا رجاءكم به وسلموا الأمر له، واسألوه الشفاء واقطعوا العلائق عن الخلائق وتحروا أوقات الإجابة، ولا تيأسوا من روح الله وإن طال البلاء فالشفاء قريب.
كم من المبتلين في صحتهم سيقرأون هذه السطور وقد اعتقدوا في السابق أن عافيتهم ذبلت ذبولا لا يرجى انتفاؤه البتة، وظنوا بأن صحتهم لن تعود مطلقا كما كانت من ذي قبل، وبرحمة من الله عادت في آخر المطاف، وكم ممن نزلت بأجسادهم آلام ثقال جعلت دفاعاتهم المناعية ضعيفة جدا، فهزلت أبدانهم واصفرَّت وجوههم وخارت قواهم، لكن لطف الله لا ينقطع؛ فبمجرد ما أن ينزل عليهم بلسما من العافية إلا ويذهب كل ما لحق بهم من سوء وأذى، فلا يمكن أن يمسح ما يصيبكم من بلاء غير الذي قدّره بعلم وإلى أجل هو بالغه. فيا أيها الجنود الذين تحاربون وتدافعون على أنفسكم وأرضكم من العدو الذي احتل جسدكم واجتاح أركان جسمكم، واصلوا المقاومة ولتتمسكوا بالصبر ولا تتراخوا حتى تسترجعوا عافيتكم وإن اشتدت الأوجاع واستفحلت الآلام التي تريد النيل منكم، اصمدوا أمامها كمجاهد أشوس.
لستم وحدكم الذين يعتصرون بالآلام، فهناك من تجرع مثلها أو أشد منها، وتوخيكم الحذر لتجنب الإحساس بها ليس بمانع لها منكم، وفي تذوق الآلام الثقال معان لا تتجلى في العافية لمن أدرك حقيقتها، وما ذلك إلا رسالة ربانية لن يصلكم مثلها في أوقات الحبور، وفي حسن التصرف مع اعتلال عافيتكم حياة إن أحسنتم التعامل مع مصابكم، فإياكم أن تستسلموا لأغلال آلامكم فتصير قطعة من العذاب. تحملوا ما بكم من آلام وأنتم موقنون بزوالها؛ فما أسرع زوالها بمصابرتكم، وما فقد الأمل في الشفاء عند كثير من الهالكين إلا من نفاد الجلد، كونوا من أصحاب النفوس العظيمة، فلا يليق بكم سوى أن تُزهروا رغم كل الآلام التي تحاصر أجسادكم، وإن كان كل ما بكم يدعو للذبول، قاوموا بثبات خريف أيامكم وما يعقبه من خيبات، لكيلا تسقطوا صرعى أمام اليأس والاكتئاب.
وفي الأخير أنا متيقن من أن هذه السطور التي كتبتها لكم رغم قلتها إلا أنها ستنثر الأمل بين جنبات أرواحكم، وتزيد من مقاومتكم وتجعلكم في مستوى التحدي المطلوب، فلا تتراخوا وتتركوا صحتكم تتصارع مع آلامكم المنهكة لأجسادكم بنظرة قاتمة وبتفكير انهزامي، ولتكن هذه الرسائل دافعا لكم للمحافظة باستمرار على الجاهزية التامة لاستكمال مسيرتكم بثبات نحو الشفاء، ولتعلموا أن المشاعر الإيجابية والأفكار المفعمة بالأمل تلعب دورا هاما في استرجاع عافيتكم؛ إذ بها تتحفز بشكل كبير قوى الشفاء الذاتي لديكم، وتذكروا أن تحرير عافيتكم مما لحق بها ملحمة بطولية ستخلدونها في تاريخكم باعتزاز ومفخرة، وما كل ما تم ذكره إلا وسيلة من الوسائل التي ينبغي أن تستعينوا بها لاستعادة عافيتكم، ولا شيء يغنيكم عن سؤال الشافي عظمت قدرته، فما الشفاء إلا منه وما غير ذلك إلا أسباب يسخرها الله تعالى لشفائكم.