في ذكرى أبي الحسن: ذلك القلم الجميل

عشرون عاما من رحيل الشيخ علامة الهند أبي الحسن علي الندوي، صاحب مؤلفات أنطقها الله على قلمه وصدق رؤيتها عبر بيانه، رباني عاش عابدا زاهدا مجاهدا، ومات مؤمنا متقنا متقيا، وافته المنية في اليوم الثاني والعشرين من رمضان عام 1999م، وقد طوي وهو منشور، ومات واسمه محفور في خفايا الضمير، ولا نبالغ لو قلنا إنه رجل بمدرسة خرجت عدة شباب ينتمون إلى القرون الثلاثة الأولى، بإيمان لا يلين وقلب لا يستكين، وروح تحيى في سبيل المبادئ والأصول.

ولد عام 1914م في قرية “تكية كلان” من مديرية رائي بريلي قرب لكهنؤ، ونشأ في أسرة متدينة نبغ منها عدد من العلماء والدعاة، وكان من أبرزه أبوه الشيخ عبد الحي صاحب كتاب “نزهة الخواطر” الملقب بابن خلكان الهند، أما أمّه فكانت خير النساء، شريفة النسب، شاعرة، عابدة، حافظة للقرآن، ومؤلّفة للكتب. وقد درجت أنا على رشحات قلمه ونبضات مداده وكنت صغيرا في كليتي سبيل الهداية الإسلامية بكيرالا، بدءا من “قراءاته الرشيدة والراشدة” التي كتبها للأطفال هدفا إلى توعيتهم وإلهامهم عن مدى الأخلاق السليمة والآداب الكريمة والبعث فيهم وعيا ناضجا عن شخصيات الأمة، ومرورا “بمنثوراته” التي ترسم سيرة الرسول، ووصولا إلى مختاراته من روائع القصص والتاريخ الإسلامي، وعطفا على ذلك بكتابه الذي احتضناه سطرا وسطرا” ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، وكنا نحفظ تعبيراته الجميلة ونقف عند مقولاته الشهيرة وأفكاره النبيلة.

كان أساتذتنا يجبروننا على مطالعة كتبه ويكلفوننا لمراجعتها، فما كل هذا التأثير والسحر الذي انطوى تحت ستر بيانه حتى انجذب إليه الطفل والكهل، والشاب والرجل، فمن أين حصل هذا الهندي العجمي هذه الملكة الراسخة لتعود أفكاره تخترق أسوار الجزيرة العربية وتستنهض شبانها وتبعث في الخلايا الجامدة روحا من جديد، فإن الرحلة إلى حياة الشيخ أبي الحسن رحلة إلى مملكة أدبية اتسع نطاقها، فيها الفلسفة والفكر الإسلامي والتاريخ والقصص، وكان هو السد المنيع في وجه المستقنعات الآسنة الأدبية، نجمت أفكاره من الآلام التي أنهكت الأمة وفرقت شملها وهي تتخبط عشواء وقد ضاعت خلافتها وسقط لواء مجدها، فما سمع في الشرق إلا دعاة القومية ووعاظ المجد العربي وهو ناصح العرب –الإسلام قومية العالم العربي فمن ابتغى العزة بغيره أذله الله- وما رأى في الغرب إلا المتربصين ومتصيدي الأخطاء وصناع الانحلال الفكري.

وقد آلمه هذا المنظر الغريب بل روعته، فانبرى بقلمه السيال دفاعا عن الأمة وإيقاظا هممها وإحياء في روحها الأمل وتذكيرا لها إذ قال” إن اخوف ما يخاف على أمة ويعرضها لكل خطر و يجعلها فريسة للمنافقين و لعبة للعابثين هو فقدان الوعي في هذه الأمة”، فسعى في حياته يلهم الوعي والثقة بالنفس في أمة مقهورة بعثرت أجزاءها وانكدرت نجومها، ولم يركن فضيلته إلى نجومية وإلى هالة قنوات بل ظل مثابرا في سبيل الدعوة الربانية، ما ارتزق، ولا تملق، ولا نافق، بل تكلم عن كبد الحقيقة، وفكر في تطبيقها، وانطلق يوحد شتى مشارب الفكر الدينية لا سيما في الهند

.الندوي دوحة فكر لم تزل تتشعب

وكان للظروف التي عايشته الندوي من التدهور الفكري والانحطاط السياسي الذي تعرض له العالم العربي والإسلامي دور فاعل في تحريك مجداف أفكاره، وفي توجيه بوصلة قلمه، فرأى أن الأمة بأمس حاجة إلى نهضة وبعثة من جديد، فطرق كل باب يتوجه نحو هذا الهدف السامي، والتقى لأجله كل من حمل في قلبه نهضة الأمة، وشاركهم همومهم وناقش معهم عن الحلول الناجعة للقضاء على أزمات تنخر عظام الأمة، وأدرك مبكرا أن الحركات التي تأسست على الأحاسيس والعواطف قاصرة عن إيجاد الحلول العلمية والعملية للمشكلات الحالية، وأن قوة الخطاب وحدها لا تحدث تغييرا ثابتا في الحياة لحد أن ساقه هذا الهدف السامي وجهه إلى خيمة المودودي وجماعته، حتى ظل عاملا نشطا فيهم لفترة غير قصيرة، ثم ترك الجماعة الإسلامية وبدأ في جولات في العواصم العربية والإسلامية، يلتقي مع علمائها وشخصياتها الكبار، ويشترك في فعاليات الحركات الإسلامية، ويخاطب فيهم ويذكرهم عن أهمية النهضة العلمية ليسترد الإسلام مجده المفقود، ويحذرهم من الاتكاء على أرائك المتعة والانكباب في مهاوي الخمول والخنوع، فكان هذا بداية “اسمعياته” التي انطلق فيها يخاطب علماء العالم الإسلامي وشعوبها، يشعل فيها جذوة الفكر العميق، ويحثهم على التمسك بدين الله وعروته الوثقى التي لا انفصام لها ويناديهم إلى التجمع تحت راية القرآن، وترك الشعارات العارية الهادمة أسس الدين من القومية والطائفية، فكان لهذا النداء أثر كبير في توليد كتلة من الشباب الذين يتفكرون في إحياء الدين من جديد بل ظلت خطاباته تشن غارة شعواء في معاقل الغرب، وتبعث الروحانية في أجساد الأمة الهامدة.

من الشخصيات التي أثرت فيه الشاعر الفيلسوف محمد إقبال، الشاعر الثائر الذي شارك نفس الهموم التي حملها الشيخ الندوي، إلا أن الندوي خاطب الأمة عبر اللغة العربية بينما ظل الشاعر إقبال يوجه الأمة إلى الخيرات عبر أشعاره الفارسية والأردية، مضمونها الفتوحات الإسلامية والمعارك الربانية التي خاضها أبطال الأمة، وكانت بينهما صداقة حميمة، يزوره الشيخ الندوي في لاهور، ويناقش معه المشكلات التي يواجهها مسلمو الهند بل مسلمو العالم، وعلى حد تعبيره “إني أحببته وشغلت به كشاعر الطموح والحب والإيمان، وكشاعر له عقيدة ودعوة ورسالة، وكأعظم ثائر على هذه الحضارة الغربية المادية، وأعظم ناقد لها وحاقد عليها”.

كان إقبال بالنسبة للشيخ الندوي مولد خواطر ومثير عواطف، وتولدت من هذه العلاقة كتابه القيم “روائع إقبال” الذي رسم فيه سيرة إقبال العاشق، الثائر، المفكر، الشاعر، وترجم بعض أبياته إلى العربية بلغة رصينة شيقة حتى لا يحرم مذاقه الأصلي، والجميل في هذا نجد تشابها واضحا بين عبارات الندوي والشاعر إقبال، فإن قصيدته حديث الروح وكتاب الندوي ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، يأتي إلى العالم تزامنا مع سقوط الخلافة وويلاتها، فالندوي يخاطب الأمة والعالم بلغة فيها ألم وأمل وعتاب ونصيحة بينما يعنف الشاعر العبقري في قصيدته حديث الروح حتى أثار هذا الكتاب جدلا في أوساط بعض العلماء، بل كل منهما سعوا في تجديد مسلمي الهند عبر أجداده الأمجاد أمثال مجدد الألف الثاني أحمد السرهندي، وسادس الخلفاء الراشدين السلطان أورنكزيب، والشيخ شاه ولي الله الدهلوي.

من فقه الدعوة عند الشيخ أبي الحسن

“إسمعوها مني صريحةً أيها العرب: بالإسلام أعزَّكم الله، لو جُمع لي العربُ في صعيدٍ واحد واستطعت أن أوجّه إليهم خطاباً تسمعه آذانهم، وتعيه قلوبهم لقلتُ لهم: أيها السادة! إنَّ الإسلام الذي جاء به محمد العربي صلى الله عليه وسلم هو منبع حياتكم، أبى الله أن تتشرفوا إلا بانتسابكم إليه وتمسُّكِكُم بأذياله والاضطلاع برسالته، والاستماتة في سبيل دينه”

في الوهلة الأولى، تراءى للقارئ المعمق أن كل ما كتبه الشيخ الندوي تكلم عن التجديد والوحدة والإصلاح الذي به تقام الدعوة والتغيير في أمة ضاع زمامها، وأفل يومها، ووضع له أسسا دعوية، منها تعميق الإيمان في مواجهة المادية، ونقد الفكرة الغربية أو ما تسمى الجاهلية العصرية، وتكلم عن هذا بكثير في ” الصراع بين الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية”، ووضح هذا النضال الكريم بأمثلة رائعة من تاريخ الصحابة والتابعين، وبين كيف استرخصوا الدنيا وباعوها بدارهم معدودة وأتى بصور نادرة حدثت في حياتهم ورسم الطرق السهلة لتنفيذها في حياتنا، ومنها نقد الفكرة القومية والعصبيات الجاهلية، وعدها هذا أخطر فتنة ابتليت بها الأمة، وما خاطب الأمة إلا وكان لهذا الموضوع حجم كبير في كلامه، كما هو واضح في كتابه “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”، وقد تكلم فيه عن الدوافع التي قادت الأمة إلى السقوط والعوامل التي نهضت بها أوروبا، بل نصح فيه العالم العربي بخصوص، هدفا إلى استنهاضهم وبناء الصحوة فيهم، ومنها استفخار الأمة بآباءها وفتوحاتها الماضية لتكون على صلة وطيدة مع أعلامها الذين غيروا مسار التاريخ.

فكتب لأجله إذا هبت ريح الإيمان ورجال الفكر والدعوة التي عبر من خلالها عن حياة الأعلام من بينهم الإمام الغزالي والإمام أحمد بن حنبل وابن تيمية مما تزيد همة الأمة الآيسة، ومنها تربية الأطفال على منهج إسلامي خالص لئلا يصطادهم صناع الفجور وعباد الخلاعة، فكتب لأجل هذه المهمة عدة مؤلفات في قالب الأدب الإسلامي تغذي بها روح الأطفال، وتصنع فيهم طفلا يأتلف مع بيئة الإسلام، وتهيئ أذهانهم وتوجه شهواتهم نحو السلوك السليم، فكان له دور كبير في تأسيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية.