بقلم أ. د. حلمي محمد القاعود
عرفته قبل خمسين عامًا مع بعض الأعلام العراقيين المحبين لدينهم وأمتهم، ومنهم اللواء الركن محمود شيت خطاب والشيخ محمد محمود الصواف- يرحمهما الله- والدكتور يوسف عز الدين والدكتور عماد الدين خليل- أطال الله في عمريهما- عدا من عرفت وراسلت من أدباء العراق وفضلائه على مدى عقود طويلة..كان الدكتور عبد الرحمن علي الحجي- يرحمه الله- يزور مصر في السبعينيات وما بعدها، وكان يعرّج على دار الاعتصام ليأنس بأهلها، وينشر بعض كتبه ومؤلفاته، ويكتب بعض مقالاته العاشقة للأندلس الضائع على صفحات المجلة، وكانت لقاءاته تفيض معرفة وعلمًا وحبًا للأندلس وتراثها ومعالمها وآثارها وتاريخها، وكأنه كان يتكلم عن العراق الذي حمله بين جنبيه وهو في الغربة.قبل أن يموت بأيام سمعت صوته من مدريد يطمئن عليّ بعد فترة طويلة لم نلتق فيها. كان سعيدًا وهو يكلّمني، فقد عثر عليّ بعد طول بحث بعد أن شغلتنا الدنيا بأحداثها ومتاعبها التي لا تتوقف، وكان ذلك الاختراع الجديد الذي يسمونه (الواتس) وسيلة الاتصال وسماع الصوت ومعرفة الأخبار كتابة وتصويرًا، وقد جمعتني به على البعد البعيد.كان الدكتور الحجي سباقًا، فلعل الغربة ومقتضياتها تفرض على صاحبها أن يتلاءم مع المخترعات الحديثة وخاصة في مجال الاتصال والتفاعل مع الدنيا من بعيد أو قريب. تحدثنا هاتفيًا وتذاكرنا الأيام البعيدة، وتواعدنا على استمرار التواصل، وطلب من ابني أن يرسل إليه على الواتس بعض ما كتبه قديمًا في “الاعتصام” التي أحتفظ بمجلداتها منذ السبعينيات حتى توقفت.وعلى غير توقع جاء النبأ الفاجع برحيل الرجل الذي أحب الأندلس وتاريخها وحضارتها وإسلامها، وتعذب بسقوطها وصراعات حكامها.. كأن اتصاله بي كان وداعًا وأنا لا أدري!ولد عبد الرحمن علي الحجي المهداوي في المقدادية (محافظة ديالي) في الأول من ديسمبر عام 1935م وتُوفي بأزمةٍ قلبيةٍ يوم الاثنين الخامس من شهر جمادى الآخرة سنة 1442 هـ= 18 من يناير سنة 2021م عن عمر يناهز ستة وثمانين عاماً، ودفن في المقبرة الإسلامية بمدريد بالأندلس كما كان يحب أن يسمي إسبانيا، بعد أن جاب الأرض شرقًا وغربًا بدءًا من الإمارات والكويت والبحرين حتى مصر والأندلس، يحمل مشعل النور والثقافة والحضارة ليسهم في إضاءة واقعه بما يقدر عليه من علم ومعرفة..لقد نشأ عصاميًا مكافحًا، وكان وهو صبي يعمل في بعض المزارع، ويواصل تعليمه في مدارس المقدادية إلى أن أكمل الثانوية، ثم انتقل للدراسة في (مصر)، وحصل على شهادة (الليسانس) في اللغة العربية وآدابها والدراسات الإسلامية من (كلية دار العلوم) بجامعة القاهرة، ثم حصل على دبلوم عام في التربية وعلم النفس من (معهد التربية العالي) بجامعة عين شمس، ودرس دراسات عليا لمدة سنة في تخصص (الساميّات) بكلية الفلسفة والآداب، جامعة مدريد، وبعدها أحرز الدكتوراه في التأريخ من (جامعة كمبردج)، بريطانيا عام (1966م)، وكانت أطروحته بعنوان: (العلاقات الدبلوماسية الأندلسية مع أوروبا الغربية خلال المُدَّة الأُموية)، ونال درجة الأستاذية من جامعة بغداد عام (1979م).لقد عاش الفترة العملية في حياته التي استغرقت الأعوام من عام 1966 تاريخ حصوله على الدكتوراه، إلى عام التقاعد 1998م في مجال التدريس، فعمل مدرسًا بقسم التاريخ بكلية الآداب، جامعة بغداد، ثم جامعة الرياض (جامعة الملك سعود)، ثم عاد إلى (جامعة بغداد)، وانتقل بعدها إلى (جامعة الإمارات)، ثم (جامعة الكويت)، ثم (جامعة صنعاء) في اليمن). وعمل بعد عام (1998م)، أستاذًا زائرًا في عدد من الجامعات والمعاهد.وآثر في أخريات حياته أن يعيش في مهجره “مدريد” الأندلسية بجوار آثار الحضارة الإسلامية ومعالمها الباقية، واختار لنفسه عزلة علمية لتأليف الكتب وتحقيقها وزيارة الآثار الأندلسية؛ واسترجاع عبق الذكريات الحضارية للمسلمين في هذا البلد الذي انطلقت منه الحضارة، فهو صاحب المقولة الشهيرة “لولاَ الإسلاَم لما قامَت الأندلُس، ولولاَ الأندَلُس لما قامَت الحضَارة الغربيَّة الحَديثة”. وهو صاحب فكرة أن الأندلس يجب أن تحظى باهتمام الدارسين والباحثين من أجل نهضة إسلامية مأمولة. شغله التعليم الذي ظل مهتما به حتى رحيله، والتاريخ الذي تخصص فيه..وقد اهتم في مجال التعليم إلى جانب التدريس داخل الجامعة، بتقديم الدورات والمحاضرات لغير المتخصصين في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي والتأريخ الأندلسي.كما اهتم اهتمامًا كبيرًا بالجانب الفني والتنظيمي في إعداد مناهج التدريس واللوائح العامة والخاصة، وإعداد المناهج الدراسية للمراحل الثانوية والجامعية عامة، ومناهج التاريخ والحضارة خاصة في بعض الدول الخليجية، وقد تولى مدة من الزمن رئاسة لجنة تعديل مناهج الاجتماعيات في دولة الإمارات، للمراحل الدراسية كافة.وقد تولي تأليف الكتب المقررة في التاريخ والحضارة للصفين الأول والثاني الإعدادي في دولـة الامـارات العربيـة المتحـدة، ويعدّ من مؤسسي جامعتها التي ترأس قسم التاريخ والآثار فيها.وإلى جانب ما سبق، فقد أشرف- رحمه الله- على عشرات الرسائل الجامعية في الماجستير والدكتوراه في العراق، والسعودية، واليمن، والكويت، والإمارات.في أعوام 2004- 2006م، اهتم بالأدب والشعر في الأندلس، فأعد مواد دراسية وبرامج لدبلوم في التاريخ الأندلسي قدمها على موقع إلكتروني من قبل الجامعة العربية المفتوحة (مملكة البحرين). تمنحه هذه الجامعة من ثلاث وحدات يسبقها وحدة المقدمة، مزوداً بالوثائق والمصادر والصور.ومع اهتمامه المباشر والمركّز بالآثار الأندلسية عموماً والتراث في الخليج، لاسيما الإمارات، فقد كانت عنايته ملحوظة بالمخطوطات في عدد من الدول العربيــة والإسلامية والأوربية. كما شارك في العديد من المؤتمرات العلمية والعالمية التي أقامتها بلدان عربية وأوربية، وألقى فيها دراساته وبحوثه التي نشر بعضها فيما بعد.وفي مجال تخصصه العلمي وهو التاريخ، فقد ألف عددًا كبيرًا من الكتب المنشورة تجاوزت العشرين، إلى جانب البحوث والدراسات والمخطوطات والمقالات التي نشرتها بعض الدوريات والمجلات، أو التي لم تنشر بعد. من أشهر مؤلفاته: التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتى سقوط غَرناطة- دار القلـم، دمشــق. صدرت طبعته الجديدة في 1429هـ = سبتمبر2008م، نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي، دار ابن كثير، بيروت، 1999م، تاريخ الموسيقى الأندلسية: أصولها، تطورها، أثرها على الموسيقى الأوربية، بيروت، 1969م، مع الأندلس لقاء ودعاء، بيروت، 1980م. (رواية لزيارة الأندلس بصحبة مجموعة من طالبات جامعة الإمارات العربية المتحدة إلى الآثار الأندلسية)، ابن زيدون- السفير الوسيط، الكويت، 1987، العَلاقات الدبلوماسية بين الأندلس وبيزنطة (القسطنطينية)، 1424هـ = 2003م، المَجْمَع الثقافي- أبو ظبي، دولة الإمارات العربية المتحدة. هجرة علماء الأندلس لدى سقوط غرناطة (ظروفها وآثارها)، 1424هـ = 2003م، المَجْمَع الثقافي – أبو ظبي، دولة الإمارات العربية المتحدة. السيرة النبوية: منهجية دراستها واستعراض أحداثها، دار ابن كثير، بيروت، 1999م. الحضارة الإسلاميـة في الأندلـس: أسسها، ميادينها، تأثيرها على الحضارة الأوربية، بيـروت، 1969م.ومن أهم كتبه كتابه الموسوعي: “السيرة النبوية.. منهجية دراستها واستعراض أحداثها”، (صدر عن “دار ابن كثير”، دمشق – بيروت، 1999م، ويقع في 456 صفحة). ويضم تسعة مباحث عن السيرة النبوية وأثرها في المجتمع المسلم، وأهميتها بوصفها أثرا تطبيقيا للإسلام ونموذجا مثاليا للدعوة، وتقديم عصر النبوة نموذجا معرفيا تاريخيا يدل على الحضارة الإسلامية وجمالياتها، من خلال السلوك النبوي الكريم، والصحابة رضوان الله عليهم، وتعاملهم في إطار الولاء للإسلام، وإقبالهم على طاعة الله تعالى، وتنفيذ أوامره. لقد عرض الكتاب مراحل حياة الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، منذ ولادته، وحتى الهجرة النبوية، ودراسة كل مرحلة من خلال منهج تحليلي يدرس الأمور المهمة مثل البيعة والهجرة وآليات الدعوة، وغير ذلك.وقد مثلت “الهجرة” محورًا مهمًا تتبع الدراسة من خلاله هجرات النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، والمسلمين بشكل عام، قبل تأسيس دولة المدينة، ومنها الهجرة إلى الحبشة، ودلالاتها على ما أسماه المؤلف بأن الإسلام إنما هو هجرة وبيعة. وتناول هذا الكتاب للسيرة النبوية يقدّم صورة علمية ملتزمة يفيد منها الدعاة والقراء عامة في فهم الأحداث التي تواجهها الأمة ومعالجتها وفقا للتصور الإسلامي الصحيح. ويأتي كتاب الحجي “التاريخ الأندلسي: من الفتح الإسلامي حتى سقوط غرناطة”(ط2، دار القلم، دمشق، 1402هـ=1981م)، ليقدم تاريخ الأندلس في سفر ضخم من خلال منهج علمي موثق ودقيق، ليرصد ثمانية عصور، تبدأ بعصر الفتح الذي دخلت فيه جيوش طارق بن زياد وموسى بن نصير إلى الأندلس، فعصر الولاة، ثم عصر الإمارة، وعصر الخلافة، وعصر ملوك الطوائف، وعصر المرابطين وعصر الموحدين، إلى عصر مملكة غرناطة آخر صفحات التاريخ الأندلسي الذي كان مجيداً في جلّ صفحاته.. حتى حدث السقوط الحزين..لاريب أن القارئ المتخصص أو القارئ العادي سيجد في هذا الكتاب زادا علميا ومعرفيا وحضاريا، من خلال صورة تحمل الخطوط الرئيسة لتجربة إنسانية فريدة بإيجابياتها العظيمة، وسلبياتها التي أدت إلى الهزيمة المروّعة، والتعرض لوحشية أعداء الإسلام والإنسانية!ولعل الدكتور الحجي من القلائل الذين تعرضوا للتراث العلمي في الأندلس فصنف كتابه “دراسة الظاهرة العلمية في المجتمع الأندلسي”(هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، المجمع الثقافي، 2007م)، ليكشف عن وجه من وجوه الحضارة الإسلامية والتعرف على إطارها الأصيل الجاد وصورتها الوضيئة وحدودها الإنسانية الواسعة. ولا تتوقف هذه الدراسة عند ذكر الجوانب العلمية وإنتاجها وأعلامها مجردة، بل ترد ذلك كله إلى الأصل الذي أنبتها. فهي تعني باستجلاء أثر الإسلام في كل خطوة حين كان المجتمع المسلم ملتزما بالإسلام- فردا وجماعة، ومجتمعا ودولة- وارتباط ذلك بالإسلام عقيدة وشريعة.في هذه الدراسة يتعرف القارئ على الصور الإسلامية والحياة من خلال حال المسلمين في الأندلس، ويطلع عبر مجتمعها المسلم على الحياة العلمية بأعرافها وظواهرها وقيمها ومنهجيتها، بالأمثلة والوقائع والشواهد النظرية والعملية.المجتمع الأندلسي كان مجتمع علم ومعرفة وأدب وثقافة وحضارة بالمعنى العام الشامل الذي يؤسس لحياة إنسانية راقية، تؤكد على دور الأندلس الكبير في الحضارة الغربية وتقدمها..إن ما كتبه الدكتور الحجي في هذا الكتاب وغيره من كتب الأندلسيات التي صنفها يعد شهادة حية على إخلاصه لدينه وأمته، ورغبته في تجاوزها الواقع الأليم الذي يعيشه المسلمون في عصور هزائمهم الراهنة، وضعفهم أمام أعدائهم وخصومهم في شتى المجالات للأسف الشديد!كان رحيل الرجل هزة عنيفة في الواقع الثقافي والفكري للأمة، حيث فقدت ركنًا شديدًا من أركان الجهاد الفكري والحضاري، وكان ثاني اثنين اهتما بالأندلس وتراثه، مع الباحث الرائد محمد عبد الله عنان- يرحمه الله، ولذا رثاه عدد كبير من الأعلام والمفكرين الذين يعرفون قدره ومكانته، وقد تصدر اتحاد علماء المسلمين، واتحاد المؤرخين في العراق، من أشادوا بالرجل ودوره في خدمة الإسلام والعلم والمعرفة على مدى عمره المديد.وقد امتدح اتحاد علماء المسلمين ما قام به الدكتور الحجي من أعمالٍ متخصصةٍ في تاريخ الأندلس تمثل جهداً كبيراً ومشروعاً شخصياً في سبيل إحياء تاريخ الأمة، والتعريف بحضارتها المنسية؛ إيماناً منه بأهمية التاريخ ودراسته في قدرته على بعث روح النهوض بالحضارة الإسلامية من جديد، وحسبه أنّه مات عاشقاً للتاريخ الإسلامي، وشيّد بمفرده صرحاً خالداً في تكوين الشخصية الحضارية، وترك لنا تراثاً صاغه من مهجته ووجدانه، وطرق لنا أبواباً لم يطرقها أحد قبله، وبموته كان خيرَ شاهدٍ على الجهد المتواصل في المعرفة، والاعتزاز بالحضارة”.رحم الله الدكتور الحجي، وجعل الفردوس الأعلى مثواه.