بقلم: محمد جعفر الهدوي
لا يخفى على من له أدنى ممارسة بالفقه الإسلامي أن له علاقة عريقة بشتى فروع العلوم الدينية من علم القرآن وعلم الحديث وعلم الكلام وغيرها من الفنون الإسلامية، ومن الواضح الجلي أيضا أنه ليس هناك أي فن له علاقة بالفقه أكثر من علاقة اللغة العربية وعلومها به، حيث إن الشريعة الإسلامية قد اعتنتها حق عنايتها واعتنقتها كل الاعتناق، حتى جعلتها لغة العبادة والنسك، وناهيك عن فضائل هذه اللغة اختيار الله بنزول كلامه الأزلي بلسان عربي مبين وكفالته بحفاظته إلى يوم الدين، واصطفاؤه أفضل البشر من بلدة العرب وتعزيزه بالقريش ولادة ومعاشرة، ثم تأييد لسانه بجوامع الكلم وجعله أحسن الناس نطقا بالضاد، حتى رفع صوته بهذا قائلا صادقا: ” أنا أفصح العرب بيد أني من قريش”.
فصارت هذه اللغة لا تنفك عن الدين الحنيف؛ تنتشر حيثما وجد الدين، وتتسع حيثما وسع الدين، وكفت هذه الخصائص دلائل تشهد بأن للغة العربية مزية مرموقة ومكانة مرقومة وأن لها ارتباطا تاما بالشريعة الإسلامية ، وكيف لا تكون لها علاقة بالفقه الإسلامي مع كونه فرعا لازما و فنا مهما لا يزال يتعاطى به كل مكلف بالغ طول حياته.
و مما لا يخفى على أحد أن للغة العربية وقواعدها النحوية يد طولى في تفريع المسائل الفقهية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأن كثيرا من المسائل الفرعية الفقهية تختلف أحكامها عند الفقهاء الجهابذة وتفترق حيثية استنباطها باختلاف القواعد النحوية والقوانين اللغوية ، فيترتب على الاختلاف عند اللغويين اختلاف الأحكام عند الأئمة الفقهية، فلذا اهتم الفقهاء المجتهدون العباقرة بالغ الاهتمام بفهم حقيقة اللغة العربية ومعرفة وجوه إعجازها وأسلوب بلاغتها وفصاحة أدائها ودقائق معاني ألفاظها، فشدوا إزارهم وشمروا عن ساقيهم لمعرفة هذه اللغة وإعجازها قبل أن يضعوا أقدامهم في الممارسة بالفقه والحديث، وكفى دليلا لهذا كلام الإمام محمد بن إدريس الشافعي “طلبت الأدب لعشرين سنة لأخدم الفقه”
فابتكروا وبادروا بحشو جعبتهم من معرفة حقائق اللغة ودقائقها ثم غاصوا وغمسوا إلى بحور آيات القرآن وثقبوا إلى أعماقها فحصلوا درا ثمينا وجوهرا نفيسا من المسائل الفقهية وأحكامها التى لم يكد يذكرها ولم يعقلها أي واحد من قبل، فنثروها في طروسهم وسطورهم.
فمما سبق قد بدت أهمية اللغة العربية عند الفقهاء وحسن معاملتهم ومعاشرتهم بها، ففي الحقيقة كانت اللغة العربية عندهم آلة مهمة من آلات الاجتهاد الذي يثاب عليه إن أصاب أو أخطأ من الله، فلذا قال محققوا العلماء إن معرفة اللغة العربية وقوانينها هي شرط من شروط المجتهدين.
فإذا أمعنا أنظارنا إلى تاريخ الفقهاء المجتهدين نجد أنهم كانوا ماهرين باللغة العربية وحاذقين بقوانينها وبارزين بفصاحتها، حتى صاروا علما يحتذي به أو نجما يهتدى به عندما تخبط الأمة خبط عشواء، بل ربما أخذ منهم علماء اللغة وأرباب البيان قوانين العربية وآدابها واحتجوا بأقوالهم ومحاوراتهم وراجعوا إليهم لحل المشتبهات وإزالة الشكوك، وحسبنا شاهدا ودليلا على هذا قول عبد الملك بن هشام صاحب المغازي في حق الإمام الشافعي رحمه الله: “هو إمام أهل مصر فى عصره فى اللغة والنحو” وقول أبي عبيد “كان الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة”، وقول عمرو بن بحر الجاحظ “نظرت في كتب هؤلاء النبغة، الذين نبغوا في العلم، فلم أر أحسن تأليفا من الشافعي، كأن لسانه ينظم الدرّ”، ولهذه القبولية التامة للغته أقره العلماء على تفرداته اللغوية في كتاب الأم والرسالة وردوا على من خالفه واعترض على أساليبه.
وهذه المهارة اللغوية لهم أثرت اللغة العربية بمصنفات ضخمة بعضها بصورة المعاجم وكتب اللغة وأخرى في صورة كتب فقهية تتضمن القواعد النحوية والمباحث اللغوية، ومن باكورة النوع الأول كتاب الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي لأبي منصور محمد بن محمد الأزهري الهروي وكتاب حلية الفقهاء لأبي الحسين أحمد بن فارس، وكل من الأزهري وابن فارس مع تأليفهما لمعجمين قيمين وهما تهذيب اللغة للأزهري ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس أفردا شرح ألفاظ الإمام الشافعي بتأليف مستقل، وكان ابن فارس يصرح بعلاقة الفقه واللغة كثيرا ويعرض من يشتغل بالمسائل الفقهية دون التعمق في اللغة وقوانينها، وكتابه فتيا فقيه العرب صنفه لهذا الغرض الوحيد، ومن قوله المشهور فيه “من قصر علمه عن اللغة وغولط غلط”
وهذا الاتجاه اللغوي لدى الفقهاء استمر في العصور المتأخرة أيضا، وظهرت مؤلفات أخرى في خدمة الكتب الفقهية في مختلف المذاهب مثل “تهذيب الأسماء واللغات” للإمام يحيى بن شرف النووي، وحاول فيه شرح ألفاظ خمسة كتب قيمة في المذهب الشافعي، وهي “المختصر” للإمام المزني و”المهذب” و”التنبيه” لأبي إسحق الشيرازي و”الوسيط” و”الوجيز” لأبي حامد الغزالي و”الروضة” له، و كتاب “المصباح المنير في غريب الشرح الكبير” لأبي العباس أحمد بن محمد الفيومي (770هـ)، معجم فقهي من هذا القبيل صنفه في شرح ألفاظ الإمام ابي القاسم الرافعي في شرحه لوجيز الغزالي رحمه الله.
وأما النوع الثاني من الاتجاه اللغوي في مصنفات الفقهاء فما يسمى بتخريج المسائل الفقهية على القواعد النحوية، وأول من تنبه بهذا الجانب الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة رحمه الله، فإنه أتى في “كتاب الأيمان” له بمباحث فقهية متنوعة وناقشها في ضوء القواعد النحوية والقوانين اللغوية، ثم تتباعت الخدمات في هذا المجال في أمهات كتب المذاهب المختلفة، ومع توفر هذه المباحث عبر الأزمان وتبعثرها في زوايا الكتب قام الإمام جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي بإفرادها بالتأليف المستقل، وصنف فيه كتابين قيمين هما “التمهيد في تخريج الفروع على الأصول” و”الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية”.
وهذه المحاولات كلها تشير إلى مساهمات الفقهاء وكتبهم في إثراء اللغة العربية وتوسيع نطاقها، وفي الجانب الآخر ساهم أرباب اللغة العربية وروادها في إشاعة الفقه ومسائله، وأتوا في إنتاجاتهم الأدبية ببعض المباحث الفقهية والمسائل الفرعية، فمن جملة هؤلاء العلماء أبو محمد القاسم بن علي الحريري صاحب “المقامات الحريرية”، وكان فارس اللغة ومارس الفقه، حيث ولد في ضواحي مدينة البصرة سنة 446هـ- 1054م، و اتصل بأبي الحسن بن فضال المجاشعي وقرأ عليه العربية و بأبي إسحاق الشيرازي وأخذ منه الفقه كما أنه سمع الحديث من عدد غير قليل من الحفاظ والمحدثين.
وذاع صيت الحريري لدى الأدباء بمقاماته في غاية الفصاحة والبلاغة، وهو العمل الأدبي الذي تذكر فيه قصة قصيرة يودعها الکاتب ما يشاء من فکرة أدبية أو فلسفية أو خاطرة وجدانية أو لمحة من لمحات الدعابة و المجون ويلتزم فيه السجع و يودعه ما أراد من طرائف و روائع و ملح و بدائع و نقد للأشخاص و المجتمع، وهذا الفن الجديد قد نبع من الأيادي السحرية له، وتقبلها أهل اللغة والأدب بقبول حسن، و أنزلوها في المنزلة العليا الشامخة، وفي المكانة الرفيعة الفائقة، وتلقاها الباحثون والشارحون و الوارقون والطالبون دراسة وشرحا وكتابة وحفظا، فتنافسوا بعضهم بعضا.
وهذه المقامات كلها تعالج الفصاحة الأدبية في أروع أسلوبها، وتعد انتاجا أدبيا وطأ الطريق للقصص والرواية في العصور المتأخرة، ولكن العجب أن كثيرا منها يحتمل معاني الفقه ومفاهيمه أيضا، وأنه يتضمن في كل فقراته وعباراته غزيرا من المسائل الفقهية الغالية وأحكاما فقهية ثمينة. فإذا فتشنا في مقاماته نجد له نماذج تسمن وأمثلة تغنى، ففي مجموعة المقامات الحريرية مقامة تسمي بـ”المقامة الطيبية” والتي تطول إلى ورقة أو ورقتين فقط، ولكن الأمر العجيب انه قد تضمن هذه المقامة القصيرة عدة مسائل فقهية يبلغ عددها المحققون إلي مائة مسائل فقهية مختلفة، فلهذا تشتهر هذه المقامة بـ” المقامة المئتية” أيضا، و يأتي الإمام الحريري كل مسئلة منها في كلمة أو كلمتين فقط وعلى صورة السؤال والجواب، وعلى أنه تناول فيها شوارد اللغة ونوادر الترکيب بأسلوب مسجوع، وبجودة التنظيم والترتيب.
فتشير هذه المساهمات للأدباء والفقهاء إلى جانب التساير والتوافق مع اللغة والفقه حيث إنهم حققوا بخدماتهم أن علاقة الفقه واللغة علاقة أخذ وعطاء، وأثبتوا أنهم كانوا أدباء وفقهاء في وقت واحد، وقد زهرت من أيديهم كتب قيمة في مجالي اللغة والفقه فاختلطت أفكارهم وأذهانهم بكل منهما وتمزجوا كتبهم بالفقه واللغة ظاهرا وباطنا وضمنا وسطحا، أو تفردوا بالتأليف في كل على حدة،
المصادر والمراجع
1) مجلة مجمع العلمي العربي، دمشق: جمادى الآخرة سنة 1377ه،
2) حلية الفقهاء لأبي الحسن أحمد بن فارس، بيروت: الشركة المتحدة للتوزيع 1983م
3) الصياغة الفقهية في العصر الحديث، هيثم بن فهد الرومي، الرياض: دار التدمرية 2012م
4) تهذيب الأسماء واللغات، يحيى بن شرف النووي، المكتبة الشاملة
5) مقامات الحريري، ابو محمد القاسم بن علي، بيروت: مطبعة المعارف 1873م