أودية كشمير، حيث المجد والكرامة

مجلة النهضة

بقلم صبغة الله الهدوي

رغم الحصار الذي يطوقهم منذ سنين بعيدة، ورغم أصوات الدبابات التي تمر بهم ليل نهار تخرج ألحان فيها شتى انفعالات من حناجر محبوسة ومن أفواه مكممة، وهي تتغني عن حرية ضاعت وعن كرامة بيعت، وهي تعزف على وتر الأسى أملا في غد يأتي بخبر سعيد، فكشمير ليست هي الأولى في سلسلة الأقطار المنكوبة بل لها سمتها الخاصة التي تلوح في تلك الوجوه العابسة التي ترمق إلى الجيوش المدججين، وإلى نقاط التفتيش المرصوصة، فلصوتها لحن جميل يسمعه كل من يرهف السمع إلى الماضي الذي يلف تلك المنطقة العرسة، وإلى الجو الذي يطير تاريخها على جناح العشق والطرب، وإلى الجبال التي تحكي مجد المغول وإلى الثلوج التي تذيب في القلب جليد الغرام وإلى هامات الأشجار المتعانقة التي تستوقف الذكريات الجميلة، ففي أرياف كشمير ذكريات تلمس الأماني السعيدة المحرومة، وفي مدنها أبهة القصور المنيفة التي قامت في وجه الرياح الجليدية، وفي أنواءها أنوار الحكايات التي ربما نسجها كبار السن لتهدد صغارها وتدللها، فكشمير هي اللحن الجميل والعرف الطيب، فمن رحم الآلام هناك أصوات خرجت لتضمد الجراح وتعيد إليها الصلاح والفلاح.

وقصة شعراء كشمير محبوكة بالألم والأسى، هنا شعراء فقدوا دواوين شعرهم في الحرائق، ومن تم تكميمهم وتغييبهم من المشهد الثقافي، وهناك من اعتقلوا باسم الإرهاب والتطرف إلا أن الكلمات تبقى فوق الضباب وترقى إلى متن السحاب، وتمتد جذور أدب المقاومة إلى الشاعر الفيلسوف محمد إقبال الذي بعث في المظلومين روح الوعي الذاتي الذي سماه “خودي، ونفخ فيهم معنى التضحية من أجل الحرية والكرامة وحثهم على الاستماتة في سبيل العزة، وفي كتابه أرمغان حجاز المتكون من عدة قصائد في الأردو والفارسية يقول “اليوم أصبح كشمير ذليلا تحت وطأة العدوان، وكنا نسميه في الأمس بالإيران الصغير”، وخلال زيارته كشمير عام 1921م ليتلمس حاله فاجأ بالظروف المزرية التي يعيشها المسلمون في مصنع القطن بعاصمة كشمير سرينغار، فعبر عنهم بعد في كتابه “بيام مشرق” يستدعيهم لنهضة شاملة في كافة أصعدة السياسة حتى لا يصبحوا لقمة سائغة للاحتلال البريطاني، وكانت كلمات إقبال تتركز على إحياء الوعي والانبعاث الذاتي حتى في الظروف الصعبة، ثم توالى بعد ذلك شعراء من أعمار مختلفة، عبروا من خلال كلماتهم النارية شتى الانفعالات التي تنتابهم من الخوف والجوع والذلة والبؤس، وكتموا الدموع الحرى بحروف ذهبية من العزم والأمل

عمر بهات من وادي لولاب.

الصور النمطية عن كشمير لم تزل كذلك، ولم تزل عبارة عن الخوف والقمع، عن الدوريات المسلحة، عن الأسلاك الشائكة المكهربة، عن السجون الضيقة الجدران، عن الجرافات التي تهدم الدور والمساجد

شاب في العشرين، يحكي تلك المعاناة التي تعرض لها الأطفال، ويشكو من فقدان الأدوية والأطعمة، يعيش في قرية تحيط بها الغابات من كل الأرجاء، خائفا يترقب كوابيس الليل التي تأتي إما في صورة جندي يطأ ببسطاره الغليظ أو في صورة إرهابي لا يعرف الرحمة، يستيقظ في الليل من أصوات الدراجات النارية التي تجدد فيه قعقعات الأسلحة، يقول في قصيدته “الحصار”:

في الشوارع حيث يعلو دخان كثيف

كشمير يحترق من جديد

إطارات، ومطاطات، وخشبات

النار هنا كالأمواج تتلهب، الجو يتسعر

الطعام قليل، والحليب أندر

نتجهر من أجل حرب صغيرة

سنكافح من أجل المستقبل

إنشا مالك سرينغار

فتاة تعيش الآن في إيران، حاملة كل الذكريات المأساوية التي أصابتها حين أقامت في كشمير، ينبض قلبها للحرية والشموخ، ولم تزل غاضبة عبر ديوانه الشعري الذي نادته بـ”قصائد للفناء”، حيث تقول “أنا الشارع نفسه، وأنا الحجارة التي تكاد ترشق على الجنود لتحطم تلك المطامع السوداء”، وقد مرت بعدة تجارب قاسية التي جعلتها تحتج كلما ذكرت كشمير، وتأسى على تلك الليالي التي كفر النجوم غمامها، وذات مرة شهدت لحادثة مؤلمة وذلك أنها رأت مقتل طفل مراهق اسمه طفيل أحمد وهو في طريقه إلى المدرسة، فكشمير في عينها مجرد خيال له ضباب، خيم عليه الإرهاب والقمع بكل أطيافه، وإنشا مالك تعبر عن مشاعره الهائجة عبر هذه القصيدة.

ثلاثة تعيش بأمنيات تكاد تحمل

بأسباب تهيج

وسط أغنية

وسط طريق طويل

طريق الاكتشافات

ثلاثة تعيش

من نحل تهمهم

وطيور تشد وتصدح

تجلس من شجرة وشجرة

عظمى فلك سرينغار

عاشت في ظلمات قاسية هي بريئة منها تماما، وهي تقول عن أشعارها “ملجأ” حيث هي نهاية مطاف كل مواطن كشميري يريد التحرر من الكوابيس، وهي تؤكد أنه ليس هناك فارق بين النضال في الشوارع ولا في المقاومة عبر المشاعر، كلها تتنبى فكرة واحدة وهي الحرية والكرامة، قصيدتها تقول

في وطننا

نحن كلنا شعراء

شعراء الضياع

شعراء الذكريات

شعراء الجنون

محمد دبيش سريناغار

شاعر نشر عدة قصائد ثورية وأصدر كتابا عنونه “قصة المنفى”، وفي جحيم ذكرياته عشرات الصور المؤلمة التي حدثت في التسعينات حيث عادت وديان كشمير تثور، وعاثت فيها المليشيات المدعومة من مصادر غامضة، واصطادت السكان الأبرياء، ويعتبر ديوانه أقوى سلاح في وجه العنف وصناع الإرهاب، ويرى أن كل من يقرأ ديوانه يصبح جزءا من كتيبته الأدبية المقاومة”، ويصرخ قائلا “أبياتي هي الحجارة ذاتها”.

وعلى امتداد الزمن نشأت في شعفات كشمير أدباء وشعراء يحملون هم الحرية والكرامة، رسموا الطريق عبر أقلامهم التي تمثلت صوت روحهم بعد أن خفتت أصوات الغريزة أو بعد كممت أصوات الفطرة فتكلموا عبر أصوات الروح التي تخترق كل الأسوار، وتهدم كل الصروح، وتأتي رواية الكاتبة ميرزا وحيدة “الأوراق الذهبية” لترسم لك الصور المؤلمة التي تتلمس أوضاع المجتمع الكشميري الذي يتلوى بين الصراعات الدامية، وهي تحكي لك مدى بؤس الأطفال والفتيات التي يفترسها “المجهولون”، وهي تفتح العيون المنغلقة بتلك المعطيات التي حصدتها من أكبر سجن مفتوح في الدنيا، وأخرى هي بشارت بير التي كتبت مذكرات حرب كشمير وسجلتها في كتابها الموسوم بـ”ليلة حظر التجول”، وتلتها رواية سندارت جيجو الذي كتب عن نزوح الهندوس المزري من كشمير لما هم يتعرضون للعنف والتنكيل على حد تعبيره، وكتاب “الأرملة جزئيا” بيانات تسلط الضوء على الأرامل التي غاب أزواجهن بشكل غامض، يتضمن أحداثا صادمة تعمل وراء تغييب الرجال من سطح الوجود.

فالصور النمطية عن كشمير لم تزل كذلك، ولم تزل عبارة عن الخوف والقمع، عن الدوريات المسلحة، عن الأسلاك الشائكة المكهربة، عن السجون الضيقة الجدران، عن الجرافات التي تهدم الدور والمساجد، ولم تزل كشمير عبارات عن أحزان كاويات وقلوب ضارعات وأيتام وأرامل متروكات على الأرصفة، وهناك فرق كبير يا سادة بين كشمير الماضي وكشمير اليوم، بينما كان كشمير الماضي يعزف على أوتار الجمال والأمل أصبح حاضر كشمير خيط مرثية وتعزية، وعلى حد تعبير الوزير الأعلى السابق لولاية كيرالا الهندية سي إتش محمد كويا “في الوقت الذي تنتج الأحجار في كيرالا لبناء المستشفيات والفنادق الضخمة والمباني الفخمة هناك في كشمير تبقى فوق القبور جاثمة أو منتصبة”، فتلك مقولة سبقت حدود الزمان، وإلى الآن تبقى تلك المقولة بادية في أودية كشمير، كشمير المقابرـ كشمير المجازر.