هكذا خسر العالم والعرب بانحطاط المسلمين

بقلم صبغة الله الهدوي

“إلى متى أيها العرب، تصرفون قواكم الجبارة التي فتحتم بها العالم القديم في ميادين ضيقة محدودة وإلى متى ينحصر هذا السيل العرم الذي جرف بالأمس الحكومات في حدود هذا الوادي الضيق، تصطرع أمواجه ويلتهم بعضه بعضا إليكم هذا العالم الإنساني الفسيح الذي اختاركم الله لقيادته واجتباكم لهدايته، وكانت البعثة المحمدية فاتحة هذا العهد الجديد في تاريخ أمتكم وفي تاريخ العالم جميعا، وفي مصيركم ومصير العالم جميعا فاحتضنوا هذه الدعوة الإسلامية من جديد وتفانوا في سبيلها وجاهدوا فيها”.

مضى ستة وتسعون عاما من تدهور الخلافة العثمانية، بل مضى تسعون عاما من ضياع القدس لفظا ومعنى، وها نحن نعيش ذكرى النكسة النكراء

هذه بعض من السطور التي رسمها العالم الكبير أبو الحسن الندوي في كتابه ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، السطور التي تعيد لنا الوعي المفقود من جسد أمتنا وتستدعي لنا مدى الانتصارات التي حققها العالم العربي على متن القرون، حقا هذه الكلمات تبعث فينا روح الأمل وتشيد لنا صروحا تخفق فيها ألوية الحق والنجاح، وترى خلالها لمعات سيوفه الصارمة، لقد توجه الندوي إلى العالم العربي بحماسته الدافقة وحاول إشعاره عن ماضيه الفاخر، وأيامه البارقة، فعلى ملتقى من التاريخ نقف على أطلاله ونطل إلى شعب تثقبت روحه وتسربت إليه الشهوات وأغلقت مصاريع الجهاد والزهد، أسير النفط ومكتوف اليد، وهذا الشعب هو نفسه الذي تغير من رعاة الغنم إلى قواد الأمم ثم انحط من متن السمو والإباء إلى ميادين كرة القدم، هكذا تقلبت بنا الأيام ولعبت دورها الفاعل في طمس هويته.

   
مضى ستة وتسعون عاما من تدهور الخلافة العثمانية وتغير البوصلة، وافتراق سبل الأمة من سطح الوجود، بل مضى تسعون عاما من ضياع القدس لفظا ومعنى، وها نحن نعيش ذكرى النكسة النكراء التي لا نرغب في إحياء لياليها وأيامها بعد أن تجرعنا مرارة النكبة الكبرى، حين تفككت الوحدات العربية وانكسرت الشوكة المصرية وتنكست الأعلام الأبية حزنا من الخسارة المتراكمة، ومضت نخوتنا أسطورة ومجازفة قصصية، ومر القرن العشرون والواحد والعشرون وفي دفتيه ذكريات أليمة وتقلبات مصيرية سياسية، وظاهرات كارثية دككت حصون الدين، ومراحل جذرية انبثقت في ديار الإسلام، تثقبت معاقل الدين سياسة ودولة، وتسربت الجراثيم والبراغيث من الكل الشقوق، وتأرجحت الأمة في درب الاستقرار والأمن، وانكسرت شوكة المسلمين في مد الحضارة الغربية وجزرها، واشتغلوا فيما بينهم واصطدموا في سفاسف الأمور وأشهروا السيوف، فبنوا في العراق قصر الكسرى وفي الشام قصر القيصر.

ظلمات توشحت في جو الأمة، حيث ساد فيها الهلع والقلق على مستقبلهم وماضيهم، في كل واد مسلسلات من الأشجان وكوابيس تبدد طموحات العودة، وسقطت العواصم الإسلامية بأيدي حراسها مع أن الأمة لا تتحمل لسقوط بعد الأندلس والقدس.

  
ظلمات توشحت في جو الأمة، حيث ساد فيها الهلع والقلق على مستقبلهم وماضيهم، في كل واد مسلسلات من الأشجان وكوابيس تبدد طموحات العودة، وسقطت العواصم الإسلامية بأيدي حراسها مع أن الأمة لا تتحمل لسقوط بعد الأندلس والقدس.

  
فخلاصة هذين القرنين تستدعي مراجعة عملاقة في تيارات الأمة القادمة حتى لا تتكرر هذه الكبوة أوو الكارثة فلا تطيق الأمة للصحوة إلا بانحناء رؤوسهم وخفض هاماتهم ذلا وهوانا، لقد رسم الندوي رحمه الله في باكورته ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين عن البواعث التي أدت إلى انهيار الإسلام وانكماش بدره، وهيمنة الغرب وقيادتها المحتكرة على سائر الميادين التي احتلها المسلمون، فمن أين نبدأ مرحلة التغيير والنهضة هل هي تنطلق بتحريف ماضينا وتجديد أفكارنا متعرية من عبق التراث والتقليد وتناسيا عن هؤلاء الأجداد الذين نفذوا أوامر الله ليل نهار أم بانقيادنا لطموحات الغرب والانهزام أمام مكرهم حياة وثقافة.

مع أننا نملك ثروة ضخمة تتسع البحر والصحراء، فهذه أسئلة أطرحها أمام الشباب العربي الذي حن إليه الندوي رحمه الله كتابة وخطابة واشتاق إلى فترة تنطلق فيها الجزيرة العربية بمواكبة تطلعات الأمة الإسلامية وتسهم لها إنجازات كبيرة دنيا ودينا، إلى فترة لا ترسم فيها الجزيرة شعبا من الأمم المتناحرة ولا من القبائل المنتحرة لمتعة العيش ولذة الدنيا إلى زمان تصير فيه نوقنا وخيولنا أقوى من الدبابات والرشاشات إلى زمان يلتقي فيه الأكراد والأتراك والعرب عناقا ويقاسمون فيه حديث الأمة ويتبادلون فيه فكرة النهضة والتقدم ويراجعون تاريخهم ويستعيدون عبرهم حتى لا تشكل الكبوات يأسا وقلقا في مسير النهضة.

فإن الوعي الذي أوجده الوحي الإسلامي والذي احتضنه أجداد العربية من بعد لا زال متبقيا في صميم هذا الشعب، ويشع قبساته حين وآخر، وبه فقط ترعرع الأمة العربية من رعاة الجبال والشعوب إلى رعاة الأمم والقلوب، فماذا كانت البطارية التي أذكت تلك الخواطر البطولية والخيالات الرائعة، إنها الإسلام والعيش في كنف القرآن وعلى ضفاف الحديث، فلا محالة من هذا الفتح والقيادة للعالم إلا عدنا من جاهليتنا إلى إسلاميتنا واشتغلنا بديننا وتركنا الدنيا وراء ظهورنا.

  
فلسفة الانتصارات التي حققها العرب 
قبل الإسلام كان العرب حطاما تذروه الريح مبعثر
راوية تسهر حتى الفجر وتنام إلى الليل تسهر في وادي عبقر
شاعرهم يمدح ملكا يرجو كسرى والأخر يمدح ملكا يرجو ود القيصر

لقد خرجوا من ضيق جزيرة العرب ومن ضيق الحياة فيها ومن ضيق التفكير في مسائلها ومصالحها ومن ضيق التناحر على سيادتها ومن ضيق التكالب على حطامها القليل وملكها الضئيل وعيشها الذليل، إلى عالم جديد من السيادة الروحية والخلقية والعلمية والسياسية، لقد قام العالم الكبير على أساس العقيدة الواحدة والإيمان العميق والصلة الروحية القوية، يربطه الإسلام ولا غير، وكان أوسع عالم عرفه التاريخ، فإن الطريق إلى هذه القيادة التي سقطت على حين غفلة من أهلها لممهدة ميسورة للعرب، وهي الطريق الوحيدة التي جربوها في عهدهم الأول الإخلاص للدعوة الإسلامية واحتضانها وتبنيها والتفاني في سبيلها وتفضيل منهج الحياة الإسلامي على جميع مناهج الحياة.

  
وفي نفس اللحظة، نشارك أخبارا مخجلة عن العالم العربي ونرى الأخوة يتناسون عن أجدادهم ويتمركزون في حقول النفط والبترول ويضعون هم الأمة ويدهسونه خلف المليارات المنصبة من أعطان الصهاينة ومن مصادر مجهولة، ولا نراهم يتفقون إلا على الخيبة والنكسة والمؤامرة، ومع ذلك لهم فئات ومنصات عالمية تصدر قرارات طارئة جوفاء مرة وأخرى، فمتى أصبحنا نتكالب على شعارات لا تسمن ولا تغني من الوطني العربي والمجد العربي حتى تخلينا عن الرسالة الأخيرة المحمدية، وتورطنا نحن في تدمير هويتنا فعدنا أوسا وخزرج أما يمتلك العالم العربي أهمية كبيرة في خريطة العالم السياسية، أما له منابع الثروة والقوة الكبرى المغرية، الذهب الأسود الذي هو دم الجسم الصناعي والحربي اليوم، ولأجله يحترق الشرق الأوسط وتحترق مدن التراث الإسلامي وتجف شواطئ الفرات والنيل، أما هو الذي يوصل الشرق بالغرب بل يحرص عليه كل المتربصين، لقد فتحنا العالم ومضينا ننتصر والنفط مدفونة في ودياننا وصحارينا، فلما نبشنا النفط ووأدنا الإيمان في مكانها أصبح العالم يئد حضارتنا في عقر دارنا، أما تنفد النفط ولا تنفد كلمات ربها.

لا يليق بالأمة الإسلامية التصومع في الاعتزاز بأصالة الذات وعفة الصلب، بل لا بد لها من يقظة وسير حثيث نحو الفلق النير

الإيمان هو قوة العالم العربي والإسلامي “كنا أمة ترعى الغنم، تسوق القطعان إلى الهضبات والوديان، فجاء إلينا الإسلام وبث فينا بذور الأمل والرجاء والبصيرة حتى أخذنا ناصية الأمم، وعمرنا المساجد والعواصم، ورسمنا خريطة العالم من جديد، وامتلكنا أثرى الأراضي وأروع البقاع، ثم تركنا الدين وخلينا أمره فلم يلبث حتى غمرتنا سحب اليأس الداكنة وشغلتنا الجهاز عن الصلاة والجهاد، فها هنا تسوقنا الأمم بعصاها وسياطها، وتضرب في ذاتنا وهويتنا ونحن مشغولون بكرة القدم، وحريصون على رفع أعلام الأجانب ونصفق لهم، ونتواكل ثم نتواكل في قضية المقدسات الإسلامية”.

  
الأمة الإسلامية لا تنهض إلا بالتحرر من سطوة الغرب ولا تبعث إلا بالرجوع إلى ما خلقوا لأجله، من رسالة التوحيد وتحرير العباد من ضيق الملذات الفانية، والخروج من الاندفاعات العشوائية وراء كل التيارات وإن صدرت من الكمائن، فالإيمان الذي يخفق كالعلم العالي هو وحده يخلص الأمة من أمثال هذه المظاهر الخائبة والكبوات المنتابة، ولا يليق بها التستر خلف التراث التليد والتراجع من مبادئها ومقوماتها الخالدة، ولا يليق بها التصومع في الاعتزاز بأصالة الذات وعفة الصلب، بل لا بد لها من يقظة وسير حثيث نحو الفلق النير وابتكار الآلات الجديدة لمواجهة الأخطار المتراكمة وتخطيط الاستراتيجية السامية، والعين الحادة لمراقبة التجسسات التي تودي بوجودة الأمة.

   
وسيبقى الإسلام ماضيا رغم كل العراقيل وسيلقم الحجر لكل من فغرت أفواهه وصعرت خده بشأن الأمة، وتحيي الأمة التي عاشت مئات القرون في ظل الحضارات الرائعة وتحت السلام والأمن والاستقرار، وستصير هذه المشاكل والمشقات فقاعات تحدث في الفين والآخر، ونردد دائما “وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين” بل كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.