بقلم أ.د. حلمي محمد القاعود
قال الروائي الإيطالي الأشهر “البرتو مورافيا” في حيث صحفي للأهرام لدى زيارته إلى مصر قبل عقود، إن القصص القرآني منبع عظيم للفن القصصي الإنساني. ثم أخبر بعد سنوات من هذا اللقاء للكاتب الليبي عبد الرحمن شلقم (وزير سابق، ومندوب سابق أيضا في الأمم المتحدة) أنه تعلم من الأدب العربي وأفاد منه، وأشاد بألف ليلة وليلة. (الشرق الأوسط، العدد [15138]، 16 رمضان 1441 هــ= 09 مايو 2020 مـ ).
مورافيا، الكاتب الذي تبيع رواياته كميات ضخمة من النسخ في إيطاليا (تصل مبيعات الرواية الواحدة هناك نصف مليون نسخة عدا ما يترجم ويوزع في الخارج)، ينبهر بالقصص القرآني وألف ليلة، ويرى أنه أمام ما يوجه إليه من انتقادات في رواياته؛ أقل جرأة من الليالي في التناول.
يشغلني في مقولات مورافيا، أنه لم يصف أدبنا العربي الإسلامي بالطائفي كما يحلو لبعض أبناء جلدتنا، حين يرون أن إعادة أدبنا إلى طريقه الطبيعي الإسلامي بأنها عملية تدْيين طائفية مقيتة.
كان ألبرتو مورافيا شاعراً وفيلسوفاً، كما يصفه الأستاذ شلقم، اختار الرواية وعاءً لعصارة فكره، باللغة الإيطالية التي ولدت من رحم ضربات الزمان وانبثاق عصر النهضة، وفي حروفها وكلماتها يسكن الدين والشعر والفلسفة والأغاني وأنفاس الحب. هي لغة وطنية حبيسة أرضها لا يتكلم بها شعب آخر على الأرض سوى الإيطاليين. من دانتي اليجييري وميكيافلي والشاعر دانوزيو والفيلسوف القسيس توما الإكويني، ترعرعت لغة الإبداع الشامل. تطورت من اللاتينية إلى الفولجارية، ثم اللغة الإيطالية الحديثة.
كان شلقم قد حمل وساما منحه له القذافي، فقبله مورافيا لأنه من ليبيا التي يحمل أهلها مشاعر إنسانية، قائلا له: أنا أقبل هذه الهدية لسبب واحد، أنها من بلاد عاش فيها أخي أياماً مفعمة بالحب والوفاء رغم الحرب (قُتل أخوه في ليبيا)، أرجوك لا تعلن عن هذا الوسام، فأنا لا أتفق مع القذافي في شيء، لكنني أحب كل ما هو ليبي! كما أدان الاحتلال الإيطالي لليبيا الذي وصفه بالفاشي، وندد بما فعله موسوليني وجراسياني بالشعب الليبي من مذابح وإبادة واعتقال في معسكرات جماعية. هذا الأديب غير المسلم الذي يعبر عن إنسانيته لدرجة رفض ممارسات القذافي الذي يهديه وساما، وإدانة قادة بلاده الغزاة، يعجب بالقصص القرآني والأدب العربي، ولا يرى فيهما طائفية مقيتة، ولا عنصرية دينية. لقد تحدث عن الإسلام والعرب وحضارتهم وفكرهم الذي ألهم الدنيا وأسهم في تحريك النهضة الأوروبية.. ويضيف شلقم بأن الأسى ظهر على وجه الروائي العجوز، وقال: ليت موسوليني عرف الحب، وعَلِمَ أن القلوب أقوى من المدافع، لم يكتشف ما في العرب من شحنات للحب، مثلما كان في عقولهم توقد الفكر والفلسفة. اعتَقَدَ أن العرب كتل من الهمج ذهب بقواته ليسيطر عليهم، ويفرض أفكاره الفاشية. ويذكر شلقم أنه زار مورافيا مرات كثيرة، وكان أغلب حديثه عن غرناطة وبغداد، أما طرابلس فلا تغيب أبداً.
(انظر أيضا ما كتبه عيسى الناعوري حول مورافيا في كتابه “رحلة إلى إيطاليا 1960 – 1961” صدر 2004).
لم يكن الإسلام عنصريا أو طائفيا في يوم من الأيام، فالقرآن الكريم علمنا أن بني آدم كلهم على اختلاف أعراقهم وألوانهم وانتماءاتهم لهم التكريم جميعا والأفضلية على كثير من المخلوقات، يقول تعالى: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا” (الإسراء:70). والمفاضلة بين البشر في الإسلام لا تتكئ علي الأصل أو الحسب أو النسب أو العرق أو اللون أو الطائفة أو المذهب, إنما تقوم على التقوى: “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ”( الحجرات: 13).
هناك نصوص كثيرة ومواقف عديدة تؤكد على إنسانية الإسلام التي تفوق ما يتحدث به الغرب الاستعماري وكتابه ومفكروه وشعراؤه وصنائعه في بلادنا التعيسة، ولعل أصدق مقولة أدركت قيمة الإسلام في معالجة العنصرية هي مقولة مالكوم إكس (1925 – 1965) السياسي الأميركي وداعية حقوق الإنسان: “إن أمريكا فى حاجة إلى فهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذى يملك حل مشكلات العنصرية فيها”-
يتصور بعض الناس أن إعادة الأدب العربي إلى مساره الطبيعي ، يعني تدْيينه، أي تحويله إلى مواعظ وخطب منبرية وهذا ما لم يقل به أحد من النقاد أو الدارسين، ومع ما تحتاجه الخطب والمواعظ من موهبة وفن، فإن الرواية تحتاج إلى موهبة ساطعة وخبرة عميقة ووعي فني على مستوى عال وتصور فكري ناضج.
وينبغي أن نذكر أن الفنون كلها تصدر عن تصوّر ما للكون والحياة والإنسان، تؤكد ذلك الآداب البشرية منذ طفولة التاريخ، فكل حضارة ينبئ أدبها عن عقيدة معينة، تأمل أدب المصريين القدماء والفرس والإغريق والرومان والعرب قبل الإسلام والأوربيين في العصور المظلمة وعصر النهضة حتى العصر الحالي تجد وراء النصوص عقيدة ما، سماوية أو وضعية، ولعل معتقداتالماركسيين، والوجوديين والعدميين، خير الأمثلة بحكم قربها الزمني فهي تؤكد على ارتكاز الأدب على التصور الماركسي أو الوجودي أو العدمي. وأظن أن من واجب الأديب المسلم أن يرتكز على التصور الإسلامي في أدبه، ليأتي إنتاجه فوّاحا بعبير الإنسانية التي تظلل الناس جميعا.
لقد عرف أدبنا العربي في بعض العصور خروجا على التصور الإسلامي، وكان هذا الخروج استثناء في سياق عام، عاد أصحابه إلى روح الإسلام ونظرته الرحبة، أو اعترفوا بأنهم خارجون..
من يقرأ الأدب الغربي قديما وحديثا في عمومه يجد حرصا على وجود الأثر الديني، وفي روايات أعلام الفن الروائي الأوربي وجود لافت لمفردات الدين وتصوراته، لدرجة أن فيكتور هوجو جعل روايته الضخمة “أحدب نوتردام” تدور أحداثها وتتحرك شخصياتها من داخل الكنيسة الشهيرة أو ترتبط بها، ومن يقرأ تشيخوف وديستويفسكي وجوجول وجوركي وتولستوي وتورجينيف وموباسان وبلزاك وديكنز وتوماس هاردي والأخوات برونتي وسومرست موم وعشرات غيرهم من عباقرة القصة والرواية في الغرب؛ سيجد حضورا لا فتا للتصوّر المسيحي حتى لو لم يؤمن به الكاتب، بل إننا في عصرنا الحاضر الذي يوصف بأن كتّابه لا يلقون بالا للدين، نرى كاتبا شهيرا مثل البرازيلي باولو كويهلو، الذي يكتب بالبرتغالية، ينقش آيات الإنجيل في مقدمات فصول روايته (المنحرفة)، فضلا عن حضور آيات أخرى في ثنايا الرواية وحوارتها، ولا تخلو واحدة من رواياته من التصور الديني، ولا يستطيع أحد من نقادنا أن يتهمه بأنه يقوم بتديين الأدب! وبالمناسبة فهو منبهر بالخيال العربي في السرد ويستدعيه أحيانا إعجابا به.
حين هيمن الشيوعيون وأشباههم في الستينيات وما بعدها حتى اليوم على الحياة الأدبية والثقافية والفنية والدعائية والتعليمية في بعض البلاد العربية، فرضوا نظريتهم الماركسية الأدبية، وأحلوها محل الدين أو أكثر، وتراجع الأدب والثقافة والفن والإعلام والتعليم، بفعل الإقصاء والاستئصال والالتزام الماركسي المعادي للإسلام الذي يرفض المشاركة مع الآخرين وخاصة من الإسلاميين، فلم نر أدبا ساطعا أو فنا مضيئا أو ثقافة رفيعة أو إعلاما حقيقيا أو تعليما يشرف الأوطان. في العصر الذي سبق 1952 عرفت الأمة وكان معظمها تحت الاحتلال الغربي مساحة واسعة من حرية التعبير والتفكير والحوار، وكان الأدب في أغلبه يصدر عن تصور إسلامي، ومعظم الإنتاج الأدبي يمتاح من مشكاة الإسلام وإن لم يعلن عن ذلك، حتى الأدباء العرب غير المسلمين تأثروا بالتصوّر الإسلامي، وقد خصّصتُ لشعرائهم فصلا طويلا في كتابي “محمد- صلى الله عليه وسلم- في الشعر العربي الحديث، ط2، دار النشر الدولي الرياض،1429هـ = 2009م “، واستطاع الأدباء دون مساعدة من الدولة أو تضييق عليهم؛ أن ينشئوا صحفا ومجلات أدبية راقية تتحدث بها الركبان، ويكتب فيها أصحاب اللسان العربي من الهند إلى موريتانيا، وكانت توزع بكميات هائلة، كان هناك على سبيل المثال: البلاغ ،الجهاد، أبولو، الرسالة، الثقافة، الرواية، مجلتي، الكاتب المصري، المجلة الجديدة، الراوي الجديد، الفكر الجديد، روايات الأسبوع، النديم القصصي، الفجر الجديد، الجامعة، وغيرها، وكان يتجاور فيها المختلفون فكرا ورؤية ويتحاورون حوارا ثقافيا وأدبيا وعلميا يثمر أفكارا ورؤى وتصورات يقتنع بها القراء، كما شهدت ميلاد جيل الرواد في الرواية والقصة، وعرف الناس من خلالها محمد حسين هيكل، وطه حسين، ومحمود تيمور، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ وعلى أحمد باكثير، وإبراهيم المازني، ومحمد لطفي جمعة، ومحمود كامل، ويحيى حقي، وعبد الحميد جوة السحار، وإبراهيم المصري ومحمد سعيد العريان ومحمد عبد الحليم عبد الله، ومحمد فريد أبو حديد، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، ويوسف جوهر…، وغيرهم.
وفي أدبنا المعاصر نجد الأدباء غير المسلمين ومن تزيّا منهم برداء ماركسي أو علماني، يعيش مع التصور الديني المسيحي في ثنايا أعماله، ويجد ترحيبا وإشادة من نقادنا، حتى لوكان بعضهم يبدي تعصبا وبغضا للإسلام. الجيل السابق من أول يوسف الشاروني ويوسف جوهر ولويس عوض حتى غالي شكري وإدوار الخراط ورءوف مسعد عبروا عن انتمائهم غير الإسلامي ولم يتهمهم أحد بتديين الأدب أو القصة أو الرواية.
في الجيل الحالي من هؤلاء يبدو التعصب واضحا وصريحا وفجا، خذ على سبيل المثال أحدهم يدعي “صبحي موسى”، كتب بعض الروايات ولم يكتف بعرض التصور غير الإسلامي، بل هاجم الإسلام وشوهه من خلال الذريعة القبيحة التي تسمى “الإرهاب”، ومن رواياته، صمت الكهنة، حمامة بيضاء، المؤلف، أساطير رجل الثلاثاء، الموريسكى الأخير، وصلاة خاصة، التي يوجه فيها- كما يقول، في الأهرام2/2/2019- التحية لما يسمى الثقافة القبطية!المفارقة أن روايات هذا الشخص تلقى ترحيبا كبيرا، وحفاوة بالغة في الصحف العريقة والحديثة، وأجهزة الدعاية الرسمية والخاصة، والحظائر الثقافية داخل مصر وخارجها، لدرجة أن ناقدا حظائريا كبيرا خصص له ثلاث مقالات طويلة على مدى ثلاثة أسابيع في “الأهرام” ليشيد به وبرواية “أساطير رجل الثلاثاء”( هل في الاسم دلالة ما غير الدلالة المباشرة في الرواية؟)، حيث يكيل فيها الاتهامات لأحد المسلمين بزعم أنه إرهابي، وبالطبع لا نجد أبدا في المقابل مسلما صالحا يحمل المشاعر الإنسانية، أو يكره العنف والدم انطلاقا من عقيدته.
لم يقل أحد لهذا الشخص المتعصب إنك تُديّن الأدب، ولكن الحساسية الفائقة تشتعل عند ذكر الإسلام أو وصف الإسلامي، فلا تسامح، ولا تقبل للآخر، ولا إيمان بحقه في الاعتقاد والاختلاف والتعبير!
أما الأدب اليهودي في فلسطين المحتلة، فحدث ولا حرج، فأشعارهم ورواياتهم ومسرحياتهم تكاد تكون شروحا للتوراة والتلمود نصوصا وتطبيقا، وقد فاز يوسف عجنون (شموئيل) بجائزة نوبل تقديرا لروحه الدينية اليهودية.
لسنا ضد أحد حين يعبر عن معتقداته، أو من خلال تصوراته الدينية والأيديولوجية، بل نتسامح معه إذا أساء إلى المسلمين، بعد أن نبين له خطأ موقفه، ولكن يفترض فيه أن يحترم غيره، وحقه في التعبير انطلاقا من معتقداته وتصوراته. ولا يتهمه بأن ذلك ينقص من إنسانيته أو إنسانية الأدب.
هناك من يرى أن الفن الروائي أو الفنون السردية عموما، هي فنون أوروبية. وهذا قد يكون صحيحا في بعض الجوانب وخاصة التقاليد الفنية الحديثة، ولكن أدبنا العربي عرف السرد بطريقة عربية مميزة قبل ظهور طرق السرد الغربية الحديثة. فقد كان الرواة في الجاهلية يقصون عن أيام العرب وحروبهم القبلية فيما بينهم أو مع غيرهم من الفرس والروم، وعند ما جاء الإسلام حمل القرآن الكريم قصص الأنبياء وغيرهم (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ” (يوسف: 3)، وكذلك الحديث الذي حمل عشرات القصص التي كانت تأتي للتمثيل والشرح والتوضيح، وازدهرت مهمة الرواة بمجيء الإسلام حيث كانوا يجلسون في المساجد لخدمة الدعوة الدينية أولا، ثم خدمة السياسة وخاصة في عهد معاوية وما بعده، ونقل العرب بعد الفتوح إلى لغتهم قصصا من بلاد أخرى الفرس والروم الهنود والمصريين وغيرهم من الأمم القديمة. كما رأينا مثلا في “كليلة ودمنة”، واتسع خيالهم وتطور فن القص فأنشأوا المقامات، وألفوا الحكايات وحفلت كتب التراث الموسوعية في الأدب بألوان عديدة من القصص الديني والاجتماعي والخيالي، وفي العصور الوسيطة ازدهر الأدب الشعبي، وظهر الكتاب القصصي الأشهر “ألف ليلة وليلة”، الذي كانت ترجمته إلى اللغات الأوربية فتحا كبيرا بالنسبة لفن السرد عندهم. وصار ملهما لكثير من الأوربيين وغيرهم، وقد فصلت الحديث عن تطور فن القصة في كتابي “تطور النثر العربي الحديث، دار النشر الدولي، الرياض، 1429 هــ= 2008م”.
نحن في حاجة إلى دعم الفن الروائي الذي ينطلق من التصور الإسلامي، لتزداد الإنسانية إنسانية وتسامحا ورحمة