قدرة الدين في تحوّل المجتمعات

يقول الله تعالى: ﴿ما تَعبُدونَ مِن دونِهِ إِلّا أَسماءً سَمَّيتُموها أَنتُم وَآباؤُكُم ما أَنزَلَ اللَّهُ بِها مِن سُلطانٍ إِنِ الحُكمُ إِلّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ﴾ [يوسف: ٤٠]

هذا الإيقاع القوي المقتحم المواجه للمجتمعات بلغته البالغة في الدقة والملامسة للفطرة، إنما هو طرف من تلك الحقيقة العميقة التي يحملها الوحي، نتعرض في هذه السانحة لبعض الملامح التي تدرس طبيعة الدين وقدرته الهائلة على تغيير الوجدان والسلوك الإجتماعي وبالتالي النشاط الإنساني بشكل عام.

طبيعية التأثير وحقيقته:

ما هي القوة التي تدفع الناس للإيمان ؟ أو بصيغة أخرى لماذا يؤمن الناس بالقرآن ؟ وكيف استطاع الوحي أن ينقل شعب الجزيرة العربية من بقعة القبيلة لآفاق العالم والبشريّة ولم يكونوا سوى مجموعة متناحرة من الناس فحوّلهم الدين إلى حاملين للقيم وفاتحين للأمم ؟

إن القوة التي يستبطنها الوحي تكمن في الإجابة على هويّة الإنسان وغايته في الوجود وجذوره ومنتاه المصيري، وكذلك ما يجب عليه فعله وما لا يجب عليه فعله، فبقدر دقة الإجابة على ماهيّة الإنسان يكون التأثير في تحوّله وبالتالي توسع دائرة التحوّل ذاتيّاً واجتماعيّاً. وللشيخ الغزالي مقولة أحفظها لكني لا أذكر موقعها فيما كتب، يتحدث فيها عن تحويل الدين للعرب فيقول: ” إن هناك معادلة يجب أن يحفظها كل عربي عن ظهر قلب وهي ( عرب ـــ إسلام = صفر ).

كما أن الثورات والتحوّلات ليست أعمارها كأعمار الناس، لقد بدأ النبي عليه الصلاة والسلام مشروعه في إصلاح العالم، بنواة صغيرة جداً، استطاع بفضل الله توسيعها حتى ترسخت بذرتها في مكة والمدينة، فانطلقت من بعده الفتوحات، ويدخل الناس للإسلام أفواجاً حتى اليوم بفضل تلك النواة المتجددة التي اتسعت رقعتها، كذلك هو دور المؤمن ومسؤوليته المتجددة أن يساهم في هذا المشروع بتوسيع البقعة جغرافياً وكذلك تمكين البذرة في النفوس وفي الذات، فالذات كما يرى مالك بن نبي هي التي تغيّر التاريخ، وإننا نؤمن ونوقن حق اليقين أن معركتنا مع أنفسنا هي المعركة الأهم، وحظائر الجاهلية المعاصرة لتتمكن عليها أولاً أن تخترق الذات، وإننا مصممون على دحرها، ثمّ إن ثمرة الإصلاح لها جانبان، جانب إجتماعي يمثل بيئة الإصلاح، وجانب سياسي يمثل ترجمته وعمقه في المؤسسات، وهاذان الجانبان يغذي كلّ منهما الآخر، والسياسة لا تغني عن التربية، والقانون لا يمكنه مهما بلغ من السطوة أن يسيطر على سيول الفساد إن توغلت في الجسد الإجتماعي.

(إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)

إقتحام الدين للدنيا:

( لكي يؤثر الدين في العالم الدنيوي، ينبغي أن يكون دنيويّاً ) علي عزت بيجوفيتش – الإسلام بين الشرق والغرب

لدي تفكيك أو بالاحرى تفسير لهذه المقولة العميقة جداً، الدقيقة جداً، والتي إن دلت إنما تدل على الفقه الضليع لبيجوفيتش بلغة القرآن.

يعني بيجوفيتش أن الدين ليؤثر في الدنيا يجب أن نخوض به الدنيا نفسها، لو اردت أن يؤثر الدين في السوق ينبغي أن تكون تاجراً متديناً، ولو اردت أن يؤثر الدين في المستشفى ينبغي أن تكون طبيباً متديناً، ولو اردت أن يؤثر الدين في المهندسين ينبغي أن تكون مهندساً مديناً، ولو أردت أن يؤثر الدين في الجيل القادم ينبغي أن تتزوج لتربي أبناءك، ولو أردت للدين أن يؤثر في السياسة ينبغي أن تكون سياسياً متديناً وهكذا، أو بلغة أخرى، كل موقع دنيوي وجدت نفسك فيه أقم في نفسك الدين فيه، فالدين لا يمكن حبسه في صومعة، والدنيا لا يمكن أن تترك سدىً بعيداً عن تأثير الدين.

إن منطق الدين ليس قائماً على التكيّف مع أوضاع المجتمعات البشرية بل قائم على منطق إزعاج تلك المجتمعات وما تحمله من إشكالات، إن الدين ليس قائماً على التكيّف مع المجتمعات وما تحتويه من أمراض، بل هو معني بالأساس على مقاومتها، وبالتالي فهو مصدر أزعاج دائم لأهواء الناس، فهو يحطّم ما يحملون من خرافات ويهدد ما يحملون من أوهام، وليست نهاية الدين أن يوافق الناس بل أن يزعجهم ويوقظهم من نومهم وسباتهم.

علي عزت بيجوفيتش

وفي ذلك تكمن قوة التأثير الحق في سير المجتمعات، إن الإسلام يعمل على تغيير الذوات وطبعها بالفطرة الأصيلة، يقول علي عزت بيجوفيتش في كتابه – الإسلام بين الشرق والغرب :

” في الوقت الذي يؤكد فيه الإسلام على عظمة الإنسان وكرامته، يُبدي واقعيةً شديدة؛ تكاد تلغي البطولة عندما يتعامل مع الإنسان كفرد.

فالإسلام لا يتعسف بتنمية خصال لا جذور لها في طبيعة الإنسان؛ إنه لا يحاول أن يجعل منا ملائكة؛ لأن هذا مستحيل، بل يميل إلى جعل الإنسان إنسانًا.

في الإسلام قدرٌ من الزهد؛ ولكنه لم يحاول به أن يدمر الحياة، أو الصحة، أو الفكر، أو حب الاجتماع بالآخرين، أو الرغبة في السعادة والمتعة.

هذا القدر من الزهد أُريد به توازنًا في غرائزنا، أو توفير نوع من التوازن بين الجسم والروح.. بني الدوافع الحيوانية والدوافع الأخلاقية. وهكذا- من خلال الوضوء والصلاة والصيام وصلاة الجماعة والنشاط والملاحظة والنضال والتوسّط يواصل الإسلام عمل الفطرة في تشكيل الإنسان. لا مكان هنا لمقاومة الطبيعة “