بقلم صالح عوض
رحلة طويلة شائكة بيننا والغرب ذهابا ورواحا.. تقاتلنا ولازلنا، وتصادقنا عن كره أو غفلة منا، اقتحم ديارنا بغير إذن منا وطردناه شر طردة، ولحقنا به وسكنا قراه ومدنه، وتسجلنا في قوائم الناخبين أحيانا وألقى بنا إلى الهوامش والأطراف حينا.. ينكأ ذكرياته فيمنعنا من غطاء رأس لفتاة مسلمة ويمعن في الإساءة لمقدساتنا، فيما يقبل بوجودنا في حياضه بالملايين ننال الضمان الاجتماعي والعلاج والدراسة.. يعلن حرية التعبير مهما نبا لفظها وتوحشت طريقتها ولكنه يمنعنا أن نسمي الأشياء باسمها إن تعرض الكلام لمن اغتصب فلسطين وطرد أهلها.. ونحن لا نتوقف عن شتمه وذكر معايبه.. ولكننا نركب الخطر، ونمخر البحر سباحة علنا نلحق بشاطئه.. ماذا أعطيناه وماذا أعطانا؟الصفحة السوداء:يبدو أن كل ما يمكن أن يقال حول العلاقة بيننا والغرب صحيح.. وهي علاقة تجاوز عمرها القرون الطويلة ولعل عودتنا الى هنبعل وقرطاج في مواجهة روما يؤرخ لبداية الاحتكاك الدامي.. ولم تخضع العلاقة الى قول أرسطو: “ان كل ما هو غير إغريقي هو بربري..” أو ما قاله الأديب الانجليزي كلبينغ : “الشرق شرق والغرب غرب”.. بل استمر الشرق في محاولته التمدد نحو الغرب كما عمل الغرب على التوسع ببلاد الشرق.. إلا أنه يمكن تسجيل اللقاء الصارخ بين الشرق والغرب مع أكبر احتكاكين عنيفين الأول الحملات الصليبية على المشرق العربي والثاني محاكم التفتيش التي استهدفت المغرب العربي.. اندفع الغرب تحت رايات صليبية متحالفة مع الإقطاع بروح ثأرية انتقامية لا تجيد إلا القتل والإبادة والتشريد محرومة من الحد الادنى من مراعاة حقوق الإنسان.ولقد أخذت الأمة على حين غرة بالأندلس وببلاد الشام اللتين كانتا جوهرة الحضارة الإسلامية: الأولى كانت أهم إنتاجات الحضارة العربية الإسلامية علوما وفنونا وطبا وهندسة وفلسفة، وفي الثانية مقدسات الإسلام وأرضه المباركة وقلب بلاد العرب والموقع الجيواستراتيجي الحساس..
وتمكن الغربيون من إسقاط الموقعين المهمين اللذين يمثلان الحضارة ومقدساتها.. لم يقدم الغرب بهجومه الكاسح أي إضافة حضارية بل كان يحمل بين ثناياه التخلف على أكثر من صعيد.. والانحطاط السلوكي لذلك ارتمى على خيرات البلاد نهبا جشعا بلا تنظيم وادارة..وبعد ان طرد الصليبيون من المشرق وطرد الأسبان من المغرب العربي لاسيما الجزائر.. حاولت الأمة من جديد ان تجمع عناصر القوة ولكن بعد ان فقدت كثيرا من قوة دفع البعث الروحي ووهج الرسالة وانحازت الى معاني ومفاهيم قد تصلح في رد عدوان مرحليا ولكنها تعجز عن استعادة اللياقة واستئناف المسيرة الحضارية وذلك مع تفشي روح الانفصال والتمزق وغياب منهجية تطور علمي.. حيث سجل سقوط غرناطة بداية الانهيار الذي تواصل يوما بعد يوم على كل مستويات المكونات الحضارية، وعندما سلمت قيادات الأمة بخسارة الأندلس ولم تنهض لاستعادتها كان ذلك يعني قبولها بأول هزيمة استراتيجية وخسارة كبيرة وكأنها لم تكن.. انشغل الغرب باكتشافاته الجغرافية التي وجد فيها تعويضا كبيرا عما خسره في الوطن العربي وانتشر في أمريكا الشمالية والجنوبية وقام هناك بأبشع الجرائم في حق الإنسانية حيث أباد شعوبا بكاملها كما حصل مع الهنود الحمر بالولايات المتحدة الأمريكية كما شن عملية نهب للبشر من إفريقيا عبيدا لمشاريعه الاقتصادية بالولايات المتحدة وبعد ان فرغ من تلك المهمة عاد ليشن على العرب معركته الحديثة بمشروع أكثر وسائل وأوسع رؤية وأعمق وعيا مزهوا بانتصاراته عبر القارات.. فكانت الحملة الفرنسية على المشرق 1798 لتحلق بها حملة فرنسية على الجزائر والمغرب كله بعد ثلاثين سنة.. وكان خروجه بشكل نهائي من الوطن العربي عام 1962 منهكا مدمى وقد وصلته رسالة الجغرافيا وعلم الاجتماع النفسي وسنن التاريخ أن لا بقاء لاستعمار على هذه الأرض التي تحددت هويتها ووجهتها.إلا انه ترك ألغاما ببلادنا والقصد منعنا من الاستقرار وإمكانيات النهضة وهو يدرك تماما ان الاستقرار ببلادنا وامتلاكنا أدوات العلم واستفادتنا من ثرواتنا سينتهي بنا الى قوة عظمى تعيد رسم الخرائط وبناء علاقات سوية وندية معه ويصبح المتوسط بحيرة توازن بين شمال اقتنع بان الجنوب يساويه قدرا وقوة مادية وجنوب يستعيد عافيته ويتحسس قدراته ويفرض نفسه على مسرح الحياة ورسم الخرائط..الا ان دخول الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الأولى والثانية منح الغرب والمنهج الغربي والرؤية الغربية.. توسع المشروع الاستعماري على لاعبين جدد يمتلكون قوة مالية ضخمة وقدرات حربية فائقة.. وأصبح الجهد كله منصبا على وضعنا تحت السيطرة من خلال تسليم الثقافة والحكم والاقتصاد ببلاد العرب لطبقة تم إعدادها جيدا نسيا وعقليا وعمليا لتكون حارسة للتجزئة والتبعية وتكون بولاء تام للإدارات الغربية ومشرفة على مصالح الاستعماريين في بلادنا بالإضافة الى إقامة دولة غريبة” الكيان الصهيوني” على أرض فلسطين تقوم بمهمات استراتيجية لصالح المشروع الاستعماري.. ويكون هذا الكيان وتلك الطبقة ببلادنا على تناغم وتكامل وظيفي سواء كان ذلك بالإعلان عنه أو بدون إعلان.ومن هنا بالضبط تنتفض حواس الإدارات الاستعمارية كلما شعرت ان هناك محاولة ي المنطقة للخرج عن الهيمنة والمخطط الاستعماري فيتم نصب الكمائن والخدع للاستدراج كما حصل لمثالين صارخين: للعراق حيث تم تدميره وبعثرة جهوده العلمية، او ما يحصل لايران بمزيد من الخنق والحصار لتركيعها وإرغامها على السير بانسجام مع المخطط الاستعماري.الحضارة الغربية:على الوجه الآخر من الحقبة التاريخية المشتبكة كان الغرب يمعن في تطوير قدراته العلمية والصناعية وقطع شوطا غير مسبوق كما طور قوانينه وإداراته بما يتناسب مع تطوره العلمي وانتج نموذجا اصبح لدى الكثيرين قدوة رائدة..هنا بالضبط حدث الإشكال بالنسبة للعرب والمسلمين الذين توزعوا على فريقين كبيرين ازاء الحضارة الغربية احدهما تمسك برؤيته الصراعية ونظرته للجيوش الغازية وما ارتكبته وترتكبه ببلادنا فاتخذ موقفا متشنجا ازاء المصنوع الغربي والادارة الغربية وقوانينها كما حصل مع ليبيا القذافي مما اورث البلاد تخلفا عن ركب الحياة وكانت سهلة السقوط عند المواجهة مع العدو.. وفريق اخر مسح ذاكرته التاريخية والقى جانبا واقعات الصراع والتي لازالت بعض صولها دائرة في مواقع عديدة من البلد او بلاد العرب والمسلمين وظن هذا النمط من الناس انه الالة لا دين لها ولا هوية ويمكن تسخيرها حسب المشغل لها وعزلها عن اطارها الفلسفي والنفسي وما يمكن ان تصنعه من قيم وعادات وتقاليد، والامر ذاته بخصوص قوانين الادارة والتشغيل لمؤسسات المجتمع والدولة.. وهكذا برز عن هذا السلوك نوعين من المستلبين، المستلب لشحنات عاطفية اعمته عن الاخذ بالاسباب وتفحصها والثاني المستلب لحياة الغرب ونموذجه مما عزله عن واقع الحياة ببلده ومستقبله.خسرنا مع النمطين المستلبين فرصة التطور وامتلاك التكنلوجيا وفنون الادارة، وكذلك خسرنا ثرواتنا واعمارنا وامكانية ان نكون أمة لها شخصيتها ورسالتها.. واما الصوت الثالث يكاد يكون مخنوقا لا يسمع له منطق ولا يفرض له حيز، بل نجده مطاردا مهمشا.. ولم يعد المكان يتسع الا لكل متنطع متطرف اما نحو الحضارة الغربية بقضها وقضيضها او ضدها بكل ما لها وما عليها..وماذا نستطيع:اننا نملك من عناصر المشاركة الحضارية الكثير ليس على صعيد الثروات الاولية وهي مهمة تماما لاي نهضة وحضارة ولكن ايضا على صعيد ضمانات الاستمرار والتطور لصالح الانسان وكبح جماح الجنون الذي يسيطر على النهضة العلمية ويقودها الى تدمير الحياة البشرية.ولا يمكن ان يكون لقيمنا ورؤيتنا الفلسفية للانسان والكون والحياة أي قيمة او دور بدون تحكمنا بادوات التكنلوجيا والصناعة والعلوم.. وهذا مجال واسع عظيم استطاع الغرب ان يبلو بلاءه الرائع بخصوصه.. وعليه يصبح البحث عن اساليب تطوير مناهجنا العلمية وجامعاتنا وربطها بمجتمعنا واحتياجاته مسألة حياة او موت.. ومع هذا وليس بعده اعطاء القانون سلطانه في الادارة والمؤسسات التي تقام على ارقى وادق الاعراف.ان الحضارة الغربية اسهام بشري عملاق ومن العبث تجاوزها او عدم الاستفادة منها واخذ منهجية العمل الصناعي والتخصصي والتجريبي منها على اعتبار ان الحكمة ضالة المؤمن عليها بها اينما كانت وان انتاج انسان ما بموقع ما يجب ان يكون مردوده للبشرية كاملة.التعليم التعليم التعليم.. هو كلمة السر لنهضتنا وللحاقنا بالقفزة العلمية الغربية وهو المؤهل الوحيد لكي نستطيع ان نقدم ما لدينا من ثروة فائقة على الصعيد القيمي والفلسفي لحياة البشرية.. وصحيح ان الغرب وصل الى مرحلة ليس له بعدها مرحلة حيث قد دب الانهيار باوصاله لاسيما الاقتصادي وليست اوربا فقط بل امريكا ايضا ولكن علينا الانتباه ان المشترك الحضاري بيننا والغرب اكثر كثيرا من المشترك الحضاري مع الصين مثلا.. لم يكن الاشتباك الدامي هو فقط ما جمعنا بالغرب.. انما القرون الطويلة قدمت لنا ولهم تداخلا معرفيا وعلميا وفلسفيا يمكننا البناء عليه والوصول الى مراحل تاريخية يسودها السلام والتنافع البيني.بدون التعليم وتوفير شروط نجاحه على ارضية تكامل عربي علمي ومعرفي واقتصادي وحماية لذلك كله بقوة مادية عسكرية قادرة بحدها الادنى ان تحمي العلماء ومؤسسات العلم.. بدون ذلك ليس لنا الحق ان نطرح رسالتنا لحماية المستقبل البشري.. والله غالب امره.