بقلم صالح عوض
عندما اطل الإسلام على البشرية كان واضحا أنه داعية وحدة إنسانية مع من سبقه من رسالات وأنه يخاطب الإنسان حيث هو الإنسان بلا تمييز، يذهب عميقا في النفس يحررها من ضغائن العنصرية والضيق إلى فسحة الأخوة والانفتاح والإنسان أخو الإنسان.. ويذهب عميقا في مفاصل شبكة العلاقات الاجتماعية يصحح قيمها ويطرد الدخيل عليها ويضع ضوابطه من أجل مجتمع متكافل متحاب متنافس في الخيرات، وعندما تقدم في صناعة واقعه الدولي رسم خطا للمسيرة الإنسانية ضد الظلم والمستكبرين واستعباد الناس المستضعفين وأبرز قيمة العهود والمواثيق وجعل حرية الاعتقاد والتعبد وحقوق الناس فرضا على المجتمع والحكومة والأشخاص حمايته.. كي تبدل المشهد ليصبح الإسلام عنوان العنف والتمزق؟ ذلك بسببين كبيرين احدهما ذاتي والآخر موضوعي.دين الإنسان:كان الإسلام كما وصفه سبحانه وتعالى: “ذلك الكتاب لا ريب فيه”.. “صراط مستقيم دينا قيما” ..”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.. ” يهدي للتي هي أقوم” ” ولم يجعل له عوجا قيما..”،
وهذه هي الثروة الحقيقية لدى الأمة المتفردة والمتميزة التي تحمله بحقه لخير البشر.. وغياب الإحساس بقيمة هذه النعمة التامة أفقد الأمة منهج الحياة السليم وباعث النهضة الإنسانية الحقيقية فارتكست في الجوانب البهيمية الضارة من تخل وتبعية وعنصرية وتمزق وغاب الحديث عن تقويم النفس وتمتين المجتمع ونشر القيم التي تحمل الإنسان الى التقدم والرفاه والعيش الآمن المستقر. السلام هو منهج الدفع بقوة للخروج من إطار الضيق بكل معانيه الى السعة والرحابة والإنفتاح على الكون وآياته لتحقيق غايته بالانسجام على اعتبار الوحدة مع الكون في منظومة الاستخلاف، ومع الأسرة البشرية على اعتبار ضرورة القيام بالمهمة التي أوكلها الله للإنسان لكي يكون الخليفة في الأرض.. ولتحقيق نجاح هذه المهمة الإنسانية الكبيرة كان لابد من العمل المتزامن على جبهتين الأولى تقوية البواعث الروحية وتنقية النفوس من الأغلال والعقول من الجهالات وتحفيز الهمم على عمل الخيرات والثانية سن القوانين والأوامر والإجراءات والضوابط التي تحكم السلوك، وفي هذا وذاك عدم المحاباة وعدم التمييز بين الناس وأعراقهم وألوانهم أو بين الرجل والمرأة.. ولم تتوقف حركية الإسلام وحيويته على حدود الإنسان روحيا ونسيا وعمليا بل امتدت الى ترتيب العلاقة بالكون بكل مافيه بدءا بتأمله والاقتراب من هم آياته والتعامل مع عناصر الكون بانسجام على اعتبار انها مسخرة له وعليه أن يدخل عليها عبقريته ويحركها لترجمة ما علمه الله من علوم جعلت الملائكة تسجد له.وكان الإسلام مع ذلك كله داعية بقوة إلى الكرامة الإنسانية والحريات والحقوق في إطار الأسرة البشرية المتكاملة برفضه العدوان والبغي.. وبهذه القوة الروحية والفكرية صيغت أمة استطاعت خلال عشرات السنين أن تنتج للبشرية النموذج الإنساني الفذ الذي لم يتكرر عبر مسيرة البشرية.. ورغم ما طرأ على مسيرته البشرية من تبدلات وتحولات بعل أسباب خارجة عن طبيعته إلا أنه لايزال الأقدر على الإنبعاث من جديد متى توفرت له شروط النهضة وهذا ما يحسب له الاستعماريون حساباتهم ويعدون له أدواتهم ويقومون بزرع الألغام والفتن في طريقه.وكما هو الإسلام داعية للخير والسلام النفسي والاجتماعي والإنساني هو حركة تحريرية كبرى ضد الجور والظلم والعنصرية والاستكبار والاستغلال والطاغوت.. إنه يقوم بذلك بغض النظر عن جغرافيا الفعل المشين داخليا كان أو خارجيا، فالمرفوض على الصعيد الخارجي مرفوض على الصعيد الداخلي.. وبين الأشخاص يكون الأكرم هو الأتقى بمعنى الأبعد عن الظلم والإفساد والتخريب، وبين الجماعات والأعراق لا فضل للون أو عرق إلا بما يقدمونه من خير للإنسانية. وفي خير الإنسانية يتنافس المتنافسون. فكان بحق دين الإنسانية ونظامها الاجتماعي والروحي والأخلاقي الفذ الذي نعمت به البشرية ردحا من الزمن و الذي وضع الضوابط والإجراءات لكي لا يحدث الانحراف عن فطرة الإنسان وأطلق العنان للإبداع الجميل والحياة السعيدة.. فما بال هذا الواقع المدمى الذي انتهت إليه المسيرة الإسلامية فرقة وقتلا وعنصرية حتى غابت صورة الإسلام عن الشهود.الخطر الداخلي:مع ان الإسلام وضع ضوابط السلوك والعلم بدقة بحيث انه رفض الأوهام والهوى والفوضى والمزاج النفسي كمنهج للتعامل مع الأخبار والمعلومات وجعل التثبت مما ينقل من كلام منهجا قويما لا حياد عنه و رض أن يكون التدليس والتعمية أسلوبا ضد المخالفين حتى لو كانوا أعداء فالعدل هو المنشود حتى مع الخصوم..
وهكذا يصبح الإخبار والإعلام ملتزما بخصيصة الصدقية والدقة وهذا فضلا على قيمته الأخلاقية هو كذلك فائدة ثمينة عمليا لصاحب القرار وصاحب التخطيط الاستراتيجي كما أنه أوقع في نفوس الخصوم الذين يتحولون شيئا فشيئا الى كتلة واثقة بصدق حملة الإسلام رغم الخصومة.ترعرعت هذه المزية في بيئة كان للكلمة فيها قيمة معتبرة وكان للأخلاق الشخصية اعتبار بالغ.. ولكن توسع الإسلام في رقعة واسعة وانضمام شعوب وأمم إليه بالجملة لم تستوعب بعد عميق مراميه الإنسانية عرض الأمة الى انشقاقات بناء على روايات باطلة وضعيفة تكونت بموجبها عصبيات وحزازيات وتم تركيب ثقا فة بكاملها على ضوء ذلك كانت هذه هي الطامة الكبرى التي لاحقت بتاريخ الإسلام فترة طويلة من الزمن.وكما أن التأويل والاجتهاد أمران محمودان لانبثاق الأفكار المواتية للظرف المعاش وهما يعبران عن قدرة الدين على التجدد والعطاءات المستمرة والرد على التحديات المتجددة، الا أن التاويل والاجتهاد يكون كارثيا عندما يتحرر من التقيد بقطعي الثبوت انه حينذاك يحول الى فكر منبعث من هوى او نزق او قياسات غير روحية ويتم بموجبه التأسيس للافتراق والفتنة و والعنصرية وكل الأمراض الاجتماعية التي تنتهي بالأمة الى التشتت والتنازع.هنا نشير بوضوح الى خطورة موضوع الرواية في التاريخ الإسلامي ودورها في المسيرة الإسلامية والإنسانية سواء..
ولقد كان التنازع كله بسبب الاختلاف في الروايات ورغم ان علماء المسلمين اجتهدوا كثيرا في وضع علم الجرح والتعديل والتضعيف والتوثيق واخبار الرجال من الرواة إلا انه لأسباب عديدة منها التباعد الجغرافي ترك فرصة لاستمرار الروايات الهشة الضعيفة في سندها او متنها للتحرك مستفيدة من الجهل والرؤية الجزئية للواقع وبهذا استطاعت تشكيل رؤى وواقع وممارسات ومنظومة سلوك تنتهي بها إلى حالات معزولة عن الروح الأساس.من جديد يظهر عوار هذا السلوك لأنه أصلا فقد منهجية التلقي والتثبت مما ينقل وهذا يعني بوضوح أن جلب الروايات ولي عنق النصوص أصبح هدفا لذاته كي تتوافر مبررات الموقف السياسي او الاجتماعي المخالف.. ويصبح الإصرار على لوك الروايات الباطلة عقيدة، و يصبح الموقف المبني على تلك الروايات المطعون في سندها أو المبتورة حاجزا بين المسلمين يؤلب بعضهم على بعضهم الآخر.وكانت هذه المنهجية الخاطئة السبب الكبير في صناعة “إسلام” ليس هو الإسلام الإلهي.. إنما هو إسلام بشري له طقوس وسلوك ومقولات دين آخر مختلف عن معلوم الدين وقيمه وروحه.. صناعة أسهم فيها الجهل والهوى والمزاج والعصبية والهدف منها الانتصار لموقف تشوبه نزعات من شتى الاتجاهات.الاستشراق والاختراق:لقد تمت عملية منظمة ممنهجة لاختراق وعي نخبنا الثقافية وذلك على اكثر من جبهة، وفي حين انصرف كثير من المستشرقين الى البحث عن الأحاديث الضعيفة والروايات المنحرفة الكاذبة وبناء قصص وتاريخ ومعارف استنادا عليها اتجه آخرون لدراسة أعراقنا و مواقعنا وذهبوا بالأساطير إلى أقصى مداها لإحداث التشكيك والفوضى المعرفية وعدم التثبت من حقيقة ما حصل و لكي يلفوا كل عرق وموقع بروايات تمعن في أنانيته وتقوقعه على ذاته وهكذا غذت حركة المستشرقين عملية التقوقع والتفسخ بمقولات وأخبار ورواية وليس عبثا ان نجد ان كل الحركات الانفصالية في الأمة ذات صلة وثقى بمراكز الاستشراق الاستعمارية..وبالتأكيد ليس كل المستشرقين في هذا الصدد سواء فمنهم الموجهون من قبل ساسة استعماريين وهم بذلك يؤدون مهمة استعمارية صرفة، ومنهم من يتحرك نحو البحث بروح الباحث لكنه لا يستطيع التخلص من تاريخه الاجتماعي ونموذجه بصراع الكنيسة والعلم وتاريخ القرون الوسطى المظلم وهذا مقيد بواقعه المعرفي والبيئي ولن يستطيع تقديم فائدة للعلم.
لقد كتب المستشرقون مصنفات في تاريخ الفتن والصراعات داخل الأمة وأمعنوا في محاولة إيجاد الدوافع العرقية واختلاق الروايات ومن الواضح أن أهم هدف وضعوه لجهدهم تحقيق الريبة والتشكك بكل ما تم انجازه حضاريا ووضع الأمة على حافة اليأس.وبناء على إنتاجات المستشرقين قام رهط من كبار مثقفينا في مشرق العرب ومغربهم بصناعة تاريخ لنا ولقد كان ما أنتجه طه حسين احد أهم تجليات اختراق الاستشراق وتبعه في هذا عدد ليس بقليل من الكتاب والمفكرين الذين جعلوا من منطق المستشرقين مرجعية لكتاباتهم ومواقفهم واوجدوا لذلك منابر إعلامية وتسللوا إلى مواقع القرار بمؤسسات الحكم والتعليم. والأخطر انهم تمكنوا من صناعة جماعات دينية بشعارات وبرامج لتخريب الأمة كما صرحت هيلاري كلنتون وزيرة الخارجية الأمريكية وكثير من ضباط الأمن الأمريكان إزاء داعش وأخواتها.إلا أن حجم الكذب المفضوح في ما أنتجه المستشرقون تجاه الرسول والإسلام والتاريخ الإسلامي يتبدد مع أول رؤية علمية منهجية تتثبت من الوقائع وتزنها بميزان الصحة والسياق.. ورغم سخافة ما يتناولون من مواضيع الشيطنة ضد الرسول وما يتعمدون من الإساءة لتاريخ المسلمين إلا أنهم يعيشون مأزقا نفسيا عميقا وهم يرون تمدد الإسلام في كل المجتمعات البشرية بصورة مذهلة وحيوية منقطعة النظير رغم ضعف أداء المسلمين او انعدامه، ولم توقف تدفقه الحملات المتواصلة من الشيطنة ولا التشوه والفوضى في ممارسة معظم المسلمين..
و ها نحن نواجه من حين إلى آخر نتائج العمل الإستشراقي الممنهج على صعيدين الأول ما نعيشه جراء ما يمارسه جيل التغريب والعلمنة في بلادنا والآخر ما يتسرب إلى بعض نفوس الغربيين من عنصرية تجاه الرسول والإسلام والمسلمين مزودين بمقولات يقرؤونها بمدارسهم ويتلقونها من وسائل إعلامهم.. وهذا يعني ان هناك جهودا ممنهجة لتحصين المجتمع الغربي من تقدم الإسلام ولكن ما يعملونه ينتهي إلى انهيارات التحصين عند أول لحظات الاحتكاك بالإسلام الذي لا يتردد في الكشف عن طبيعته الفطرية الإسلامية. المواجهة والتصدي:قبل كل شيء يجب أن نحسم موقفنا من الإسلام ونتأكد من أنه أعظم ما نملك وأنه هو من سيعطي النط والثروات والإنسان قيمة لمجتمعاتنا وأمتنا ونحن بدونه سنكون عبارة عن أشياء استهلاكية بلا رسالة ولا مهمة ولن نفيد أنفسنا ولا البشرية ان تخلينا عن الالتزام بمنهج الإسلام.. ومن هنا ينبغي إعادة الاعتبار لعلاقتنا بالإسلام.وهذا يتوجب خطوات كبيرة أولها التصدي لفاتني أمتهم شيعا وأحزابا بناء على روايات باطلة فاقدة الصحة في السند والمتن..
وهذه مهمة العلماء الأتقياء الذين يشعرون بالإسلام الرباني وبمصلحة الأمة ويصبح لقاء هؤلاء والتقائهم للبحث والتصحيح والتصويب عملية حضارية تأسيسية تطرد من عقولنا وقلوبنا دواع وهمية للتفرقة.. وان يكون لنتائج البحث والتمحيص هذه قوة تنفيذية على كل المؤسسات الإسلامية الدينية وان يرصد لذلك الإمكانات المادية والمعنوية الكافية.وعلى صعيد مواجهة الاختراق الاستشراقي يكون المطلوب مؤتمرات ومراكز رصد وبحث ورد يقوم بها المفكرون والباحثون المسلمون لتفنيد الشيطنة والكذب ووضع الكتابات الضرورية للتصدي لهذا الخبث البائن.وعلى المستوى الرسمي من الضروري ان تصطف الحكومات مع شعوبها وضميرها بالتصدي للمشعوذين الداخليين والمستشرقين وذلك بدعم العلماء والباحثين من جهة ولرفع القضايا أمام المحاكم الدولية والأممية على من يعمل على شيطنة الإسلام والرسول بالغرب.. والله غالب على أمره.