نحن وآباءنا

بقلم البراء إبراهيم

تطالعنا الأخبار كل يوم عن توترات في العلاقات الأسرية بين الأب وابنه أو ابنته، فهو يريد أن يلزمه أو يلزمها بشيء تفعله، وهي بدورها تأبي أن تنفذ رغبة أبيها، فضلا عن أن يكون هذا هو الأسلوب الواجب اتباعه في العلاقات الداخلية بينهما.

ينشأ من وراء هذا مشاكل لا حصر لها وشذوذات في العائلات والأسر لا يستطيع المرء لها حصرا أو العقل لها إبانة. ثم ينبري كل فرد من أفراد المشكلة يشخص ويلخص ويصف ويعطف أسباب المشكلة بعضها علي بعض فلا يستطيع أن يلزم فردا من أفرادها بشيء، هذا ان كان منصفا غير منحاز، وربما انحاز إلي الأب فعاب علي الإبن أو انحاز الي الإبن فعاب علي الأب، ولكل قبلة هو موليها.

لذا يحاول مقالنا نحن وآباؤنا التعرف علي طرف يسير من أسباب هذه المشكلات الناشئة بين جيلينا: جيل الأبناء، نحن، وجيل الآباء، آباؤنا. نسبر غور العلاقة وأسباب التوترات ونحاول جاهدين تلخيص ما يجب أن يفعله كل طرف تجاه الآخر.

ينبغي حتي نهتدى إلي حكم رشيد ورأي سديد في مثل هذه القضايا أن نتعرف علي البيئة المحيطة بالآباء والأبناء، إذ المنطق يؤكد أن كل شخص هو ابن بيئته التي نشأ فيها وترعرع، فنبت فيها فكره وترعرع فيها جسمه. ونحن لا نعرج في حديثنا علي عامة الآباء والأبناء بل نحاول جاهدين حصر القضية في آباءنا وجيلهم الناشيء ما بين الخمسينات والستينات، وجيلنا نحن الناشيء ما بين الثمانينات والتسعينات. هذا وتعميم هذه القضية وتدويلها ليس لصالح التشخيص كما أنه كذلك بالنسبة للتوصيات، لكنا سنجتهد في بيان بعض التعميمات القائمة مقام القواعد في هذا الصدد.

من أهم القواعد في هذا الصدد ما قاله سقراط، وقيل أفلاطون، قوله “لا تكرهوا أولادكم علي آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم”.

نحن وآباءنا

هذا بيان لأهم المداخل التي تقرر حقائق جمة في موضوعنا الإجتماعي الأسري هذا. ففجوة الزمن بين الأب والإبن كفيلة في إحداث تغيير كبير في الكون بأسره، ان تم استغلالها والتغاضي عن بعض سلبيات هذا الاختلاف. اما التزمت من قبل الآباء في نمذجة أبناءهم ليكونوا بمثابة استمرار لسلالتهم الفكرية والجنسية والعرقية والنفسية والإحترافية، فهذا ضامن كبير للتخلف والرجعية وعدم التموضع الصحيح للجيل الجديد القادم في غير زمان الآباء. فالقيم مختلفة وأدوات الحياة متنافرة، فما صح للآباء منذ عشرات السنين لا يصح للأبناء بالقدر ذاته. فدعونا نوّصف مجتمع الآباء ومجتمع الأبناء مع اعتبار هذه القاعدة قاعدة حاكمة في قضيتنا هذه.

مجتمع الآباء الناشيء بين الخمسينات والستينات:

لقد عاش آباؤنا في حقبتهم هذه حياة بسيطة بكل معانيها بل ربما استعرنا لها وصف السذاجة بدل البساطة. فسذاجة في الفكر قد تولدت من حياة ساذجة في أرقي معاني البساطة والرضا بالذات وبما حصله ويحصله المجتمع. عاشوا واهتمامهم الاجتماعي منصب في منطقتهم أو قريتهم أو مدينتهم الصغيرة التي جللتها البساطة، فليس هناك فارق كبير بين القرية والمدينة الصغيرة غير بعض الشوارع المرصوفة أو العمران البسيط أو المواصلات العامة، وهذا في نظر القرويين شأو عظيم من المدنية والحضارة وصلت له المدينة وحرمت منه القرية.

عاشوا وقد حرموا أشياء كثيرة مما تتيسر بها الحياة فمنطق الترفيه عندهم لا يعدو برنامجا في الراديو أو عرضا سينمائيا ساخرا لا يتوفر إلا لذوي القدرات المادية العالية من أهل المدينة، أو لعبا لكرة الجورب (كرة الشراب تصنع من الجوارب المتهالكة) أو الاستماع  لسيدة الغناء العربي أم كلثوم أو مطالعة الصحف التي لا تتوفر إلا للأساتذة وأصحاب النفوذ التعليمي في الدولة، وحديثا التفاف أهل القرية أو المنطقة حول التلفاز، الإختراع الجديد الذي أبهرهم وأدخل نسقا جديدا علي حياتهم الترفيهية.

نشأ هذا الجيل في هذا السياق الإجتماعي والثقافي، فحرم النظرة للعالم الخارجي ومدي تطوره، فلم يشعر المجتمع بغيرة مشروعة من المجتمعات الأخري، إذ كيف يغار وهو لا يملك النظرة الأبعدية خارج حدوده. يستثني من هذا من زار الغرب أو خرج خارج إطار مجتمعه المصري المغلق هذا، فأفعمته زيارته هذه بروح المقارنة وربما التجني علي مجتمعه والإنسلاخ منه بدعوي التخلف والرجعية وإرادته التحرر والرقي.

عاش هذا الجيل بأخلاق راقية فرضها المجتمع بآليات صارمة ومنطق حاد. فرضها عرف المجتمع الذي كان سيفه ماضيا علي كل فرد، فلا يستطيع الفرد الخروج عن نسق هذا المجتمع وإحداث شيء جديد في أمور الدين أو الدنيا علي حد سواء إلا وهو يستيقن عاقبة أمره في لفظ المجتمع له ولفكرته التي تناهض العرف ولا تتناسق معه.

عاشوا في واقع لم يغزوه الافتراض أو حتي مجرد التفكير في عالم افتراضي، فتفكيرهم واقعي وحركتهم واقعية والتواصل يدا بيد ونفسا بنفس هو الأساس الوحيد وما دونه غير مقبول عقلا ولا مفروض منطقا. يتحرك الواحد منهم لزيارة أخيه ولا يتيقن من وجوده في بيته أو عدم وجوده، وربما قطع مسافات عظيمة من الاسكندرية إلي أسوان وهو لايتيقن من وجود مزوره في بيته أو حتي وجوده علي قيد الحياة. فإن كان مزوره أو أحد أقاربه أو أهل قريته محظوظا فكان عنده هاتف أرضي، فقد نال من الدنيا قدرا حرم منه سائر العالمين فليهنأ بهذا وليشكر الله وليسعي في تمكين الآخرين منه، فهو خدمة لعامة الناس وخاصتهم.

فوق كل هذا، فقد عاشوا باقورة أيام كان الوطن فيها علي شفا جرف، يستيقظ علي محنة وينام علي انفراجة. عاش معظمهم انتكاسة الحرب وحرب النكسة ثم خلص الوطن لهم بعد جهد جهيد إلي استقرار اشتموا فيه بعضا من حياة وملامح استقرار يأتي فى الأفق. استقرت نفوسهم علي هذه الوتيرة زمنا كبيرا ثم ما لبثوا أن كرهوا عدم الاستقرار وويلات الحرب بعدما شاهدوا الوطن وقد جللته المحن كثيرا وقتلتهم وهم شباب يافع، فآن أوان الاستقرار ودق ناقوس الحياة، حتي وان لم تكن الحياة البارقة اليانعة فهي حياة علي كل حال وهي أفضل من طعم الموت الزؤام.

أما نحن فيا ويح جيلنا، يبحث عن الحياة الجديدة البراقة المتقدمة المعطاءة، غير أن الحياة ليست بالتمني!!!!

لقد تيّقظ جيلنا في أواخر التسعينات علي حياة جديدة في أدواتها منطلقة في أهدافها مستقرة بعض الشيء في إطاراتها. تفتحت عيوننا ونحن في مستقبل شبابنا وقد تحسسنا الحياة فوجدنا آباءنا يطنبون في الحديث عن الماضي وأيامه حلوها ومرها، وأيام اليوم وما راعهم من تطورها وأدواتها الجديدة التي يستقبلها الجيل الجديد بروح وعزيمة أمضي من آباءهم الطيبين.

عشنا في زمان تحكمت فيه الآلة والكمبيوتر والإنترنت، ماكينات الطباعة الحديثة والتصميمات الالكترونية والحياة الفارهة والسيارات الجديدة، إلا أن كل هذا وأمثاله وأضعافه قد دخل علي الحياة وما زالت غير متأهبة له، ما زالت ترزح في الماضي البسيط الساذج، بل ما زال شباب الستينات لا يستطيع التواؤم مع هذه الأدوات الجديدة إلا مضطرا أو مجبرا، بل ضاق المعظم منهم ذرعا بهذه الحياة فاعتكف في بيته يعيش حياته بأسلوبه وبطريقته غير عابء بما حدث من تطور تكنولوجي معرفي، فماضيه لابد أن يستمر معه حتي يلقي حتفه أو يموت ذودا عن قيم آباءه والحياة التي درج عليها والعرف الذى عاش في ظله عزيزا مكرما.

نقم جيلنا علي جيل آباءنا وبادروا باتهامه بالرجعية وقلة المعرفة فكان من الطبيعي أن يدفع آباؤنا عن أنفسهم فيكيلوا لنا تهم مخالفة عرف الزمن الجميل وتقاليده الرائعة وقيمه الراقية وأخلاقه الفاضلة…فكان الصدام!!!!!

ونظرة فاحصة لقيم الجيلين تؤدي بنا إلي المطلوب والمستهدف للجمع بين الجيلين بطريقة فضلي وحل أمثل دون تصادم أو تباغض، وذلك يكمن في مراعاة القيم التالية:

أن يقف كل جيل علي مسافة متقاربة من الجيل الآخر. فكما يجب علي الآباء الاقتراب من عالم الشباب ومحاكاته قدر الاستطاعة، فبالضرورة يجب علي جيلنا جيل الشباب أن يتقدم خطوة لفهم طبائع جيل آباءهم فلا يتنكروا له وأن يتوقفوا عن كيل التهم بالإخفاق وعدم التطور وانعدام الرؤية، فالمرء ابن بيئته ومجتمعه فما أدرانا لو كنا مكانهم هل سنفعل فعلهم أم نعتد بآراءنا التي هي وليدة اليوم أم لا؟!

أن يستفيد جيلنا من تجارب آباءنا في ترقية الفكر والشعور ورفع الطاقة الإجتماعية فقد هزمت الآلة والتكنولوجيا بعضا من هذا وإن توفرت وسائله وتعددت الطرق المؤدية له أكثر من ذي قبل.

أن يتفهم كل فريق أن الإختلاف سنة الله في هذا الكون وأن الحياة لا تنطلق بدون نقلة نوعية تأخذ الحياة من مرحلة إلي مرحلة مختلفة، حتي لا يتباكي البعض علي الماضي الفائت ولا يغتر البعض بالحاضر الجديد المنطلق.

ألا يتزاحم الجيلان علي مقاعد القيادة وسدة الحكم بأن ينحي أحدهم الآخر واصف الآخر بأوصاف تقدح في خبرته الحياتية ومقدرته علي العطاء والبذل. فإذا اتهم الشباب ذوي الأسنان والخبرة بانعدام الرؤية وقدم الأسلوب وسذاجته، جاء الكبار ذوو الخبرة فقالوا هم عيال لا يجيدون فنّا ولا يحسبون للمستقبل حسابا، عديمو خبرة بلا كفاءة ولا تحسّب. هنا تقف حركة الأجيال ويحال تسليم الراية بسلاسة واحترافية فيهوي المجتمع ويسقط سقطة لا يفيق منها إلا وقد برحته آلام من شارف علي الموت وهو غير ميت، أو من تمني ألا يكون قد حدث ما حدث حتي يروي في أمره ويأخذ موقفا غير ما أخذ، ولات حين مندم