بقلم صبغة الله الهدوي
“بمشيئة من الله وتوفيقه، أحلم من صميم قلبي بأن كوكبة من علماء عباقرة سيتخرجون من هذا المنبر الشامخ، متسلحين بجودة العلوم وصفوة الدين، سيغيرون مجرى التاريخ ويصنعون معالم من جديد، علماء موهوبون، بخبرة السلوك، بحساسية الأخلاق، بشفافية الآداب، وستشرق شمس في آفاقنا لتكلل مروج هذه المنصة المباركة بطلبة وافدين من أوربا الصفراء وإفريقيا السمراء وأمريكا ذات الضفائر، يحنون إلى هذا الوكر العلمي ويزحفون نحو هذا الكنف الظليل”. هكذا ختم بانيها المكرم خطابه الرئيسي في حفل تخريج الدفعة الأولى من الجامعة.
جامعة دار الهدى مؤسسة علمية جاءت لتنسي مسلمي كيرالا كوارث الفقر وما أعقبها من صراعات سياسية، ناجمة عن استقلال الهند، والتي سدت دونهم أبواب التعليم العالي فتقاعسوا عن طلب العلم والمعرفة، بل ونشبت في أجسادهم مخالب التهميش والتشريد من قبل “سماحة” الحكومة الهندية، في إطار الوطنية وأمن البلد، ونصبت غاياتهم على مرمى من الشك وسوء الظن، وفرضت على المسلمين قوانين خاصة تستفز مشاعرهم وتثير غضبهم.
هي جامعة فريدة في منهجها وشامخة بهامتها العالية، تتوكل على الله ثم على الأيادي الفياضة بالخير، التي تساهم وتتبرع لأجل الأمة، ثمرة همة نبعت في رجال لهم الإخلاص والوفاء للأمة، تختزلهم جدرانها من مثل سي أتش عيدروس المسليار وبشير المسليار وبافوتي الحاجي، ثلاثة نجوم سطعت في مجرة القلب، وتقوم لهم ولاية كيرالا تبجيلا وتكريما. هي جامعة تتقدم بقفزة سباقة في التعليم العالي الإسلامي، إذ توفر منهجا هو مزيج من العلوم الدينية والعلوم الحديثة واللغات العالمية التي يتسلح بها الطلبة في غمار الدعوة الإسلامية، لتشحذ هممهم من أجل حل القضايا المعاصرة، ويعد هذا الحرم الجامعي قلعة محصنة من قلاع التعليم الإسلامي ومعقلا دينيا لحماية التراث بسياج الحكمة والموعظة الحسنة، بل لها رؤية نافذة في تشجيع الفتيات على التربية والبحوث الإسلامية، فأسست لهن مركزا خاصا يتطلع إلى تخريج ربات الأجيال وأمهات الأبطال. وقد مضت في مسيرة خدمتها الدينية لثلاثة عقود متواصلة متألقة، اهتمت خلالها بشتى مناحي اهتمامات الأمة وسعت في جمع شتاتها وتلبية نداءاتها، وأصدرت رسائل الوحدة والوعي القومي والثقة بالنفس وقوة الإرادة، وفتحت في تاريخ الهند صفحات عزلاء منسية تحكي بطولات المسلمين وتسرد قصص الخدمات التي قاموا بها على امتداد التاريخ، وأصبحت هذه الجامعة بوصلة تتجه إليها قلوب الأمة وتعانقها أرواح من العلم والتاريخ، وأظهرت للحكومة مآثر خالدة تعبر عن عظمة الأمة الإسلامية.
من حقول مستنقعات إلى جامعة عالية الأهدافهناك قصة تسرد عن هذه الجامعة وهمة بانيها، ذلك أن الحاج بافوتي كانت له مظلة تلازمه، ولا تفارقه في أكثر الأحيان، ومازالت تحميه من حر الشمس الهائجة وقسوة البرد والشتاء، وهو كان أبيض الوجه، ذا لون جميل، حتى مرت عليه وعلى مظلته تقلبات الدهر فابيضت مظلته السوداء واسود جسمه الأبيض، بل شابت مظلته وشبت همته. والقصة رائعة الفحوى تظهر صورة شخصية نشرت ضوءها على مدى الأجيال والسنين. نشأت هذه الجامعة وسط ضجات حامت حولها، واستمدت من عمق المجتمع روحها وأنفاسها، ويفعت بين الأبواق الصداحة باستحالتها وفنائها في تلك المستنقعات الحقلية، فأتت عليها سيول من الاستنكارات والاستهجانات التي تبرم صاحبها وتعقم فكرتها، لأن مسقط رأسها كانت في حقول وحلة، أرض لا تنضب فيها المياه وتنزلق فيها الأقدام، بل كانت أرضا مليئة بالحشرات، عميقة بالأوحال لا يسويها إلا التراب والحصباء، لكن الشيخ الموقر توكل على الله وأقبل بعزم فتي وفكرة مشيدة إلى هذه المهمة الهائلة، قلب يتدفق بالإيمان ولسان رطب بالقرآن، رجل تحلى بالسيرة العطرة وتنحى عن النفاق والتصنع، مع أنه شيخ في آخر أنفاسه، يمشي على عكازته، ولم يتحصل على دكتوراه من حرم الجامعات ولم يمتلك صرات الأموال والنقود لتنفيذ هذه المهمة الشاقة.
ورغم ذلك كانت خطابته المنسوجة بالقرآن والمنظومة بالأحاديث تنفذ إلى قلوب السامعين وتصل إلى أفئدة المؤمنين والتائهين في بهرج الدنيا، تعكس فيها طموحاته وتطلعاته لتشكيل شباب يواكبون الدين والدنيا، ويقفون في وجه الباطل مستميتين، وقد تفانى الشيخ في خدمته للأمة وأدار ظهره عن جميع التحرشات اللفظية وصرح قائلا: “إن هذه الجامعة بوصلة الأمة، تتجه إليها آلاف من الشبان المسلمين، يمثلون الأمة ووحدتها ويتحولون إلى بعثات دينية داخل الهند وخارجها”، وكأن الجامعة صدقت رؤيته وحققت فلسفته خلال السنين الماضية البناءة، بعثت من حرمها مجموعات من الطلبة استوطنوا جامعات إسلامية دولية، حاصلين على الدكتوراه وممارسين في الدراسات العليا، بل تولت الجامعة إدارة مئات من المدارس الإسلامية بالهند، تدرس فيها تعاليم الدين الأساسية، واستقطبت أنشطتها في المناطق التي انقرضت منها شعائر الإسلام وتلاشت فيها أصداؤه بعدما كانت صاخبة وغنية بثروات رجالها، وقسمت لها أساتذة ومدربين تحت كنفها وعلى ذمتها، ولم تفرض أي رسوم على هؤلاء الطلبة. إن مسلمي الهند في طريق عودتهم إلى التاريخ أدركوا عمق الجراح وصرخة الآلام التي نكبتهم وأدمتهم طوال السنين، وكأنهم تعرفوا على المكار وكشفوا عنه قناعه، وهم الآن عائدون من ليالي التاريخ الحالكة إلى فجر قريب ينور دربهم، فمن أقوى دلائلها ما حازت جامعة دار الهدى من الأصداء الواسعة وسط العوام شمال الهند، حيث تبنت مئات من الطلبة الأقل كفاءة والأكثر فاقة، منهم من يتذوق طعم الإيمان لأول مرة في حياته ومنهم من لم يسجد لله ولو مرة، فيهم من لا يحسن القرآن ولا يدري مبادئ الدين وكيفية الوضوء.
جنوب الهند وشمالها: تاريخ من الحب والوفاءوفي خضم التاريخ الهندي، تلوح صفحات بيضاء لمعالم خلدت ذكريات الحب والوفاء، بين شعب الشمال والجنوب، وذلك في أيام الثورة على الاستعمار، الثورة التي تفجرت في ظل الخلافة الإسلامية، وخاض المسلمون جميع هذه الحركات بكل ثبات وصمود، وتحمسوا وضحوا بأنفسهم لأجل الحرية والدين، ولكنهم تورطوا في الهجمات القاسية من قبل الاستعمار، وجرت مجازر جماعية وحفرت المقابر يوما بعد يوم، واصطخبت الأجواء بعويل الأيامى والأيتام، وضجت الشوارع بآلاف المشردين والمعذبين، وتحولت ديار مليبار إلى منطقة بدون رجال، وقد نفي أكثرهم إلى الغابات أو إلى الجزر النائية، وعاشت مليبار أوضاعا صعبة في تاريخها وحنت إلى النجاة، وقد أضنتها إجراءات الاستعمار وسلبت منها آخر أنفاسها. وفي هذه الفترة نزلت إليهم مائدة من السماء، مائدة من الأثرياء المسلمين في شمال الهند، لقد قدموا إلى مليبار بعدما قرعت أسماعهم هذه الحوادث الأليمة، وقد جلبتهم مشاعر الأخوة والتضامن، فأفاضوا سيلا من الثراء وانخرطوا في بناء ديار الأيتام وفي إسعافات الجرحى وإيواء المشردين، هكذا مُدت يد الشمال إلى الجنوب وغرست أول بذرة في مزرعة القلب، ثم جرت الأيام، وتغير مجرى التاريخ، انشقت من الهند دولة باكستان، وحدثت لأجلها صراعات في حدود الهند، وشهد العالم موسم الهجرة من الشمال إلى دولة حديثة العهد، ولكن بقي هناك شعب صامد، آخذ بنصيبه من الأرض وعارف لحقيته في الهند، ثم دارت الأحداث، وملأت في جو الدولة شعارات توحي إما باكستان أو قبرستان، وكانت أول طلقة من رصاصات العصبية والعنصرية، فأورثت المجازر والعنف والكراهية، وكان مسلمو الشمال في صراعات الوجود والبقاء، والحياة واللقمة، وقد نسوا خلالها أسس الدين والسياسة، كما خطط لهم من كان يتربص بهم خلف الستار، أجيال ليس لها أهداف ومشتتة الأفكار ومبتورة الجذور. وهنا، مد امة الجنوب يدها الحانية نحو إخوانها في شمال الهند، وقد صدمتها أخبار مبكية تغطي أمة الشمال، وترثي لحالها المفجعة، فلم تتريث في الوقوف معهم والدعم لهم، فأصبحت منابر كيرالا تدعو الأمة الإسلامية وتنادي وتستغيث لإخوانهم المسلمين المشردين في الشمال، فانتفضت الأمة قلبا وقالبا، وتنافسوا في النصرة لهم وتصدير الأموال والأدوية لهم، وهنا تشرفت الجامعة بهمتها وامتازت بحسن تدبيرها في توجيه شعوب الشمال نحو غاية مشرفة، وفي تضميد جراحاتها بمرهم التربية والتعليم، ولأجلها أسست المدارس والكليات، ونظمت الكتاتيب المهملة من جديد، ورممت المساجد وعمرت منابرها بعدما كانت معطلة تحن لرجالها وتئن من قسوة الظروف.
وهكذا سارت القطارات السباقة بين الشمال والهند، تقل أبطال المستقبل وأحلام النهضة الإسلامية، وتخرجت من حرم الجامعة جيوش الأمة القادمة، كتائب الإيمان وجبهات الدعوة، أعلام تعيد ذكريات التاريخ الإسلامي وتحقن مناطقهم الجوفاء بدروس الوعي السياسي والاهتمام الديني، وتستعيد القوى الضائعة، وكأن الجامعة عودة إلى الجذور ورجعة إلى أسمى العصور.